| 0 التعليقات ]






كان الشهيد علي شريعتي يرمي إلى توضيح التمايز بين فكر مرحلتين هامتين، هما: مرحلة الاستضعاف وبذر بذور الثورة والاشتعال بالحركة والحيوية، ومرحلة أخرى هي مرحلة إرساء المؤسسات والبناء والاستقرار. والعجيب أن فكره، هو نفسه رحمه الله، يندرج ضمن المرحلة الأولى؛ فبفضل كلماته الجياشة وأفكاره المشحونة وعباراته المُتقدة قامت الثورة في إيران على طغيان عات لسنوات. فبعد أن تم اغتياله في سنة 1977، لقيت أفكاره الرواج بعدما لقيت محاضراته في حسينية الإرشاد سابقا واسع الإقبال، فصار بذلك رمزا ملهما للثوار للانتفاض في وجه الطغيان والاستبداد. لهذا تجد كتاباته اليوم قبولا واسعا بين هواة العدل والمتحمسين للثورة وكل المتسائلين عن العدالة؛ بدون إدراك لهذه الفكرة المحورية التي تنير سبُل وضع الأفكار في سياقاتها.
إن التجربة النبوية عاكسة بجلاء لهذا التقسيم وناطقة بعناية بهذه المراحل. فكل رواة السيرة ميزوا بين مرحلتين لهما دلالات عريضة: المرحلة الأولى؛ هي المرحلة المكية، وهي مرحلة الاستضعاف، لكنها مرحلة تشييد أركان العقيدة وهدم المخيال الذي يقبل التوجه بالقُربات والطاعات للأوثان، إنها مرحلة الانتفاضة، مرحلة التأهب للثورة، مرحلة الإعداد والاستعداد للبناء والاستقرار، إنها مرحلة تتحفز فيها روحية الإنسان، إنها مرحلة التمكين للأيديولوجيا الجديدة. بينما المرحلة الثانية؛ هي مرحلة العكوف على بناء المؤسسات وإعادة ترميم العلاقات وصيانة الاستقرار. والمتأمل الحصيف في المرحلة المدنية، التي دامت أقل من الأولى، لا تخفى عليه مساعي المصطفى لتوطيد دعائم الاستقرار؛ فكل ما يطلق عليه في السيرة ب"الغزوات" كان أساسا اتجاها لدرء المُنغصات والمشوشات التي تتغيى للمسلمين حياة مضطربة أبدا لا مكان فيه لطيب الخاطر وصفاء الفكر والتأملات المتجردة من الردود والسياقات والملابسات.   
إن نشوء الحركات الاجتماعية والمخاضات التي تمُر منها والنجاحات التي تحققها محكومة كلها بهذا التقسيم المرحلي. في الحالة المغربية، بعد الاستقلال، يمكن اعتبار أهم الحركات الاجتماعية هي: الحركة الاتحادية، الحركة الأمازيغية والحركة الإسلامية. وقد يعترض معترض على إدراج الحركة الاتحادية، باعتبارها حركة سياسية فحسب. إن الدارس النابه لا شك أنه سيجد أن الحركة الاتحادية؛ حركة أكثر من سياسية وإن كان عنوانها سياسي فهي حركة ذات أذرع جمعوية هامة ومصحوبة بمشاريع ثقافية طموحة بل عملاقة وذات عمق شعبي كبير.
إن الحركة الاتحادية؛ عاشت مدة طويلة من التشريد والاستضعاف والاضطهاد دامت قُرابة 40 سنة (من 1959 إلى 1998)، لكن فترة هذه النكسات على المستوى السياسي كانت زاخرة بالعطاء الفكري (الجابري، العروي، فتح الله ولعلو، الحبابي، سبيلا، عبد اللطيف، حميش...) وبإنتاج العديد من الأوراق التصورية الاستثنائية (الاختيار الثوري للشهيد المهدي بنبركة، التقرير المذهبي وكتابات هامة للرئيس عبد الله إبراهيم، التقرير الإيديولوجي الذي حرره المفكر الفذ محمد عابد الجابري) كما شهدت تغلغلا لافتا في أوساط الفئات الشعبية. وبعدها، فترت روحية الاتحاديين وخمدت نضالية المناضلين وخفتت جاهزية السابقين، لأن المرحلة الجديدة كانت تتطلب أسئلة جديدة وأجوبة متجددة تكون في مستوى رهانات غير مسبوقة، وفي المرحلة الجديدة ينبغي استلهام روح المرحلة الأولى فقط: روح الصدق والتضحية والإيثار والبذل والوطنية والعطاء،  وينبغي أيضا تجديد الصلة بالمتن الإيديولوجي بإعادة النظر فيه وتكرار التأمل في أفُقه وصلاحيته.
