| 0 التعليقات ]



يخرج صديقي –أستاذ متدرب في مادة الرياضيات- من الثانوية مع زملائه الأساتذة، فينخرطون في النقاش حول الشأن العام وبعض القضايا الفكرية، ينتصر صديقي في مداخلاته دوما للطرح القائل: إن الإسلام و المعاصرة صنوين لا يفترقان لا ضدين –كما يشاع- لا يلتقيان.. يفاجأ صديقي بقابلية زملائه لاحتضان أية فكرة و سرعة تبنيهم لما يدندن حوله من أفكار و طروحات.
يعبر لي  بنبرة صادقة مقرونة بالإشفاق الخالص: لا يسعدني حال هؤلاء، رغم  تبنيهم لما أدندن حوله و أدور، لأنهم قابلون للمغالطة و التضليل، و ما ينتصرون له من قيم و أفكار رهين بطبيعة السباق إلى مخاطبتهم؛  فلو كان مخاطبهم يتحيز لفكرة أخرى لصفقوا –على عجل- لما يقول. مضيفا: إنهم ضحايا سياسة تعليمية منتكسة تنتج آلات : تشتغل وفق الزر الذي يضغط عليه لأول مرة، و تغير وجهتها بعد الضغط على زر آخر..
تلك قصة توحي بشكل واضح عميق بطبيعة الخلل الذي يجثم على السياسة التعليمية. إنها إرادة صارخة لإنتاج كائنات قابلة لتبديل قناعاتها بعد إشعار قصير دون السعي وراء عملية الغربلة و التمحيص. إنها محاولة مكشوفة لتخريج جيل "لا يفكر بشكل مختلف عن ما يريد المتنفذون"، جيل مُدجن؛ لا يستطيع أن يقول "لا": للظلم و الطغيان و الفساد و الاستبداد و التسلط و التخلف و الفجور و الخمول، جيل ممزق الشعور و مستلب الاختيار في كل الأمور..(من مقدمة "هموم تلميذ").
إن الخلل، يمكن تكثيفه باختصار فيما يلي: جزء كبير من المتدخلين في صياغة السياسة التعليمية لأوطان –ما بعد الاستعمار بالخصوص-  يبتغون حرمان الأجيال الصاعدة من الحس النقدي..
لأنهم يعلمون أن المتعلم (طالبا كان أو تلميذا)، إذا مُكن: من أدوات التفكير الناقد، من حس التأني قبل التبني، من الغربلة قبل المصادقة، من الاطلاع على المنظورات المتنوعة للقضايا المطروحة، من التمسك بالمقاصد قبل الوسائل. إذا مُكن من هكذا أدوات و موازين و تملك ملكة التمحيص و التحليل قبل المدح و التبرير، لا ريب، أنه بدأ يشق الطريق نحو التحرر و المعافاة من أمراض نفسية و اجتماعية فتاكة: الإمعية، الآبائية، النظرة الإطلاقية، النزعة الوثوقية، القابلية للاستغفال و التخدير و الوقوع في أسر هواة التحكم و التلاعب و التضليل..  
إن المنحى الذي تتجه إليه السياسة التعليمية؛ الانتصار لنموذج التقنوقراط أو الإنسان التقنوي الذي ينحصر أفقه في العمليات التي يُطالب بإنجازها و الآلات المفروض عليه أن يتعامل معها: الإنسان الذي لا يهجسه  سؤال: لماذا؟ الإنسان الذي لا يتطلع لفهم الفلسفة التي تؤطر العملية التي ينجزها و لا الفكرة التي كانت وراء إبداع الآلة التي يشتغل عليها. هذا المنحى يستهدف بشكل صريح إغراق الإنسان في عالم صم بكم (عالم التقنيات)  لا علاقة له –بالمناسبة- مع العلم و لا فلسفة الحياة بشهادة العالم الفيزيائي جيمس تريفل: " إن القدرة على برمجة جهاز تسجيل فيديو كاسيت ، أو إصلاح سيارة، أو فهم وظيفة جميع أزرار جهاز التشغيل: يمكن أن يكون قدرة مفيدة في العصر الحديث، لكن لا علاقة لها البتة بالمعارف الأولية العلمية. إن المعارف الأولية العلمية قيمتها و دورها في أن نفهم بنية الكون الذي نسكنه، و يمكن أن تقترن أو لا تقترن بالمهارة التقانية اللازمة لتشغيل الأجهزة الالكترونية".( "لماذا العلم؟"، جيمس تريفل، سلسلة عالم المعرفة: الكتاب 372. ص: 57-58).
نموذج التقنوقراط يناقض تماما نموذج الحس النقدي؛ لأنه ببساطة من يُعمل عقله و تفكيره لا بد و أن تكون له أيضا وجهة نظر فيما يُطرح من أسئلة و قضايا و نقاشات؛ وجهة نظر  لن تروق دائما سدنة الاستبداد: هواة التنميط و الرأي الواحد. لهذا السبب –إذن- تتحيز السياسة التعليمية  لنموذج التقنوقراط و تخشى من سيادة نقيضه صاحب الحس النقدي.
بعبارة جامعة؛ إن السياسة التعليمية تقف على خيارين: إما النزوع التقنوي أو النزوع نحو الحسالنقدي. النزوع الأول، يروم إنتاج الإنسان ذي البعد الواحد (بتعبير الفيلسوف  ماركوز) و بالتالي تشكيل المجتمع ذي البعد الواحد حيث لا هَم إلا التصفيق و التبرير لكل السياسات و الفلسفات الرائجة من طرف الطبقة المهيمنة؛ هذا النزوع يتوسل توجيه اهتمام الطلاب و التلاميذ إلى العمليات و المسائل التقنية بعيدا عن الفكر و المعارف العلمية لإعدام أي ذراع محتمل أن يكون لهم في ميدان المعارف الإنسانية و الاجتماعية التي تتصل بالحياة العامة.  أما النزوع الثاني، فهو يستهدف بناء طراز من الإنسان يمتلك حاسة النقد و يعشق السؤال، يراجع المسالة قبل أن يصفق لأي جواب عليها، يحوي قاموسه كلمة "لا" إلى جانب كلمة "نعم": مواطن بحق ليس رقما كباقي الأرقام.


0 التعليقات

إرسال تعليق