| 0 التعليقات ]



 إذا كان الناس في العالم القديم يؤمنون بأن محور الصراع هو "العقائد"، لأن ما يحرك الإنسان هو الحق والغيرة على مكانته. وإذا كان العالم الحديث قد أثبت أن ما يفجر الصراع "الحتمي" بين الناس هو "المصالح". فإن إصرار بعض الجماعات الإنسانية على الإيمان "الدغمائي" بعقيدة ما كيفما كانت، بل وتمسكها بالنظر إلى اليافطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على أنها مجرد أقنعة يتخفى وراءها أصحاب عقائد معينة يريدون لها أن تشيع وتسود لوحدها.  
إن هذا الإصرار هو الذي قام بتوليد مفهوم "الإيديولوجيا" بدلالاته السلبية. لأن المفهوم قد ينطوي من ناحية على مدلول إيجابي يرمز للإيمان بعقيدة وفكرة وقضية ورؤية وهي أمور لا بأس عليها إجمالا شريطة أن تسمح لصاحبها بمساحة معتبرة للتهوية الفكرية وتوسيع دائرة الإدراك والنظر بنسبية إلى الذات وبإنصاف إلى الأفكار الأخرى. ولهذا فالمقصود هنا ب"الإيديولوجيا" هو الدال الذي يدل على مدلول قدحي يشير إلى: الوعي المزيف والمقلوب.
إن من يؤمن اليوم بأن الصراع بين الاحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والدول المجاورة والقوى الدولية هو صراع على قاعدة تعارض المبادئ والقيم والأفكار والعقائد يوصم من طرف من تشرب ذهنية العالم الحديث بأنه حامل لإيديولوجيا. ماذا يعني هذا الكلام؟
بمعنى أن الفرد قد يعتبر نفسه مؤمنا بفكرة ومدافعا عنها بقوة، بينما هو في الحقيقة يعبر عن مصلحة مادية ملموسة في صورة فكرة. بعبارة أخرى، إنه يقول شيئا غير مطابق للواقع إطلاقا. إنه الوعي المزيف أو الفكر المقلوب.
إن هذا التحليل هو الذي كان مفرق الطرق بين الحركة الإسلامية زمن الـتأسيس وخصومها من اليسار بالذات. طبعا، أبناء الحركة الإسلامية كانوا في غفلة مطلقة عن مفهوم "الإيديولوجيا". بينما، اليسار كانوا واعين بدلالات المفهوم، وكانت قياداتهم الفكرية بالخصوص واعية بأن عائلة اليسار تحمل "إيديولوجية واعية" مناضلة وتقدمية. كيف؟
حركة اليسار وعت منذ البداية بأن الصراع اجتماعي هو قائم بالدرجة الأولى بين الطبقة أو الجهة المستغلة (بكسر الغين) والطبقة أو الجهة المستغلة (بفتح الغين)، وبالتأكيد كانت الجهة المستغلة هي (الدولة) والجهة المستغلة في مقدراتها هي (المجتمع). ولهذا فهي حركة تحمل إيديولوجية واعية أي غير مزيفة لأنها استطاعت أن تنفذ إلى طبيعة المعركة القائمة. وهي إيديولوجية مناضلة وتقدمية لأنها أولا تنبه المناضلين المؤمنين بها بحقيقة الصراع، كما أنها تشحذ هممهم من جهة ثانية للنضال للحد من استغلال (الدولة) وذلك من أجل بناء مستقبل متقدم موسوم بالعدل والمساواة.
أن يكون اليسار وفيا لأهدافه الأولى فتلك قضية أخرى، سيجيب عنها التاريخ الذي كُتب البارحة ويكتب اليوم وسيكتب غدا.
في المقابل، كانت الحركة الإسلامية تدعو إلى عقيدة التوحيد ومقتضياتها "التشريعية"، وكان تصورها منحصرا في أن الجميع يخاصم هذه العقيدة بدء من (الدولة) وصولا إلى (اليسار). لننظر كيف كان ينظر اليسار الذي يظن أنه أدرك مرامي "الإيديولوجيا" إلى الحركة الإسلامية.
من الواضح أن الحركة الإسلامية تُعَرف نفسها في البداية بأنها تشكيل جمعوي جاء لصيانة بيضة العقيدة في عالم لا يريد لهذه العقيدة أن تعيش وتكون بله أن تسود. انطلاقا من هذا الخطاب تمكنت الحركة الإسلامية في ظرف قياسي من جذب العديد من الشرائح المجتمعية إلى دائرتها.