إن الحركة الأمازيغية، كأي حركة اجتماعية متجذرة في تربة الوطن، عاشت وتعيش نفس الحكاية. إنها بدأت بإمكانات محتشمة تُبشر برؤية جديدة للمسألة الثقافية وراحت تتوسل لذلك كل وسيلة؛ اقتحمت الإعلام الورقي منذ أواسط السبعينات بمجلة (أراتن)، وولجت عالم الفن والمسرحيات (بمسرحية "ؤسان صميدنين"، (الأيام الباردة)، للأستاذ الكبير الصافي مومن علي)، كما طرقت باب الموسيقى وأحدثت تطويرا مفصليا في الموسيقى الأمازيغية تطلعت بها إلى مستوى العصر، وناضل مناضلوها من أجل نقل الثقافة الأمازيغية المبعثرة في أفواه الناس إلى بطون الكتب والمجلات "ولإعطاء فكرة على نموذج الصعوبات التي كنا نعانيها في جمع هذا التراث الشفاهي من أفواه الناس، يقول القيدوم  الأستاذ إبراهيم أخياط، فقد اضطررت يوما وفي العطلة الصيفية لسنة 1973 أن أسجل من الأشعار الخاصة بواقعة أيت باها ضد الاستعمار الفرنسي، ودلوني على شاعر بقبيلة أيت باحمان.. فجهز لي أبي بغلته لألتحق بهذا الشاعر المسن، وقال لي أبي: أنت تعرف الطريق حتى واحة "تاركا ن توشكا"، وعند وصولك إليها؛ اطلب أحدا ليخرجك منها.. غير أن بعد خروجي من الواحة، كان الجو حارا وكلما صادفت البغلة طريقا إلا وسلكته، لأنها ترغب في الاستراحة.. (إبراهيم أخياط، النهضة الأمازيغية كما عشت ميلادها وتطورها، ص:51-52). إنها مرحلة الإعداد والتبشير والاستعداد والاحتجاج؛ كانت إبانها الحركة الأمازيغية، في البداية، تتطلع إلى اعتراف محتشم بصوتها، وراحت بعد التوسع والانتشار ترمق الحماية الدستورية للأمازيغية بل وترسيمها. جاءت بشائر المرحلة الجديدة مُلَوحة بإنشاء معهد ملكي يعكف على الجانب العلمي والبيداغوجي لتدريس الأمازيغية؛ ما يعني أن مرحلة تشقيق الكلام انتهت وجاء عهد البناء بما يتطلبه من العمل الدؤوب والجاد، وجاء الترسيم، وكانت القناة... لكن المؤكد أن نضالية الحركة الأمازيغية خارت وأن عزائمها انبطحت؛ ليست مرآة العزيمة ولا النضالية  كائنة في المظاهرات والمقالات (وإن كانت مطلوبة)، إنما هي في التفكير الجاد والعمل اليومي المُضني النابع من الغيرة الصادقة على الحفاظ على إرث الأمازيغية وتداولها الاجتماعي (عبر التعليم، والإعلام، بالدرجة الأولى) خاصة وأن التراجع في عدد الناطقين بالأمازيغية لا يتناسب إطلاقا مع الجهود والنضالات التي قامت الحركة الأمازيغية بتفعيلها على مدار 50 سنة (ففي إحصاء أُجري بعد الاستقلال ببضع سنوات كان عدد الناطقين بالأمازيغية حوالي 85 بالمائة من السكان المغاربة؛ وفي إحصاء 2004 تدحرج الرقم إلى 28 بالمائة، وفي إحصاء 2014 تراجع أيضا: ما يعني أن الأمازيغية مهددة بالانقراض الشفهي، وهنا سيصبح قرار الترسيم بمثابة لعبة صبيان لتزجية الوقت ولا معنى لكل هذا الرصيد، هنا الخطورة إذن، لأنه حينما لا تجد الناس يتحدثون باللغة فكيف سيتذوقون الإبداعات التي تحملها والفنون المصبوغة بصبغتها وكيف سيتابعون إعلامها وكيف تريد أن يتشجعوا على تعلمها إن كان الوسط الاجتماعي جاهلا لها، كيف؟).
