| 0 التعليقات ]




لا يختلف الباحثون كثيرا في اعتبار فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أحسن مرحلة ذهبية في تاريخ الإنسانية. إذ تمتعت فيها الغالبية العظمى من الكيانات والأمم بالاستقرار والازدهار. وبدت فيها أغلب الدول أقل اندفاعا في سياساتها الخارجية. ولقد امتدت هذه الفترة من 1945 إلى حدود 1970. ويطلق عليها في الأدبيات السياسية والاقتصادية "الثلاثين المجيدة" les trente glorieuses.
في العالم الأول؛ كانت الولايات المتحدة الأمريكية في غاية البهجة لأنها صارت رسميا القوة العظمى التي لا تضاهى في عالم جديد يتكلم بلغتها فقط (لغة الدولار)، مما أهلها للعب أدوار كبيرة في مشروع "مارشال" لإعادة بناء أوروبا. ونجد الدول الأوروبية، رغم كل الجراحات، تشق مسار استعادة ريادتها بثقة عالية، وتفكر في مستقبل أفضل قوامه التعاون الأوروبي وبناء السوق الأوروبية المشتركة.
في العالم الثاني؛ كان الاتحاد السوفياتي مبتهجا لأنه بدأ يحصد ثمار المخططات الاقتصادية التصنيعية وبدأ يرمق وعودها الكبيرة (اختراع أول قمر اصطناعي "سبوتنك" عام 1957). أما دول العالم الثالث فقد كانت سادرة في إشاعة أنغام قرب النصر وحلول لحظة الانعتاق من الاستعمار وتألق الحركات التحررية.
الواقع أن لحظة ما بعد الحرب لم تكن لتكون كذلك إلا لأنها عرفت على الصعيد الاقتصادي معدلات نمو قياسية في أغلب البلدان في العوالم الثلاثة (مثلا؛ مصر المنتمية إلى العالم الثالث، كانت تحقق معدل 5% بشكل دوري بل وصلت في إحدى السنوات إلى أحد أعلى المعدلات في العالم في تلك الفترة وهو 7%). كما عرفت  تلك اللحظة على الصعيد السياسي والحقوقي تعاهدا بين بلدان العالم الأول والعالم الثاني على احترام حقوق الإنسان (إعلان 1948) واحترام سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير المصير، علاوة على تأسيس منظمة الأمم المتحدة (1945) والجماعة الأوروبية للفحم والصلب (1951). أما على الصعيد الصناعي؛ فقد اللحظة شهدت طفرة تكنولوجية هامة تطورت بها وسائل الإنتاج (بفضل اختراع الترانزستور عام 1947).
بيد أن ما كان حاسما في "الفرحة" التي عمت تقريبا أرجاء العالم هو اعتماد أغلب الدول لسياسات "كينيزية"، خاصة وأن أزمة 1929 التي عرفها النظام الرأسمالي كانت من بين الأسباب الواقفة وراء اندلاع الحرب التي أودت بالملايين. هكذا، توجهت أغلب البلدان إلى المراهنة على مشاريع القطاع العام من أجل تقوية الاستهلاك وتحريك عجلة الاقتصاد.
طبعا، لم تخلُ هذه الفترة من لحظات نكدة أو من مناطق مهمشة أو من فئات مهملة أو من شعوب مظلومة. ولكن من المفيد أن نفهم أن الذين ناضلوا ضد الأوضاع السائدة فيها حينها تحسروا على إشراقاتها بعدها؛ منهم مثلا  "جوزيف ستيغليز"(مواليد 1943)  الاقتصادي المرموق الحائز على نوبل والمشهور بكتاباته المناهضة للعولمة، الذي قال في سيرته الذاتية (المنشورة في موقع جائزة نوبل): "لم أكن أعلم حينما كنا نلعن أوضاعنا وننشد الأفضل ونحن شباب في قلب عقد الستينيات أننا بصدد فترة ذهبية سنتمنى بصدق لو أنها تكررت".