بالتأكيد، كان اليسار يرى في الحركة الإسلامية حاملة لإيديولوجيا رجعية وذلك من ثلاث نواح: أولا؛ لأنها تنشر تفسيرا للتاريخ يرجع إلى العالم القديم. ثانيا؛ لأنها تقوم بتهديد العمق الاجتماعي لحركة اليسار بخطابها "الشعبوي" و"العاطفي" الرجعي. ثالثا؛ لأنها تنشر وعيا مقلوبا ومزيفا في وسط قواعدها حينما تشير إلى أن غاية القيادة هي نشر العقيدة ومقتضياتها لا غير، في حين أن ما يحرك القيادة هي مصلحة مادية واضحة هي طلب السلطة وذلك عبر تكثير سواد الحركة بالأتباع والأنصار الذين يمكنهم الانقلاب المباشر على (الدولة) أو التحول إلى حزب سياسي سيفوز حتما بالسلطة في الانتخابات أو عبر لعب دور الجماعة الضاغطة التي تبتز السلطة لتيسر لها مصالحها وبرامجها ومخططاتها.
ولهذه الاعتبارات، دأب اليسار على اتهام الحركة الإسلامية باستغلال الدين في السياسة.
والخلاصة هي أن اليسار يعتبر أن الحركة الإسلامية تشكيل اجتماعي لا يدافع عن عقيدة وإنما جاء للتعبير عن مصلحة مباشرة (السلطة). ولهذا قد تجد جزءا من اليسار لا مشكلة له نهائيا مع العقيدة، وقد تجد جزءا آخر سقط في فخ ردود الأفعال المتطرفة فصار عدوا للعقيدة.
ولكن، ما يهم هنا هو أن ننتبه إلى أن اليسار لم يقم ليقف ضد العقيدة. نعم هو يقوم بأعمال أخرى خارج إطار العقيدة، لأن العقيدة حسب تحليله للواقع خارج التناقض الحقيقي اللهم إذا كانت موَظفة من طرف المستغلين لتكريس واقع الاستغلال بطريقة رجعية. باختصار شديد، العقيدة لم تشكل لليسار مبرر وجود، بل هي مستقلة عن مجال اشتغاله (دائرة الصراع الاجتماعي) وليست مناقضة له. فاستقلال مجال الاشتغال؛ لا يعني الفصل ولا يعني التقابل كما لا يعني الوصل ولا يعني التطابق.
وكلما انتبه اليسار إلى أن الحركة الإسلامية توظف العقيدة لأغراض "رجعية" تصب في خدمة الاستغلال والجهة المستغلة (بكسر الغين) أي (الدولة) عبر نشر مزيف يؤخر مسيرة التحرر؛ تظهر النزوعات المتطرفة في الضفة الاخرى التي تدعو إلى استئصال هذه العقيدة أو على الأقل إهمالها في أفق موتها.  
لنختم ما قيل: كَشَف الدرس الاجتماعي الحديث والمعاصر على أن العالم الحديث مبني في بنيته على الصراع حول "المصالح". غير أنه في ظل هذا العالم ظهرت حركات تقدم نفسها على أنها حاملة ل"عقائد" و"مبادئ". لم يصدقها الخطاب المهيمن فاعتبرها حركات حاملة ل"إيديولوجيا": بمعنى أنها تقدم نفسها على أنها في خدمة عقيدة في حين أنها في خدمة مصلحة. والحركة الإسلامية ضمن تلك الحركات التي اتهمها اليسار زمن الولادة بهذه الاتهامات لأنه ينهل من الدرس الاجتماعي المعاصر ويعي جيدا دلالة الإيديولوجيا.
هل هذا صحيح؟
طبعا، اليسار ينطلق في مجمله من تصور أحادي مادي يعتبر أن اتهاماته محققة وأن التاريخ قد أثبت صحتها. بينما الحركة الإسلامية التي تنطلق في مجملها من تصور أحادي غير مادي تعتبر اليسار عدوا للعقيدة ومحاربا للدعاة إليها ومهاجما للعاملين على نشرها، لهذا فهو لا يريد لمقتضيات العقيدة (أي الشريعة) أن تعرف موقعا مرموقا ضمن الحياة التشريعية ولهذا فهو يكيل تُهم استغلال الدين في السياسة ويدعو إلى فصل السياسة عن الدين.
يبدو أن التصور المركب عن الحياة الذي ينطلق من أن الإنسان ذو تكوين مزدوج قد يدفعه الإيمان بالعقيدة في بداياته إلى التسامي والفناء في قضيته الأولى، ولكن سرعان ما تتجاذبه جواذب الطين والمصلحة والمادة والسلطة ... إلخ. وهكذا أبناء الحركة الإسلامية المتشربين لفكرتها؛ لا ينبغي أن ننكر عنهم الصدق في الإيمان والدعوة إلى عقيدتهم، بقدر ما لا يمكن أن ننفي عنهم انشدادهم إلى السلطة وماديات الدنيا.


من المفيد الإشارة إلى أنه لا وجود اليوم لليسار أو للحركة الإسلامية بالمعنى المذكور والرهان المشروح في الأسطر أعلاه. إنما هو صراع تاريخي، اقترحنا أن نفتحه لنكتشف مضمون مفهوم "الإيديولوجيا".   

0 التعليقات

إرسال تعليق