نأتي إلى الحركة الإسلامية، هي متأخرة نسبيا في النشأة، وبدورها تمر من ذات المرحلتين. ففي الوقت الذي صعدت فيه أسهم الحركة الاتحادية كانت الحركة الإسلامية تتعرض ل"إرهاب" فكري مخزي من أطراف عديدة وتُنعت بنعوت قدحية شتى. عاشت هي الأخرى استضعافا وتنكيلا ومَضايقات –ومازال بعضها مستمرا إلى اليوم-. وبالمقابل كانت تعيش في "السماء" على مستوى الأحلام والتصورات، كان يُصور لها أنها جمعت شتات الخير أينما كان، وأنها "البديل المنتظر" لحل أزمات الروح بل أزمات الدنيا والسياسة والاقتصاد.. واستندت في هذا إلى إرث فكري متناثر في ربوع العالم العربي؛ حاولت تنقيحته وتبيئته فيما بعد. لكن، أغلب هذا الإرث، كان "معرفة سياقية" كما قال الدكتور امحمد جبرون في كتابه الهام (مفهوم الدولة الإسلامية)، تنظر إلى المشكلات الشديدة التعقيد والتركيب على أنها بسيطة أيما بساطة، لا يكاد ينفلت من ردود الأفعال العاطفية المحكومة بايدولوجيا (الإسلام منهج حياة، ونظام شامل، وحل لكل شيء). وجد جزء رئيس من أجزاء الحركة الإسلامية نفسه في اشتباك مع الشأن العام التدبيري فإذا به ينزاح نحو نحو براغماتية تبريرية واضحة في إيجاد الصلة بين الفكر والممارسة. فالسؤال الهام الذي تطرحه الممارسة يوما بعد يوم: ما هي الإضافة التي سيضيفها الدين في الممارسة السياسية، إذا كنا نتحدث عن مرجعية إسلامية تؤطر سلوكنا السياسي؟ أما إذا كان الحزب، سليل الحركة الإسلامية، يطير  طربا لنزاهته ونظافة يد أعضائه والتزامهم بالصدق والصراحة والنأي عن الرشوة والفساد.. فهذه القيم الأخلاقية كانت قوية بشدة عند أطر الحركة الاتحادية –دون أن يُكثروا من الحديث عن المرجعية الإسلامية- وربما اندثرت الآن، لكنها لم تندثر لأن الاتحاديين ليسوا "إسلاميين" يتحدثون عن مرجعية إسلامية، بل تلاشت لكون بعض الاتحاديين خانوا مبادئهم الاتحادية الأولى، خانوا القيم والأفكار والأشواق التي اجتمعوا عليها وهي أشواق إنسانية تنويرية سامقة كانت تدفعهم لحمل لواء الدعوة إلى تخليق الحياة السياسية. أضف إلى هذا، التجربة الغربية، فلا يشك أحد في شيوع قيم سامية تؤطر العلاقات بين المواطنين والمسؤولين وبين المواطنين فيما بينهم: فيها الاحترام، النزاهة، عدم خيانة الأمانة، الصدق، احترام الوقت والمواعيد، القيام بالواجب، ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ كل هذا بدون باستدعاء مرجعية إسلامية أو غير إسلامية؛ فهذه قيم تؤكد الخبرة الإنسانية أنها كونية لا اختلاف على صلاحها. وإذا كان الأمر هكذا، فحديث "المرجعية الإسلامية" مجرد دثار -كما يقول خصوم الحركة الإسلامية- لاستمالة أصوات الناخبين (أي استغلال غير مباشر للدين في السياسة)؛ ومن الأفضل من باب الالتزام الأخلاقي أن يُطلق على الحزب (حزب سياسي مدني ديمقراطي بمرجعية قيم المُواطنة). لهذا فالسؤال هو: ما الإضافة التي تقدمها المرجعية الإسلامية غير النكهة الأخلاقية التي تعد أصلا كونية في المجال العام؟
إن هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يكون مدخلا عند النُظار في الحركة الإسلامية للكف عن براغماتية غير مجدية على المدى المتوسط، كما ينبغي أن يكون منطلقا لإعادة النظر في عقد الولادة إن كان يحتاج لتصحيح (فهذه تجارب بشرية محدودة في نهاية المطاف)، كما ينبغي أن يكون نقطة لانطلاق فكر المرحلة الجديدة، مرحلة البناء والاستقرار والتدبير والتعامل مع المشكلات الحقيقية نظرا وعملا. وكل هذا لن يتحقق إلا بالتأمل العميق في المتن المؤسس والزاد الأول. كل هذا واجب لتستمر شعلة الحركة الإسلامية وتضيء الوطن وتكون سببا حقا في تطويره وتحديثه بنياته وتكون نبراسا لخدمة المصالح الروحية للمواطنين؛ حتى لا يؤول مصيرها إلى مصير الحركة الاتحادية والحركة الاستقلالية قبلها والحركة الامازيغية (التي توجد في مفترق الطرق)، وهذا المصير محتمل بشدة. فالتاريخ يسحق من لا يقرأه جيدا.
