| 0 التعليقات ]



إن بناء أي تصور عام عن الحياة لا بد له من أن ينهض على مقدمات/فرضيات. وإذا تبين ان العالم ذهب ضحية تصورات أحادية لقرون وقرون، فإن المخرج سيكون لا محالة انطلاقا من بناء تصور مركب يؤمن بالواقع الموضوعي كما هو ولكن بسعي دائم نحو الارتقاء منه والارتفاع عنه.
إن التصور المركب؛ من المفترض ان يستند إلى المنطلقات الآتية:
ـ إن الإنسان كائن مزدوج التكوين تشكل المادة (الطين) لحمته وسداه كما تعبر روحه عن جوهر أشواقه ولب غاياته وسر حياته وعمق وجوده.
ـ إن الطبيعة الطينية (المادية) للإنسان تجعله منتسبا إلى بقية الكائنات الموجودة في عالم الطبيعة، بينما جوهره الروحي يجعله منتميا إلى عالم مفارق راغب عن الاستكانة لجواذب الطين وهواتف المادة.
ـ إن الطبيعة المادية للإنسان تثقله بضغطها وتستقدم معها تقاليد عالم الطبيعة إلى حياته فتراه مندفعا إلى التصارع من اجل الغذاء ومستكينا إلى الاستجابة لنداء الجسد بلا معيار.. أما الطبيعة الروحية فتشده شدا إلى عالم التأمل والإدراك والفهم والتعمق وتقفي أدبار الأفكار وصياغة العقائد ومحاولة البحث عن القيم التي لا تبلى مع الزمان.
ـ إن ازدواجية تكوين الإنسان تحيل أساسا على حيرته المستمرة وتقلبه الدائم بين الخضوع لطبيعته المادية كما هي أو النزوع نحو الحياة كما ينبغي ان تكون على مقاس القيم والعقيدة والأفكار والتأملات.
إن أكبر تحد يفرضه الإيمان بهذا التصور هو مدى قدرة الإنسان على ملء المسافة الكائنة بين رغباته المادية المتجذرة وأشواقه الروحية العارمة.
إن الإنسان يميل إلى الاغتناء وحيازة اموال الدنيا بحكم طبيعته المادية، ولكن عالمه الروحي يدفعه نحو التسامي والزهد والقناعة والعفاف.
إن الإنسان يميل إلى العدوان والحرب والصراع بموجب طبيعته المادية الشبيهة بطبيعة الكائنات التي تعيش في الغابة، ولكن عالمه الآخر يطالبه بالصبر وكف الأذى وتغليب منطق التعاون والرفق والتسامح.
إن الإنسان يميل إلى الركوع أمام نداء الجسد فيندفع نحو تصريف الطاقة الجنسية كيفما اتفق وعبر أي قناة تماما مثلما تفعل الكائنات التي تعيش في الطبيعة المفتوحة، ولكن الإنسان بفعل هواتف الروح يؤنبه ضميره ويفكر في تصريف طاقة ضاغطة عبر القنوات المشروعة.
يبدو أن معركة كل فرد هي تغليب الأشواق السامية والقيم السامقة على الطبائع الجاذبة والتكوين المادي الجاف. إنها معركة حقيقية: كيف يكون الفرد نبيلا وصادقا ومتواضعا وعادلا ورحيما ومتسامحا وكريما ...؟
 إن النبل والصدق والعدل والرحمة والتضحية والتسامح والكرم والتواضع وغيرها من القيم والأفكار والأشواق كلها من نتاج عالم الروح. فنحن بصدد عالم -لا كما يصور في الكتابات الدينية واللاهوتية التقليدية- هو مفجر الأسئلة في ذهن الإنسان وحاميه من البلادة الواطئة ومنشط الهموم ومحرك التأملات ودافعه إلى السعي نحو الفهم والإدراك، وذلك حسب أعمق التفسيرات التي طالت الآيات القرآنية التي تحدثت عن دلالات النفخة الروحية الربانية في الطين.  
إن قضية الوفاء ل"ما ينبغي أن يكون" سائدا في حياة الإنسان من القيم والأفكار من: النبل والصدق والعدل والرحمة والتضحية والتسامح والكرم والتواضع ... إلخ؛ هي أم القضايا التي ينبغي ان تلاحق كل فرد على الدوام.
ولكن على صعيد المجتمع ثمة حكاية أخرى. يبدو أن المطلوب ابتداء هو الاعتراف بطبيعة المجتمع البشري كما هي: الصراع من أجل صيانة مصالح الغذاء (رؤوس الأموال، منابع الريع، السلطة السياسية بصفتها ذات عوائد مادية محترمة وذات فوائد أمنية تُحصن صاحبها ... إلخ). وبعد ذلك، ينبغي تدبير الصراع الاجتماعي والسياسي بالأدوات العقلانية (=الديمقراطية، الانتخابات، التداول السلمي على السلطة، آليات الرقابة، القضاء النزيه، إحداث المجالس العليا للحسابات، الصحافة المستقلة ... إلخ).
وهذا لا يمنع أنه بالموازاة مع ذلك، يتم العمل على تربية الافراد منذ نعومة أظافرهم على الانشداد إلى "ما ينبغي أن يكون"، أي إلى قيم القناعة والأمانة والصدق والارتباط بالأفكار والقيم ولم لا الاتصال بمتطلبات الدار الآخرة!
إن التصور المفيد لحياة الإنسان يذهب إلى أنه لا بد من الاعتراف بأن هناك عالمين يتنافسان على الإنسان: عالم طيني مادي، "ما هو كائن"، يشد الإنسان إلى الترسب، إلى التسفل، إلى الهبوط، إلى الركود، إلى الهمود، إلى الخمود، أي إلى كل ما هو دُون. وعالم روحي متسامي، "ما ينبغي أن يكون"، يشد الإنسان إلى السمو، إلى الرقي، إلى الشموخ، إلى التحليق في أجواء الصفاء والنقاء والقيم والافكار.

إن معركة الفرد هي البحث عن السبل الكفيلة بموازنة تلك المعادلة الصعبة من دين وتفكر. أما معركة المجتمع فهي الاعتراف أولا بطبيعة البشر كما هي والانتقال إلى سن (القوانين) الكفيلة بضبط النزوعات الطاغية على البشر، إلى جانب الحرص على تربية الأفراد على تهذيب طبائعهم والاقتراب من الأشواق الإنسانية السامية.


0 التعليقات

إرسال تعليق