من إيجابيات تلك الفترة أنها سرعت وتيرة "التمدين" ووسعت دائرة الطبقات الوسطى بفضل مجانية التعليم. فالعديد من الأسر من الطبقات الدنيا خرجت من دوامة انتظار "الغيث" لكي يتحسن الوضع، بفضل التعليم العمومي الذي كان مصعدا اجتماعيا أمينا يكفي أن يحمل معه فردا من أفراد الأسرة حتى يحدث "حراكا اجتماعيا" نوعيا la mobilité sociale.
في أوروبا، اتسعت الطبقات الوسطى بفضل "الكينزية" وتزايُد الاستجابة للمطالب الحقوقية للطبقة العمالية. بينما في العالم الثالث، اختلفت مسارات الطبقات الوسطى  ما بين الانتشار/التوسع والانبثاق/التشكُل. في مصر، مثلا، كانت الطبقات الوسطى موجودة ولكنها محدودة. ولكن، الفترة الناصرية (1954-1970) رغم المآخذ الموجهة إليها من الناحية الديمقراطية، أطلقت بالفعل مسلسلا من السياسات الاقتصادية (أبرزها الإصلاح الزراعي ومحاربة الإقطاع وتعميم التعليم) أدت إلى توسع الطبقات الوسطى أو بالأحرى إلى إعادة تشكلها من جديد.
في المغرب، لا شك أنه من الصعب الحديث عن وجود طبقات وسطى بارزة في الهيكل الاجتماعي للمجتمع قبل هذه الفترة. فغالبية المجتمع كان قرويا تقليديا زراعيا، يمكن استثناء قلة قليلة هي الشرائح التي تشتغل بالتجارة أو السمسرة في الضيعات والأراضي. حتى أن الجامعة، بمفهومها العصري، لم تتأسس إلا عام 1957 بخلاف مصر التي شهدت تأسيس الجامعة عام 1908. كيف تشكلت –إذن-  الطبقات الوسطى  في بلادنا؟
في حديث مع إحدى قريباتي المُسنات (على مشارف إطفاء شمعتها التسعين)، أوضحت لي أن بعض أبناء قريتها صاروا في وضع اجتماعي جيد (بمعنى أنه انتسب إلى الشريحة الوسطى في الطبقة الوسطى) لسبب طريف. مثلا، أحدهم (مواليد بداية الأربعينيات مثل "جوزيف ستيغليز") أخذ تعليمه في الكُتاب القرآني ودرس في بعض المدارس العتيقة، فإذا به يفاجأ بأن الدولة المستقلة تنادي عليه لأنها كانت بحاجة لأطر في هيئة التدريس يشرفون على تعليم التلاميذ في المستوى الأول ابتدائي!
هكذا، يصير صاحبنا "معلما" يحصل على راتب شهري بدون انتظار صدقات "المحسنين" –إن استمر في خط إمامة المصلين- أو انتظار "الغيث" –إن بقي في القرية كما حال إخوته الفلاحين-. يتزوج صاحبنا ويؤسس أسرة، كان أبناؤه محظوظون بالمقارنة مع أبناء عمومتهم: فقد أكملوا تعليهم وصاروا أطرا؛ موظف في البلدية، وأستاذة، ... إلخ.
تحركت في صاحبنا وشائج القرابة، فطلب من أحد إخوته الفلاحين الذين ينتظرون "الغيث" (بيد أن السنوات الأخيرة تعاقب فيها الجفاف) أن يرسل إليه أحد أبنائه (مواليد السبعينيات) لكي يحتضنه ويشرف على تعليمه، طبعا، طار الأخ طربا لطلب أخيه لأنه خلصه من عبء إضافي خاصة مع الجفاف. تمتع الابن بفضل عمه بتعليم جيد وصار بدوره معلما، يمتلك منزلا وسيارة ويدرس أبناؤه في المدارس الخاصة.
