| 0 التعليقات ]



في حوار صريح مع قناة أبو ظبي، على إثر تتويجه بشخصية العام الثقافية، أفصح الدكتور عبد الله العروي، أو المثقف العربي  الحداثي رقم 1 كما يحلو لبعض متتبعيه أن يلقبوه، عن جملة من الخلاصات الفكرية المبثوثة عبر كتبه العامرة، لعل أهمها:
 » الحداثة المادية؛ أي المتجلية في عالم المواصلات والاتصالات ... الكل يتفق مع وجودها وأهميتها بالنسبة لمجالنا التداولي. ولكن "الحداثة الوجدانية"؛ أي التي تختزن النظرة إلى الدين والعلم والإنسان والطبيعة والأخلاق والمشاعر والحياة ...، مازالت مرفوضة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل بالإمكان تحصيل أسباب الحداثة المادية نفسها بدون امتلاك الإطار الفكري والذهنية التي صنعتها أي باختصار بدون الانغمار في بحر الحداثة الوجدانية «. يجيب الدكتور العروي قائلا: أشك في ذلك.
للإشارة، الحداثة المادية، ليست شيئا آخر غير ما يتحدث عنه السياسيون والمنتخبون والمواطنون من أهدافنا المشتركة التي تهُم مصيرنا الجمعي، تحت عنوان: التقدم، الازدهار، التنمية ... إلخ. 
يورد الدكتور العروي مثالا دالا بالنسبة لمجالنا التداولي، إنه تركيا. يومئ في حديثه إلى أن أسباب النهضة التركية تعود بالأساس  إلى تثبيت أركان الحداثة الوجدانية، ولو بشكل قسري، مع تركيا الكمالية.
فعلا، المثال الذي أورده العروي سيكون صادما للغاية بالنسبة لكثيرين. فتركيا الكمالية تعني: الحداثة على ظهر الدبابة! كانت تونس البورقيبية، على الأقل، شبيهة بالمثال السابق، ولكن التونسيين عادوا بخفي حنين من تلك التجربة، وامتلأت الزنازين بالمواطنين!  ولكن مهلا! فزرع أتاتورك "الوجداني" لم يحن حصاده إلا بعد وفاته بعقود وعقود. وهو ما لم يحصل بعد في حالة تونس.
طبعا، قد تكون تركيا المثال الوحيد الذي انطلق إلى "التقدم" من أضيق الأبواب: التحديث الوجداني القسري. وإلا فإن التجربة الأولى في النهوض، أوروبا، قامت بتحديث وجداني تدريجي، اضطلع به جيش من المثقفين والأدباء على مدار عقود بل قرون!
فلا غرو، إذن، في أن نجد الدكتور عبد الله العروي يفصح مجددا في حواره الأخير عن تحميله مسؤولية تقدم أو تعثر التحديث للمثقفين. إنه لا يلوم المسؤولين (الدولة)، لأنهم في نظره يتصرفون تحت إكراهات، وإنما يوجه اللوم لحملة الأقلام والأوراق بحرية تامة: إنهم المثقفون! 
إن هذا النقاش يختصر مشروع الدكتور عبد الله العروي، بل يكثف كل أزماتنا اليوم.
إن التقدم لا يشترط سوى قيام بنيان فيه الأرضية والطابق السفلي فقط:
ـ الأرضية: هي بناء الإنسان (=الحداثة الوجدانية، حسب العروي).
ـ الطابق السفلي: هو بناء العمران (=الحداثة المادية).
إن الحداثة المادية أو التنمية، التي ليست سوى العمران، تحتاج إلى فُرش وأرضية ووعاء لتكون قاصدة ومؤسسة وراسخة: إنه ورش بناء الإنسان الحامل لذهنية متوقدة نافذة إلى العمران الذي يستكمل شروط العصر ويخدم بانيه، أي الإنسان!
الأستاذ العروي يطرح أسئلة جوهرية عميقة ودقيقة حول محتوى ومضمون ورش بناء الإنسان، وينحاز مستنيرا بتجربته وخبرته إلى المحتوى الوجداني الحداثي. قد يختلف معه من له خبرة أخرى أثمرت نظرة مغايرة إلى طبيعة وعاء الحداثة المادية.
لكننا نحن اليوم شاردون عن السؤال أصلا، بله عن الجواب! وتلك طامة الطوام!
إن عناوين السياسة كلها إذا تجلت كما ينبغي، أي: إذا تشكلت حكومة نابعة من إرادة الشعب، وكانت السلط مفصولة ومتوازنة، وكان مبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة" سيد الموقف، وكان القضاء نزيها، وكانت الصحافة سلطة رابعة في الحقيقة لا في المجاز فقط، وكان الحريات مكفولة ... إلخ. سيقل الفساد الذي كان يستقوي بالاستبداد، وسننوفر المال العام لنقوم ببناء المستشفيات الكافية وتوفير الادوية والمعدات المطلوبة، وتغطية كافة المداشر والقرى بالمدارس والثانويات، وبناء الأحياء الجامعية الإضافية ... إلخ.
كل هذا جميل ومنشود، ولكن كلما قيل يندرج ضمن ورش بناء العمران. إذا تحقق كل ذلك في غياب الإنسان، فلن نكون أفضل من الإمارات من حيث العمارات!
قد يقول قائل: إن السياسة تتصل كذلك بالتعليم والإعلام والمجالس العلمية وخطبة الجمعة، وهي آليات لصناعة الإنسان. طبعا نتفق، ولكن من كان غافلا عن الاهتمام بمضمون التدين المطلوب (ورش الإصلاح الديني) وبمحتوى الثقافة المتنورة (ورش الإصلاح الثقافي)، هل يمكن أن يقدم منتوجا مغايرا من حيث بناء الإنسان!
إن صناعة الإنسان (وجدانيا، دينيا وثقافيا) هو ورش مجتمعي بالدرجة الاولى، ينهض به المثقفون، ويعمل عليه كل المواطنون الذين يتفاعلون مع نصوص المثقفين في الحياة الاجتماعية. وهؤلاء المواطنون، إن ذهبوا إلى السياسة بزاد مقبول، كان عملهم على واجهة بناء الإنسان مقبولا على الأقل! فيستكملون بذلك الجهود المبذولة على صعيد المجتمع!
مهام: بناء الإنسان (الثقافة في أوسع معانيها)، وبناء العمران (السياسة في أضيق معانيها التدبيرية)؛ لا مجال للتأخر عنها على السواء. ومن العيب تسبيق مهمة على أخرى، لأنهما مهمتان متوازيتان. فمشروع النهوض بمثابة طائر لا يطير إذا فقد أحد جناحيه (الثقافة أو السياسة؛ الإنسان أو العمران).
نعم، نعرف تعثرا فاضحا في السياسة، ولكننا نتمتع بوعي متنام بذلك. بالمقابل، نشهد غفلة مريعة عن وعاء العمران أو السياسة: ورش بناء الإنسان، بدون منبه.

وحتى ننتبه، وننخرط في قراءة السؤال، يمكننا آنذاك فقط أن نفهم مرامي المؤرخ والفيلسوف عبد الله العروي.


0 التعليقات

إرسال تعليق