| 0 التعليقات ]





خلق الله جل في علاه بني آدم لأداء أعباء الاستخلاف وتعزيز توبة آدم عليه السلام. وليس عجيبا أن أي خليفة هو قائم بمهام المستخلف؛ يحقق مراده ويُشيع القيم التي يشاء أن تكون عقدا للاستخلاف. ولما كانت المشيئة الإلهية قد اختارت آدم وبنيه للاستئمان على أمانة الاستخلاف،  فإن دورهم ينبغي أن يدور حول تحقيق مُراد الله فيها والكد من أجل إشاعة القيم والمعاني التي يميل إليها الباري سبحانه وتعالى.
وثمة في الحكاية عنصر جديد، هو كون الخليفة -هذه المرة- هو الإنسان. وما أدراك ما الإنسان، الذي يحمل في تكوينه أصولا من روح الإله جل في علاه.  ما أدراك ما الإنسان الذي يستعصي على التنميط والقولبة وميكانيزم تشغيل الآلات. ما أدراك ما الإنسان الذي تمرد منذ اليوم الأول على توجيه من رب الأرباب. ما أدراك ما الإنسان الذي سجدت له الملائكة المُصممة وفق الطاعة ليل نهار.
لهذا، إذن، لم يشأ المستخلف جل في علاه أن يحدد بجلاء لخليفته المُراد من حمل أمانة الاستخلاف والانطلاق في ملكوت خلاب في عمر لا يكاد يتجاوز عشرات السنوات. لم يشأ الباري تقديرا لطبيعة الإنسان أن يمنحه الحقيقة ناجزة. لم يُرد جل في علاه أن يقول له: إن المعاني التي أريد هي واحد واثنان.  بل فعل تبارك في عُلاه فعلا آخر؛ إذ زوده بمَلكة التفكير والتأمل والتعقل والإدراك ليستضيء بها في رحلة البحث عن معاني الاستخلاف ومُراد رب الأرباب. وأعانه في فترة طفولة العقل والفكر بإرسال الرسل والأصفياء لتقريب المُراد من أفهام الناس.
ولكون النبوة قد تم ختمها، كما يقول فيلسوف الإسلام "محمد إقبال"، فإن في ذلك إيذانا بحلول موعد كفاية عقل الإنسان للاقتراب من كبرى اليقينيات وفتح أعقد الألغاز وتناول أعمق الأسرار. إن مولد الإسلام، هو مولد العقل الاستدلالي.. الإنسان لكي يُحصل كمال معرفته بنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو. (محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، سلسلة معالم الحداثة، دار الجنوب، تونس، 2006، ص:133)
يؤرخ المؤرخون للتأشير على الفواصل القائمة ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ بحدث اختراع الكتابة دلالة على عظمة الزلزال الذي أصاب البشرية بفعل هذا الاختراع.
لأن الكتابة خزان لكل ما راكمه الإنسان في سبيل الاقتراب من معرفة الحقيقة والاقتراب من مُراد الله في هذا العالم البديع. تطورت المكتوبات وصارت مأوى لكل الجهود  الإنسانية الساعية لتقليب النظر في الأسئلة العظمى الثقيلة. فكلما تلمح الإنسان معنى يُجلي ظواهر عالم الآفاق (الطبيعة) والأنفس، إلا وسارع بتدوينه، ليجده من يأتي بعده، حتى لا يبدأ من الصفر، ليضيف إليه تأملات عميقة وأكثر غورا.
هكذا، إذن، ظهرت صناعة الكتاب. وهكذا، أيضا، صارت قراءة هذه الكتب شرطا لازما لاكتمال إنسانية الإنسان. ولا عجب، بعد هذا، أن نجد أول آية في كتاب الله الحكيم، كانت دعوة للقراءة وتصفح الأوراق والتصورات المسبوقة عن العالمين.
ومن هنا، نجد أن الإنسان لا ينال كرامته الموهوبة من مستخلفه (ولقد كرمنا بني آدم)؛ إلا بعد أن يقرأ ويكون قارئا. إن صفة الإكرام لم يُقرنها الباري به سوى بعد حديثه عن القراءة. إن المُكرمون هم القراء. (اقرأ وربك الأكرم). أي اقرأ لتكون إنسانا ويحق لك السؤال عن الكرامة. أما أن تطالب بالكرامة وأنت هائم في ظلام الجهل وبلادة الحس والألفة الغافلة؛ فذاك ضرب من ضروب التخريف وأضغاث الأحلام.
إن القراءة واجب على كل إنسان كي يكون إنسانا بحق. إنها ليست هواية، كما يُشاع، أو لونا من ألوان الترف وتسلية الوقت والقضاء على الفراغ. إنها ليست حصانا يُركب للرد على الأغيار. إنها منبع النور يحمل الإنسان على الاتصال بذخائر كل الناس ومعاناتهم وكبدهم في سبيل البحث عن المعنى وجدوى الوجود في هذا المبنى (العالم). إن القراءة اختبار للملكات والقدرات الخاصة بجنس الإنسان أي التأمل والتفكير والتعقل والمقارنة وإثارة السؤال.
لا يجب أن نقول: تعالوا نقرأ أقوال الآخرين لنعرف ماذا يقولون، وبماذا يفكرون، لنتمكن من الرد عليهم بشكل أفضل. لنقل: تعالوا نتعرف إلى الحق، لنعرف أنفسنا بشكل أفضل، ولنبتكر أفكارا جديدة، ونكشف أسرارا جديدة، لنرتفع في معرفة ذواتنا، ونعرف أين توقفنا، وماذا نقول، لنعيد صقل أفكارنا وجلاء فهمنا. الجميع يحتاجون بعضهم إلى بعض؛ كلنا نزرع ونتبادل الحصاد. (عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، دار الجديد: بيروت، الطبعة الثانية، 2010، ص:94-95)

 غاية الكلام، إن القراءة واجب على كل إنسان. وإن عملية حث الناس على القراءة لن تُفلح بتسليط الأضواء على الفوائد المعدودة المستفادة منها (كاللغة والبيان، والقدرة على الرد على الخصوم من الأغيار والأعداء). إنما منطلق الفلاح هو إثارة مسألة القراءة باعتبارها قضية وجودية بدونها يصير الإنسان عنوانا لنص فارغ من المضمون والمعاني والغايات!


0 التعليقات

إرسال تعليق