| 0 التعليقات ]








 في المقال السابق خلصنا إلى التحسر على الحالة الراهنة: "للأسف أمام مشهد مازالت فيه "الدولة "غنيمة" و"أداة قمعية" عوض أن تكون وسيلة حاضنة لفكرة العقد الاجتماعي. تصير الأحزاب المنبثقة من "الدولة" هي الحاضرة شبه الوحيدة في المشهد. وتصبح "الحركات الاجتماعية" غارقة في معارك وهمية بينية تستغرق جهدها وتستنزف طاقتها، ومن ثَم تكون بعيدة عن رهان صياغة نموج مفارق لما تريده الدولة النازعة نحو الاستبلاد والإلهاء.

كان "التوافق" يفيد إيجاد أرضية بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين أي برنامج أفقي مشترك لمواجهة من يعمل على الاستفراد بخيرات البلاد وافتراس خيال العباد (=الدولة بصيغتها الحالية). أما الآن ف"التوافق" يُعنى به التواصل العمودي بين "الدولة" و"القوى الحية في المجتمع" من أجل المصلحة العليا!".

السؤال المطروح منذ البداية: من يتحمل المسؤولية؟

من أكبر عوائق التطور الديمقراطي والاجتماعي والثقافي في مجالنا هو: تحميل المسؤولية ل"السارق". إن ما يتم فعله شبيه ببيت تهاون بعض أفراده في إحكام إغلاق أبوابه ومداخله؛ فتعرض للسرقة؛ فلما خاض أهل البيت في حوار داخلي حول المسؤول عما جرى تم الإلقاء بالمسؤولية على "السارق"! إن السارق ينهض بدوره في مسرح الحياة؛ فلو لم يشتغل على السرقة لما كان للنقاش مبرر وجود من الأصل. إن المعني بالمساءلة هو الذي تهاون في سد الثغرات التي من خلالها تمكن "السارق" من الدخول.

إن الحياة لو انتفى فيها الاستغلال والاستبداد والاستبلاد (الذي تقوم به جهة ما قدرنا هنا ان نتواضع على أن نطلق عليها "الدولة")، لما كان للنقاش والبحث والعلم (الاجتماعي) مبرر من الأصل. وبالتالي المعني بسؤال المسؤولية هو "المجتمع وتعبيراته الحية؛ من الأحزاب والحركات" أي الطرف المقابل للجهة المستبدة والمستغلة والمستبلدة.   

إن هذا التقدير في التحليل ينسجم مع الدرس القرآني (قل هو من عند أنفسكم)، ويدفع بالنقاش إلى الأمام لحلحة الإشكال: لأن المجتمع هو نحن وبالتالي إذا استوعبنا أن العطب فينا، فيمكن أن نسعى إلى علاجه. أما إذا كنا نراهن على الجهة المقابلة حتى تتغير بمفردها فذلك انخراط في مشاريع أحلام اليقظة.

إن التغيير في العصر الحديث رهين ب"الوازع الخارجي" (=القانون، المؤسسات ... إلخ)، أما في السابق فقد كان متصلا ب"الوازع الداخلي" للحاكم (صلاحه، زهده، عدله ... إلخ). إذا اجتمع الأمرين فستكون النتيجة مثمرة جدا، ولكن في انتظار تشكل "الوازع الداخلي" غير المضمون؛ من الهام الاشتغال على بناء "الوازع الداخلي". وهذا هو النضال الديمقراطي.

نعود إلى الإشكال لتوزيع المسؤوليات. حسب الفرضية التي تؤطر هذا النقاش، ومن المفيد التنبيه إلى أنه لا وجود لمطلقات في هذا النقاش حول القضايا الاجتماعية والإنسانية فالأمر يتعلق بفرضيات في نهاية المطاف، فإن الجهة الريعية والسلطوية تنهض بثلاثة أفعال:

-          الاستبداد، ومعناه الاستفراد بالقرار السياسي وقمع الحريات.

-          الاستغلال، ومعناه الاستفراد بالثروة الطبيعية أو المكدسة من الضرائب التي يسددها المجتمع.

-          الاستبلاد، ومعناه الاستفراد بالنموذج الثقافي وغالبا ما تنزع "الجهة" المقابلة لتحرر المجتمع إلى إشاعة نموذج الخواء والتفاهة والبلادة.  

من هذا المنطلق، يتبين أن "القوى الحية للمجتمع" تتحمل المسؤولية في الكفاح على ثلاث جبهات باستماتة واستبصار:

-          النضال الديمقراطي، على المستوى السياسي.

-          النضال الديمقراطي، على المستوى الاجتماعي.

-          النضال الديمقراطي، على المستوى الثقافي.

أكيد أن الاحزاب والنقابات من المفترض أن تنشغل بالجبهتين؛ النضال السياسي والاجتماعي. اما الحركات الاجتماعية فينبغي أن تناضل، كل من زاويتها، باعتبارها مدارس موازية من أجل افتكاك الإنسان من الفقر الفكري والبلادة الثقافية اللذين تضطلع المدرسة والإعلام بإشاعة بذورهما.

صحيح أنه لا يمكن للحركة الاجتماعية صناعة وعي متحرر إذا كان الواقع مغلق وضيق. ولكن لا يمكن كذلك صناعة واقع متحرر (من الاستبداد والاستغلال) إلا إذا كان هناك قدر من التحرر من الاستبلاد على مستوى الوعي.

يبدو أن الجميع يتحمل المسؤولية من داخل المجتمع. فمهام النضال الديمقراطي ومواجهة الريع والتنوير الثقافي واجبات ثلاثة؛ مازال التهاون ساريا تجاهها. مازال البعض ينفخ في الخلافات الإيديولوجية الزائفة ومازال تخوين المناضلين الشرفاء متبادلا ومستمرا. ومازال الجميع شاردا عن أن هذا "الجميع" نفسه يجسد صفا واحدا في مقابل الجهة التي تستبد وتستغل وتستبلد.




0 التعليقات

إرسال تعليق