| 0 التعليقات ]






يثار باستمرار الحديث عن استهداف دولتنا لطريق القوة والتقدم والازدهار. لكن اليوم بات من الصعب الاستمرار في مسار التحليق في التجريد في تناول معاني "القوة" التي نريد.

في علم الاقتصاد السياسي، تقاس قيمة سلعة bien ما ببعدين؛ قيمتها الاستعمالية وقيمتها التبادلية. يبدو أن هذه الثنائية تصلح لتقريب المقصود ب"القوة" التي يفترض أن نسعى إليها. وعليه، فالدولة القوية، حسب هذا المنطلق، هي التي تنتج قيما مادية ورمزية تتمتع بالجاذبية الكافية للاستعمال والإغراء القوي للتبادل.

على مستوى القيم المادية؛ أن تكون دولة "قوية" يعني:

ــ أن تنتج منتوجات فلاحية (الحبوب، الخضر، الفواكه، اللحوم، الدواجن، الأسماك... إلخ) صحية قابلة للاستهلاك الذاتي وقادرة في نفس الوقت على الصمود في السوق التبادلية الدولية بفعل جودتها وتكلفتها الملائمة.

ــ أن تنتج منتوجات صناعية (النسيج، الطاقة، وسائل النقل، وسائل الاتصال، الأدوية... إلخ) مغرية للاستعمال الذاتي وصامدة أمام التنافس العالمي بل خليقة بكسب رهان النزال في السوق الدولية التبادلية.

ــ أن تنتج خدمات (تجارية، بنكية، الكترونية، معلوماتية، شبكة طرق، مرافق عمومية، وبنيات تحتية... إلخ) تتمتع بالجودة المطلوبة وسهولة الاستعمال اللازمة، علاوة على القابلية للتدويل والتبادل بحكم تميُزها وفرادتها.

على مستوى القيم الرمزية؛ أن تكون دولة قوية يعني:

ــ أن "تنتج" نموذجا دينيا ملهما قابلا للاحتضان والانتشار في صفوف الشعب يصالحهم مع الدنيا ومع الآخرة، وقابلا في نفس الوقت للتصدير وجذب الاهتمام وتعزيز مسار العدل والتعايش على المستوى العالمي.

ــ أن "تنتج" لغة تحظى بالاحترام والاستعمال الكبير على المستوى الداخلي من طرف الشعب، وقادرة أيضا على "السفر" إلى خارج تراب الدولة بعد اندراجها ضمن اللغات العالمية (التي يرتفع حجم الكتلة البشرية المحتضنة لها وحجم ما يتم تبادله بها من معارف وسلع وخدمات).  

ــ أن "تنتج" هوية جذابة تتجلى في العناية بالذاكرة (الأسماء والأحداث التي بصمت منعطفات التاريخ) وبالمآثر التاريخية وبالمناطق العريقة وبالفلكلور الشعبي وبالمدن العتيقة وبالنظافة وبالبنى التحتية الأساسية؛ تكون نقطة لارتكاز السياحة الداخلية ومنارة للسكان للاسترواح ونبراسا للأجيال لشحذ الهمم، وتكون في ذات الوقت قطب جذب ل"السياحة" العالمية وتحريك الاقتصاد.

ــ أن تنتج مواهب وأسماء في الفنون (الموسيقى، الرسم، المسرح، السينما... إلخ) والأدب (الشعر، القصة، الرواية... إلخ) تحظى أعمالها بالمتابعة والاحتضان على المستوى المحلي في صفوف الشعب لأنها تصوغ الوجدان، وتحوز في نفس الوقت على قلوب الملايين (إن لم يكن الملايير!) من الناس على الصعيد العالمي في مختلف الأصقاع والبقاع تشغف بتبادل هذه الأعمال.

ــ أن تنتج مواهب في "الرياضة" بمختلف ألوانها تدلف إلى أفئدة الشعب الذي خرجت من رحمه، وتفوز في المنازلات القارية والدولية وتنال شهرة عالمية؛ تتمتع بلياقة عالية وأخلاق سامقة ونزاهة مشهودة.

ــ أن تنتج "مهندسين" في عالم الاشياء من الأدمغة العاكفة على تقديم الابتكارات الجديدة من براءة اختراع (في الصناعات التكنولوجية المتطورة: الهواتف "الأذكى"، الحواسيب الآلية، المعدات الجديدة المُيَسرة، المرفهات الممتعة للناس، السيارات البيئية، الطائرات المريحة والآمنة... إلخ) إلى الكشوفات العلمية الجديدة في مختلف العلوم (الفيزيائية والطبيعية، الإنسانية والاجتماعية) التي تفتح مغالق محجوبة في عالم الكون والإنسان.

ــ أن تنتج "مهندسين" في عالم الأفكار ينحتون مقولات عميقة ومرَكزة تكثف المعاني فتلتصق في وجدان الشعب، ويتلقفها الناس حول العالم ويستشهدون بها في أحاديثهم وخطاباتهم. 

هي رهانات كثيرة تنتظرنا، طالما ندندن على شعار "القوة" و"التقدم" و"الازدهار"، لا شك أن السواعد والعزائم والهمم التي ينجبها شعبنا والتي تطويها أرضنا قادرة على النزال. ولكن، حالما تصبح إدارة "دولتنا" مُترجمة حقيقية للعقد الاجتماعي ومُعبرة بجدارة عن إرادة الشعب (=الديمقراطية) يمكن أن نتحدث عن جدول أعمال تنزيل هذه الرهانات. فجدول أعمال بهذا الحجم لن تضعه إدارة دولة مرتبكة في قراراتها وأجنحتها محكومة بآفاق شخصية تعلو على المصلحة الوطنية. وإلى ذلكم الحين، يبقى المجال مفتوحا للمبادرات الفردية الطموحة من المجتمع التي يمكنها أن تسهم في غنى قيمنا الرمزية، أما رعاية إنتاج القيم المادية فهو مؤجل لأجل غير مسمى لأنه موكول حصرا لإدارة الدولة.
 

0 التعليقات

إرسال تعليق