إن الأستاذ محمد حسين هيكل انتبه لنقطة هامة في المنعطف الذي عرفته التجربة النبوية، أي (الهجرة)، لما وقف على سؤال لماذا أصلا الهجرة؛ لماذا بعيدا عن هدف الاستقواء بالمسلمين والناي عن بطش قريش وتامين الدعوة؛ ماذا وراء كل هذا؟ ما هي القيمة المُضافة للتدين في هذه المرحلة الجديدة؟
"وإذا كان الإيمان أقوى سند يجعلنا نستهين بكل شيء ونضحي عن طيب خاطر في سبيله بالمال والراحة والحرية والحياة. وإذا كان الأذى من طبعه أن يزيد الإيمان استعارا؛ فإن في استمرار الأذى والتضحية ما يشغل المؤمن عن دقة التأمل التي تزيد في أفق المؤمن سعة، وفي إدراكه قوة وعمقا. وقد أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذين اتبعوه من قبل أن يهاجروا إلى الحبشة المسيحية، وكان بها ملك لا يُظلم عنده أحد؛ فأولى بالمسلمين أن يهاجروا إلى يثرب وأن يتقووا بأصحابهم المسلمين فيها، وأن يتآزروا بذلك على دفع ما يمكن أن يصيبهم من شر؛ ليكون لهم بذلك من الحرية في تأمل دينهم والجهر به وإعلاء كلمته، كما يكفل لهم نجاح الدعوة إليه؛ دعوة لا تعرف الإكراه، بل أساسها الرفق والإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن". (محمد حسين هيكل. حياة محمد. دار المعارف. الطبعة العشرون. ص:172-173)
هكذا، كان المسلمون  يحتاجون إلى مرحلة جديدة فيها استقرار نفسي والتقاط للأنفاس للتأمل أولا وقبل كل شيء في الدين الذي آمنوا به. فالعذابات التي نالوها لم تدعهم ليفكروا بتأن –خارج العاطفة الملتهبة- في ماهية الدين الذي انتسبوا إليه. وعلى هذا المنوال، نفترض أن من أوكد الواجبات على كل سالك مسلك المرحلة الثانية؛ هو  التأمل بعمق وهدوء في المحرك (الإيديولوجي) الذي حركه طيلة المرحلة الأولى وكان سببا في وصوله إلى ما وصل إليه.
لهذا؛ فالحركة الإسلامية، في خضم هذه المرحلة الجديدة مدعوة قبل كل شيء إلى التأمل في مقولاتها كلها على ضوء الواقع الذي احتكت به بعد معاشرة الشأن العام لأزيد من أربع سنوات. فما ذكرناه عن المرجعية بشكل مثير هو مثال واحد، أما إعادة النظر فينبغي أن تنسحب على كل شيء. ففكرنا اليوم يتأرجح بين مرحلتين: إما أن نستبق جرس التاريخ، لنكون في الموعد، وإما أن ننتظر التاريخ لينطق بحكمه علينا ويأتي من يخلُفنا ونبقى كالاتحاديين مثلا بلا قضية حقيقية سوى الهذيان حول (القبلات، الشذوذ..) بعد أن كانوا في طليعة القوى التقدمية الديمقراطية الوطنية الأصيلة.
وفي الأخير، ينبغي أن نفهم أن فكرنا يعيش بين مرحلتين حتى لا نضيع جميعا ويضيع الوطن.



0 التعليقات

إرسال تعليق