| 0 التعليقات ]



يعيش الإنسان جدلا مستمرا: بين "الواقع" و"الواجب"، بين "ما هو كائن" و"ما ينبغي أن يكون"،  بين "المصالح" و"المبادئ" ، بين "المنفعة" و"القيم"، بين "الغنيمة" و"العقيدة"، بين "الطبيعة" و"الثقافة"  ... إلخ. قدَرُه أن يكون هذا الجدل محتدما ودائما. قدره أن بنية تكوينه مزدوجة؛ يشده بُعدها الطيني المادي الطبيعي إلى "الواقع" بكل حمولاته المنحدرة، وتعيده الإشراقة الروحية العميقة إلى الآفاق والمعالي الرحبة.
ويتخذ "الواجب الإنساني" عناوين متعددة: الشريعة، الإصلاح، الديمقراطية، الحرية، الكرامة، العدل، النظام، الوفاء، العفة ... إلخ، تختلف حسب اختيارات الإنسان وتحيزاته الوجدانية والمعرفية. بينما يلح "الواقع الطبيعي" على طبيعة الإنسان الطينية الضاغطة التي لا تفارق طبائع الكائنات التي تعيش في الطبيعة المفتوحة: الاستماتة من أجل "الغذاء" بأي ثمن، ممارسة "الجنس" بلا معيار، اقتراف الجرائم في حق الناس بلا ضابط من ظلم وعنف لفظي أو مادي، التوحش والطغيان والاستئساد ... إلخ.
غالبا ما ينصرف "الواجب" إلى مسائل معنوية داخلية جوانية غير محسوسة مثل: الدين، الحرية، الكرامة، التضحية ... إلخ. بينما يتجه "الواقع" صوب فوائد ملموسة من ناحية "اللذة": الغذاء، الجنس، السلطة (التحكم).
يعاني الإنسان في الحياة بحثا عن التوازن بين الوفاء للواجب والاستجابة المشروعة للواقع. ومن الوسائل الكفيلة بجعله يرتفع عن "الواقع" وينجذب نحو "الواجب": الانتماء إلى الحركات الاجتماعية.
كل الحركات والتيارات والأحزاب والتنظيمات والتوجهات التي تنبثق من رحم الناس (=المجتمع) في أي بقعة من بقع الدنيا، والتي لم تُفرض من جهات "فوقية" ولم تخضع لإملاءات "عليا" في نشأتها، لا يمكن أن تكون إلا ملتقى لحماية ورعاية "الواجب"، أي واجب، لأن الناس لا يمكن أن يلتئموا هكذا بدون توجيه معين إلا إذا أحسوا بأن هناك خطرا محدقا ب"إنسانيتهم" من اللازم القيام بخطوات عملية لمحاولة صيانتها.  
ولكن الحاصل هو أن أصحاب "المصالح" الكبرى و"اللوبيات" النافذة محليا وعالميا يحاولون دائما اختراق أي تجمع شعبي أو أي نسيج اجتماعي بهدف توظيفه في معارك "قذرة" وذلك لتزييف وعي الناس وتفجير حروب هامشية صغيرة وأفقية بين التشكيلات المختلفة النابعة من رحم المجتمع والتي وُجدت كلها لخدمة عقائد ومبادئ وقيم مختلفة تصب في خدمة إنسانية الإنسان (دينا، ولغة، وحرية، وكرامة ... إلخ).
 وهي استراتيجية مكشوفة لإلهاء الناس عن المعركة الكبرى في الحياة؛ أي محاولة الوفاء ـ قدر المستطاع ـ للواجب الإنساني. والطريق إلى ذلك معروف وهو: استمالة مكونات داخل ذلك التجمع البشري (=الحركةالاجتماعية/الحزب السياسي) وإغواؤها وإغراؤها ب"غنائم" و"مصالح" حتى تقوم بأدوار أخرى تشوش بطريقة ذكية على الوظيفة الاساس التي خُلق من أجلها التجمع البشري.
لهذا إذا عدنا إلى الاتجاه العام للتنظيمات في زمن ولادتها نجد أنها بالفعل لم تأت إلا لخدمة قضية عادلة، وقد يحدث أن تكون محاميا فاشلا لها. ولكن معظم الحركات الاجتماعية، على اختلاف ألوانها، تعتبر محضنا خصبا للناس الذين يحاولون الوفاء "الواجب". وقد يحدث أن يكون التطرف سيد الموقف، وهو الغالب في بدايات الحركات، حيث يكون الفرد مشحونا بفكرة "خدمة الواجب" فيغالي في استعداء "الواقع" و"استبعاده" من جملة الحسابات، رغم أن الواقع ملازم للإنسان لأنه جزء من بنية تكوينه المزدوجة.  
إن الحركات الاجتماعية التي تعانق قضية مبدئية من القضايا المتصلة بالناس (الدين، اللغة، الكرامة، العدالة ... إلخ) هي مدارس لمساعدة الفرد على الوفاء ب"واجب" من "الواجبات" والسمو قليلا عن الواقع الطبيعي الذي يصر باستمرار على جذب الإنسان إلى الاكتفاء ب: المهنة ذات الدخل المريح فقط، والزوجة الحسناء فقط؛ لتغطية مطالب الجسد (غذاء وجنسا) في أفق تربية الأبناء على الاندماج في نفس المنظومة والسعي نحو التماهي مع "الواقع" والاستجابة لذات المطالب فقط.   
إن أمراض الحركات الاجتماعية والتجمعات البشرية معروفة ومشتركة وأبرز عنوان لها هو الانغلاق. ولكن أمام هجمة "الواقع" و"الطبيعة" و"المادة" و"الرخاوة" و"الخمول" ليس أمام الفرد إلا البحث عن وسائل تخفف من وطأة هذا الواقع وتقذف به في مسار خدمة "الواجب"؛ والانتساب إلى هموم إحدى الحركات الاجتماعية، على مساوئها، أفضل من الانتساب إلى هموم الواقع فقط.
على كل حال، هذا مقترح أثبت التاريخ جدوائيته نسبيا؛ الحركات الاجتماعية تساعد الفرد على تحريك معادلة "الواقع" و"الواجب"، بالتأكيد لا يمكن لها أن تقوم بموازنة معادلة صعبة من هذا الطراز، معادلة تختزل قصة معاناة الإنسان على الأرض.

بكلمة، الانتساب إلى حركة اجتماعية وسيلة، تنضاف إلى وسائل أخرى أهمها "القراءة"، تُقرب الإنسان من هموم "الواجب" بعدما غرق في هموم "الواقع".

0 التعليقات

إرسال تعليق