| 0 التعليقات ]



كثيرا ما ألتفت إلى كون سبب اتجاه المنظومة التربوية صوب تضييق التخصص و حصر مجال الاهتمامات و التركيز على التقنيات، لا يرجع -حسب ما يشاع- إلى إكراه التأهيل لسوق الشغل فقط. إنما ذلك نابع من سياسة تروم تخريج تلميذ/طالب محروم من الرؤية الإدراكية الفسيحة، قابل -بعد إشعار قصير- لتبديل القناعات و الخيارات، قابل للتوظيف و الحوسلة و الاستعباد و قابل للصب في أي قالب مُعد.
قبل عقود، كان الرهان على أمية الشعوب و المجتمعات (الأمية التقليدية: أمية الحروف و الأرقام). فالأمي كالأعمى –إلا من رحم الله- من اليسير حمله على طريق  لم يكن يقصده، من اليسير العبث بفكره، من اليسير توظيفه لفائدة أجندة من الأجندات. و لهذا السبب؛ أي الرغبة في استدامة نوع من العبودية في أوساط الناس و الخوف من تحررهم من زيف الوصايات. تم انتهاج سياسة المماطلة و التذبذب و التردد إلى أن وصلنا في القرن الواحد و العشرين إلى حالة تستمر فيها نسب مًقَدرة من الأمية كان بالإمكان أن تنعدم منذ سنوات سحيقة.
كان بالإمكان الاحتفاء بالقضاء على الأمية –على الأقل- سنة 1975، استنادا إلى ما  أدلى به الدكتور المهدي المنجرة. ففي سنة 1965، يقول الدكتور المنجرة، انعقد مؤتمر الوزراء الأول و الأخير لمحاربة الأمية، و باعتماد دراسات لخبراء تم بيان إمكانية القضاء على الأمية في عشر سنين، لكن الأمية مازالت مستمرة إلى اليوم..
يلفت المنجرة النظر إلى كون سدنة الاستبداد في أوطاننا و ورثة الاستعمار في الدول الغربية: يقفون دون إشاعة نور العلم و العرفان و ضد دق أخر مسمار في نعش الأمية و الظلام. إنهم يخافون من تحرر الشعوب و انبثاق وعيها السياسي.
لكن تحالف الغزاة و الطغاة أدرك أن حبل المماطلة قصير و أن تعلم الحروف و الأرقام بات قدر الجميع خصوصا في القرن الواحد العشرين. فسارع إلى البحث عن مخدر جديد يقوم بالدور الذي أنيط بالأمية منذ عشرات السنين؛ أي تطويع الجيل الجديد و جعله قابلا للاستعباد و المغالطة و التضليل. فنسب الأمية (التقليدية)، رغم أنها مازالت مقدرة إلا أن  القضاء عليها بات مسألة وقت رهين بظهور جيل أو جيلين أو ثلاثة أجيال على أكثر تقدير، فحتى الهدر المدرسي المشاع في أوساط البوادي بشكل كثيف لن يمنع التلاميذ من تعلم الحروف و الأرقام إلى حدود مستوى السادس ابتدائي على الأقل.
فما هي –إذن-  الأمية (الحديثة) التي أراد حلفاء الظلام (الطغاة و الغزاة) التمكين لها لأداء ذات الدور الخسيس: الوصاية على الجيل الجديد؟   
الجواب عند العبقري الكبير ألبرت إنشتاين (في كتابه: كيف أرى العالم؟): " لا يكفي تعليم الإنسان تخصصا معينا؛ ذلك أنه بهذا الشكل، يصير آلة قابلة للاستعمال و لا تصبح له شخصية. و من المهم أن يكتسب إحساسا و حسا عمليا تجاه ما هو جميل و ما هو حق أخلاقيا؛ و إلا فإنه يشبه بمعارفه المهنية كلبا عارفا.. إن إفراطات نظام المنافسة و التخصص السابق لأوانه تحت الذريعة الخداعة للفعالية، تقتل العقل و تمنع كل حياة ثقافية، بل و تلغي حتى التقدم في علوم المستقبل.. و الحال إن إثقال العقل من خلال نظام التنقيط، يعيق و يحول البحث إلى سطحية و غياب للثقافة، و ينبغي للتعليم أن يتمثل في كون من يتلقاه، يستقبله كهبة ثمينة، و ليس كإكراه قاس أبدا".
إذن إغلاق المتمدرسين في سياجات التخصص الضيق حيث الأرقام الصماء فقط و الرموز الجوفاء فحسب و حيث الغياب التام لفلسفة العلوم و المنظورات الكلية المؤطرة لأسئلة التقنيات و مختلف الفنون؛ هو المدخل الجديد نحو أمية (حديثة) تجعل خريج المنظومة –كما قال إنشتاين- آلة قابلة للاستعمال و الاستعمار و التوظيف و التضليل و الاستغلال. فالمنكفئ على أسوار فرع واحد من فروع المعرفة، المفتقد لإحاطة عامة بأحوال الإنسان و الاجتماع و  ما يتعلق بصياغة الأحلام و الوجدان و القانون لن يكون عصيا على البيع و الشراء و التلاعب و الارتشاء و التطبيع و الخذلان. إذ أن التخصص يعمل على نمو الفرد من جهة واحدة و يعطله من سائر الجهات. و السؤال هنا: هل التخصص أمر لازم، نعم- يقول د.علي شريعتي في كتابه "النباهة و الاستحمار"-.. إنه أمر لازم، و لا ينبغي أن نعدمه، لكنه، علينا في الوقت الذي نتخصص فيه في فروع مختلفة، أن نحفظ "كليتنا الإنسانية" و "كليتنا الاجتماعية".
الفيزيائي الحائز على نوبل "جيمس تريفل" في سياق حديثه على خطورة الانكفاء فقط على التخصص الضيق في كتابه الشهير (لماذا العلم؟) أورد قصة معبرة تختزل البعد الذي نستهدف توضيحه في هذه الأسطر. يقول:"إنني لا أعتقد أن أيا من طلاب الجامعات الأمريكية اطلع على قدر كاف من الإنسانيات أو العلوم الاجتماعية، و ثمة قصص مروعة على ذلك، مثل قصة الطالب الذي ظن أن تورنتو هي عاصمة إيطاليا". هذا طالب جامعي أمريكي لم يكلف نفسه عناء الاطلاع و التأكد من عاصمة دولة غربية نتيجة غرقه في التخصص، فكيف ستكون درايته بالحركات السياسية و الاجتماعية و تاريخها و مراميها و الفروق بينها.. هذا، من السهل –إذن- على عصابات المافيا و الحركات الهدامة شراء ذمته و توظيف كفاءته و ذكائه و تدجين تحيزاته و خياراته.
قطب رحى حديثنا، إن الذين يملكون السلطان في العالم (ورثة الاستعمار) و الكثير ممن يملكونه في بلداننا (سدنة الاستبداد)  لا يريدون لهيمنتهم الاحتضار، لهذا فهم عاكفون على تأبيد المغالطة و التضليل و الاستعباد و التمويه في أوساط الجماهير. قديما راهنوا على الأمية التقليدية التي تقبع فيها الشعوب و اليوم قالوا فلنجعلهم آلات لا يمتد وعيها إلى ما سوى تخصصها. فالحذر الحذر من هذا النزوع التقنوي المقرف البئيس ! فنتاجه لن يكون سوى آلات طيعة لا أناس أحرار !

0 التعليقات

إرسال تعليق