| 0 التعليقات ]










تعد إشكالية علاقة العمل برأس المال من أكثر الإشكاليات الاقتصادية عراقة وجدلا. لعل ماركس كان من أوائل من تناول مركزيتها في تشكل نظم اقتصادية بكاملها (=الرأسمالية)، إذ خصص لها ما يربو عن 23 سنة من حياته بحثا وتنقيبا.

يدل "رأس المال" على الموارد الناتجة عن الميراث أو تراكم الأرباح (فائض القيمة). فقد يرث المالك تركة مهمة من أبيه الهالك فتكون هي رأسماله يشتري بها وسائل الإنتاج (العقار، أدوات الإنتاج) ويدفع بها أجرة العامل ثم يستفيد من تراكمات فائض القيمة فينمي باستمرار رصيد رأسماله. وقد يكون صاحب "رأس المال" موظفا ساميا في البداية تدر وظيفته دخلا كبيرا، فيدخر جزءا منه ثم يوجهه إلى إطلاق مشاريع تجارية موازية صغيرة أو متوسطة تتراكم أرباحها إلى أن تكون المحصلة ارتفاع رصيد "رأس المال".

في كتابه الهام "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" الصادر بالفرنسية عام 2013 والمترجم إلى العربية عام 2016 والذي يقع في أزيد من 640 صفحة، يرسم الاقتصادي الفرنسي "توماس بيكيتي" مشهد الغنى والفقر واللامساواة في توزيع الدخل في العالم مستندا إلى بيانات متنوعة. تشكل الطبقة الميسورة 10% من سكان العالم؛ 2% منها مترفة جدا نتيجة استفادتها من "مواريث"، بينما نسبة 8% من السكان يمكن نعتها بالطبقة المتوسطة مصدر ثروتها هو عملها (مع تسجيل الاختلاف في تقدير دخل الطبقة المتوسطة ما بين 10000 درهم إلى 40000 درهم).

ويدور المعدل المتوسط للدخل المريح، الذي يغطي التكاليف عالميا بانبساط، في فلك 20000 درهم شهريا. مصدر 80% من هذا الدخل، بمعنى 160000 درهم، هو العمل. بينما مصدر 20% من هذا الدخل، بمعنى 4000 درهم، هو "رأس المال" سواء كان ميراثا أو مرتبطا بعوائد مشاريع اقتصادية موازية صغيرة (كفتح محل حلاقة، أو فتح دكان المواد الغذائية، أو كراء عقار... إلخ).

إذن، إذا أردنا تدقيق مدلول عدالة توزيع الثروة في اللحظة الراهنة عالميا ومحليا فمفاد ذلك هو توسيع دائرة المتمكنين من دخل شهري قدره 20000 درهم. والخطوة الأولى في ذلك هو تمكين أكبر شريحة ممكنة، بفضل سياسات اقتصادية واجتماعية قاصدة، من دخل شهري قدره 16000 درهم في مختلف الوظائف والمهن (التعليم، الهندسة، مهن الصحة، مهن العدل... إلخ).

كيف يمكن الحد من اللامساواة الفاحشة؟ والاقتراب من توزيع متوازن للثروة؟

توصل "توماس بيكيتي" الذي اشتغل على كتابه أزيد من عشر سنوات إلى خلاصتين. تتصل الخلاصة الأولى بتقوية قيمة "العمل"، وذلك بتنمية الاستثمار في التعليم والتدريب على المهارات بما يؤهل السكان لإيجاد عمل يدر دخلا يقترب من المعدل المتوسط. وترتبط الخلاصة الثانية بتخفيض قيمة "رأس المال"، وذلك عبر اعتماد سياسة ضريبية تقوم على فرض ضريبة تصاعدية على "رأس المال" (خاصة على الميراث). ويستدل بيكيتي على نجاعة هذا الخيار بتجربة ما بين الحربين الأولى والثانية حيث تم فرض هذه الضريبة لتعويض خسائر الحرب فكانت النتيجة أن تقلصت حدة اللامساواة.

كلما ارتفعت قيمة "العمل" وعوائده، ارتفعت قيم الجهد والجدية والجدارة والمعرفة والموهبة والذكاء، كان العالم أكثر عدلا. وكلما ارتفعت قيمة "رأس المال"، ارتفعت قيم التواكل والكسل وتحصيل المال بلا تعب فضلا عن سهولة ذيوع تجارة شراء الذمم وتمييع الثقافة والسياسة والاقتصاد، كان العالم لصالح قلة محظوظة تولد بملعقة من ذهب.




0 التعليقات

إرسال تعليق