نفس القريبة حكت لي قصة أخرى؛ أحد أبناء القرية (مواليد الأربعينيات) اشتغل مبكرا بالتجارة. ولهذا نزح إلى المدينة الصغيرة القريبة من القرية واستثمر في العقار قبل أن تكون مأهولة بالسكان. وحينما هبت رياح الهجرة إلى المدينة في منتصف السبعينيات ومع بداية الثمانينيات، استفاد الرجل من نزوحه المبكر بتوفيره لرأس مال مفيد في كل المشاريع الاستثمارية الواعدة. ولهذا، اختار أبناؤه (الستينيات والسبعينيات) أن يؤسسوا وكالة للأسفار، ولم يكن من الصعب على الأب شراء الحافلات بالتدريج. أكيد، أن أحفاد الرجل يرفلون في نعم جليلة ويمكنهم أن يدرسوا حتى في التعليم العالي الخاص في المغرب أو في إحدى الدول الأجنبية.
قصة أخرى شخصية تقربنا من مشهد تشكل الطبقات الوسطى في بلادنا، كان جدي (مواليد 1929) ابن القرية يشتغل في مناجم وجدة وجرادة في الخمسينيات وبداية الستينيات، حينما حل "موغا" (في الواقع، الحراك الاجتماعي الذي تم في الجنوب بفضل "موغا" - وهو اسم أمازيغي يطلق على الأجنبي الذي ذهب إلى القرى والمداشر يبحث عن السواعد الراغبة في الهجرة- يستحق أبحاثا اجتماعية جادة) عام 1963/1964 بمناطق الجنوب أملا في استقدام اليد العاملة الرخيصة إلى فرنسا، لم يتردد جدي في الذهاب ولكنه سرعان ما عاد، إذ لم تطل مدة مكوثه في فرنسا، ومعه رأس مال كاف لفتح متجر لبيع الملابس في المدينة الصغيرة.
ترك الجد الأسرة في القرية، ولكنه استقدم معه الابن الوحيد (مواليد 1967) إلى المدينة وترك البنات للأم. استقدم الابن لكي يذهب إلى المدرسة. ربما، أصيب الجد بالملل من عملية الذهاب والإياب إلى القرية وبالاستياء من رعاية شؤون الطفل، فقرر أخيرا أن يأتي بالأسرة كلها إلى المدينة (عام 1975). طبعا، حظي الابن بتعليم عمومي معتبر، أضاف إليه تعليما موازيا في حركة اجتماعية ناشئة (انخرط فيها عام 1982). في النهاية، صار الابن منتسبا إلى الشريحة الوسطى في الطبقات الوسطى (ترجمان محلف) قادر على النهوض بأعباء أسرته بشكل جيد. كما صارت إحدى بنات الجد اللائي رأين النور في المدينة (طبيبة) والأخرى (مُجازة).
إذن، التعليم الأصيل والتجارة والهجرة إلى خارج المغرب والهجرة إلى المدن الصغيرة.. كانت من جملة العوامل التي أدت بالجيل الذي وُلد مع الحرب العالمية الثانية أو انبثق وعيه إبانها إلى فتح الطريق أمام أبنائه وأحفاده لكي ينسلكوا في سلك الطبقات الوسطى. 
جدير بالذكر، أن الهجرة إلى المدن الكبرى غير مندرجة ضمن نفس المسار لأنها كانت تابعة لسياقات تاريخية أخرى دفعتها لكي تكون في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فضاءات مزدحمة وموضعا لمنافسة ضارية مما جعل الشروط الاجتماعية فيها أصعب من البادية. ولهذا عوض أن ترتقي بجيل، كما فعلت المدن الصغيرة، رهنت وضعية أجيال متلاحقة بشروط وملابسات "دور الصفيح". 

هي ملاحظات أولية حول مسارات تشكل الطبقات الوسطى في بلادنا بعد الحرب العالمية الثانية. والمظنون أن الأسرة المنتسبة إلى الطبقات الدنيا اليوم أخلفت بفعل فاعل موعدها مع "الحراك الاجتماعي" الذي انطلق في تلك الفترة، إذ بقي القائمون على الأسرة أسرى تقلبات المناخ ينتظرون "الغيث"، فصار الاحفاد يدفعون الثمن غاليا، بعدما تعقدت الأوضاع أكثر وتدهورت القدرة الشرائية حتى للشريحة الدنيا من الطبقات الوسطى.






0 التعليقات

إرسال تعليق