| 0 التعليقات ]






بين الفينة والأخرى، نقرأ خبرا عن منع كتاب أو مصادرة محاضرة أو رفض نشر مقال أو الاعتذار عن احتضان نشاط. من يتأمل في هذه الأخبار للوهلة الأولى، يستشعر وكأن الناس في العالم يتمتعون بسرعة البديهة وقابلية نبيهة تقودهم إلى تبني المنظور الفكري الوارد في المقال أو المحاضرة او النشاط أو الكتاب. 

حقا، إن الأمر ليبدو كذلك للوهلة الأولى! يخيل للمرء كأن الجمهور المتلقي سيغير أفكاره بعد إشعار قصير، بعد اطلاعه على وجهة نظر جديدة أكثر عقلانية ومدعومة بحجج دامغة. 

للإشارة، فمنع الآراء التي تساير النغمة السائدة ليس صناعة محلية خاصة بنا بل هو سلوك عالمي يتكرر في كل البلدان. ففرنسا، مثلا، تُصادر كتاب غارودي وتُضيق على رمضان في أنشطته وتمنع القرضاوي من ولوج ترابها... إلخ. وبلدنا يمنع الطلاب من تنظيم الأنشطة والمحاضرات في الجامعة، ويمنع تداول كتب عبد السلام ياسين في المكتبات، ويصادر صدور المجلة الفلانية، وقد تجد الحزب/التنظيم الفلاني يضع "الفيتو" على الشخص الفلاني حتى لا تطأ قدماه محاضن هيئات الحزب، وقد يُحَرمَ في أوساط التنظيم تداول كتابات ما... إلخ.

ماذا يعني كل ذلك؟ هل وصلنا فعلا إلى الدرجة التي نخاف فيها على المرء أن يبدل "فكره" بمجرد الاستماع لمحاضرة أو قراءة كتاب/ مقال يحمل وجهة نظر مغايرة؟

لا أعجب كثيرا للتنظيمات التي لا تؤمن بأن الواقع (بكل اشتباكاته الاجتماعية والنفسية والجغرافية) أقوى من الأفكار، ولكن عجبي لا ينقضي بمجرد تذكري للأنظمة/التنظيمات/الهيئات/الاتجاهات التي نهلت من درس العلوم الاجتماعية ووعت جيدا أن الفرد ضعيف أمام سلطان الواقع الموضوعي، ورغم كل ذلك، تسعى إلى خنق انفاس الأفكار المخالفة خوفا من أن تشيع!

إن وصول الفرد إلى مستوى يُمَكنه من اختبار وجاهة الأفكار والرؤى والمنظورات بناء على معايير وجيهة ومرجعيات مركبة ومنطلقات عقلانية، بحيث يتمكن من التقاط الإشارات اللامعة من الكتابات/المحاضرات الحاضنة للأفكار الجديدة؛ هو أمر ــ في تقديري ــ نادر الحصول عالميا.

حسب فرضيتي، فإن الغالبية العظمى من الناس يؤمنون بأفكار معينة بسبب عوامل متضافرة، لكن نادرا ما يكون الاقتناع الصادر عن التمحيص والمقارنة بين الأفكار وفوائدها الاجتماعية على رأس هذه العوامل.

فكيف تبسط الاتجاهات الفكرية سلطانها في عالم اليوم؟

لنأخذ مثال الاتجاه الفكري الواقف وراء "عقيدة الاستهلاكية"، كيف أفلح في جعل نمط سلوك الناس في العالم يدور حول الاستهلاك بلا أفق؟

أولا، ينطلق السعاة إلى تغيير وضع فكري معين إلى تغيير نمط حياة الناس؛ نمط العيش، الوسائل الجديدة التي يستعملونها، التسهيلات التي يرفلون في نعمها... إلخ. هذه "الوسائل" المبتدعة هي التي تخلق "غايات" مبتدعة. ومعلوم أن الغايات هي الأفكار، وهكذا تفلح الدوائر "الرأسمالية" في الترويج لفكر "الاستهلاكية" بلا حدود.

إن إنتاج "وسائل" جديدة تُوظَف في مختلف مناحي الحياة وتجذب الصغير والكبير، يعد أخطر آلية لتغيير الأفكار. انظروا مثلا، إلى وسائل التواصل الاجتماعي، كم من أفكار "قديمة" كانت عند الناس حول حدود العلاقة بين الرجل والمرأة، بين الأب والابن، بين الرئيس وأعضاء نفس الهيئة؛ كلها ذهبت أدراج رياح وعبثا يحاول بعض المؤمنين بها إرجاع الناس إليها. فالواقع أقوى مليون مرة من الفكرة.

ثانيا، يعتمد نظام الحياة المعاصر على بنية خطيرة تُروج تلقائيا لنغمة أحادية. يعمل معظم الأفراد قرابة ثمان ساعات في اليوم، في عمل لا يتصل نهائيا بعالم الأفكار، فيعودون في المساء وهم في غاية الإنهاك. يستثمر كل فرد "فائض الوقت"، الذي يتمتع به قبل حلول وقت النوم، حسب ارتباطاته. وهنا يلعب اللاعبون لعبتهم؛ فالأفراد الذين لا يرتبطون باتجاه فكري أو عمل تطوعي (اجتماعي، ثقافي، سياسي... إلخ)، يكونون فريسة صناع "فائض الوقت".

في "فائض الوقت"، يذهب الأفراد إلى المقاهي، يطلعون على الجرائد الالكترونية أو الورقية، يتبادلون الأحاديث مع المعارف حول مستجدات اليوم الرتيبة، يشاهدون فيلما أو يستمعون لموسيقى، يبحثون عن حاجيات البيت من غذاء وكساء وأثاث.

انظروا كم من وقائع يمر بها الفرد، وكلها تطوي أفكارا، كم هي ثقيلة في الميزان إذا ما قيست بواقعة المرور على مقال أو النظر إلى كتاب أو الاستماع إلى محاضرة. أكيد أن "الأفكار الشفوية" المتناقلة بين الناس في العمل وفي المقهى وفي السوق وفي قصاصات الإعلام أقوى سلطة من كتاب او محاضرة أو مقال.     

  

0 التعليقات

إرسال تعليق