| 0 التعليقات ]





في صيف (2014) الذي تلا تَخرجنا من المدرسة بشهادة الباكالوريا، صادفتُ أحد الأصدقاء الذي جَايَلني و زاملني في الابتدائي و حصل على شهدة الباكالوريا من تخصص تقني. كان معي كتاب عن العمل النقابي الطلابي.  انغمرنا معا في نقاش حول رحلة ما بعد الباكالوريا، بعدها تذَكر صاحبي أن معي كتابا فرام أن يكتشفه. لكن ما إن قرأ العنوان و أدرك المضمون و طبيعة الموضوع حتى راح يلقي موعظة حول أهمية انتقاء الكتب المقروءة مؤكدا أنه لن يقرأ ذات كتاب و لن يُضيع "وقته" في هكذا موضوع. ربما أسرف صاحبي في شفافيته ! لكن ما عساني فاعلا فقد ختم آخر عهد لي به بتلك الموعظة التي لم و لن أنساها !
دائما عندما تُذكَر القراءة للتلاميذ و الطلاب؛ يستهدف المُبشرون بفوائدها عادة "اكتساب الأسلوب للإجابة بإجادة على الإنشاء" و قلما تجاوزوا هذه الفائدة. و مؤخرا، مع تنامي المدارس الخاصة و ضعف مكانة اللغة العربية في المنظومة التعليمية، صار أولياء التلاميذ و المُتصدون لتوجيه الطلاب يركزون في دعوتهم إلى القراءة على "المطالعة باللغة الفرنسية فقط"، لهذا تصاعدت أسهم "باولو كويهلو" مثلا في أوساط الشبيبة المغربية في الآونة الأخيرة. على كل حال فالدعوة إلى القراءة بالفرنسية كان وراءها حقيقة تخترق الواقع المغربي مفادها أنه لا مستقبل دراسي لأي تلميذ أو طالب بدون الفرنسية (أي، ابتداء، القدرة على التحرير و الإنشاء بالفرنسية).
في ظل هذا المناخ، معدل القراءة مازال منعدما. المستوى الفكري و الثقافي لأغلب الطبقات الاجتماعية (سواء المعدومة، أو المتوسطة، أو المُترفة) يكتسحه شلل شبه كلي بنسب متفاوتة. الناس يلهثون وراء "اليومي". بعد نيل "كسرة الخبز" يشرعون في البحث عن معنى آخر في الحياة، عن توازن مفقود، عن شيء خاف معدوم. أما غير الحاصلين على "الخبز" فحلمهم و معنى الحياة بالنسبة لهم، طبعا، هو "الخبز".
دعوى حصر فوائد القراءة في التمكن من تدبيج الإنشاء سواء بالعربية أو الفرنسية، لم تأت من فراغ. فالآباء و الأولياء و المتصدون لتوجيه الطلاب و التلاميذ جزء من نسق اجتماعي همُه، كما سبق، هو "الخبز" و الرغبة في تأمين حصول الأبناء على "الخبز". و هو أمر طبيعي. و "الخبز" لن يتم توفيره بدون المرور من مسطرة تتطلب إجادة الإنشاء بالفرنسية أولا و العربية قليلا.
بالكاد يُفلح هذا الخطاب المُبشر بالقراءة في استقطاب الشبيبة (الطلاب و التلاميذ). حتى و إن نجح، فاجتياز الشبيبة لكل محطات المسطرة بنجاح يدفعها نحو تطليق "القراءة" (هذا في حالة الزواج !) لأنها استنفذت أغراضها. هكذا لأن الفائدة المرتجاة من القراءة تم قصرها على بُعد مادي نفعي براغماتي مؤقت. و موعظة صاحبي الذي امتعض من كتابي جاءت في هذا المساق و هي محكومة بنفس السياق و بذات الدلالات.
لقد اتضح بالأرقام، أن القنوات الفعالة من قبل في عملية القراءة لم تعد مؤثرة. فلم تعد لدى المواطن القارئ نفس الحوافز. و بذلك لم تعد هناك قراءة تقوم على الحوافز الفردية و المصالح الحزبية و الرغبة في حل القضايا و الإشكاليات العامة من وجهة النظر الحزبية و الإيديولوجية أو البحث عن مميزات شخصية في سياق التنافس النضالي. (أحمد الرضواني. القراءة العمومية بالمغرب. العدد 73. مجلة فكر و نقد. نوفمبر 2005).
إذن ، في السابق، ظلت الفئات القليلة المحظوظة، بفضل تسَيُسها، مشدودة إلى القراءة. و منذ مطلع التسعينات، و السياسة تفقد بريقها لصالح النهج التقنوي المتواطئ مع حسابات البنك الدولي. و كانت النتيجة اللاحقة انسحاب المُسيسين و الطامعين في الانتساب إلى عالم الفكر و الثقافة أو تدجين بعضهم و احتواؤه ضمن التكنوقراط. اليوم، بعد أحداث 2011 و الخُطى الأولى في استعادة الأمل و استرداد السياسة و استعمال "الفايسبوك"، ثمة انتعاش في مستوى تسيُس الجماهير لكنه مازال مصحوبا بالشلل الفكري. لهذا يلزم مصاحبة هذا الانتعاش بالإقبال على القراءة و البداية من هذه الموضوعات المثيرة للسجال (التاريخ السياسي للوطن بعد استقلال 1956، طبيعة النظام السياسي، الحقبة الاستعمارية و ما دار في أطوائها من مقاومة و نضالات وطنية، تاريخ الأحزاب السياسية و الحركات الاجتماعية القائمة في المجتمع المغربي، تاريخ الإصلاحات التعليمية، مسار التحديث..).  

نستجمع الكلام؛ إن أزمة القراءة مرتبطة أولا بأزمة الخطاب المُبشر بأدوار القراءة. فتضخيم المنافع المادية المؤقتة و إغفال الأدوار "المعنوية" الأكثر أهمية هو أول الأدواء، وجب علاجه أولا. إن هذه المرحلة التاريخية الثقيلة (التي يحتدم فيها "الشذ" و "الجذب" بين نزوع التسيس و نزوع التقننة) التي نمُر بها فرصة هامة لغرس "كنه" القراءة العميق في ذهنية الشبيبة المغربية.  إن "كنه" القراءة، الذي غفل عنه صاحبي، هو أن تفهم الحياة و تدرك المحيط الذي تتحرك فيه و تعرف سبب ما يعتمل في وسطك من"عجيج" و "ضجيج". و إذا استبطن المرء هذا المعنى، فلا خوف عليه حينئذ: في المدرسة، أو أمام الإنشاء، أو من ضرورة الأسلوب، أو القابلية للاستبداد، أو الخضوع للتدجين و الاستيلاب.. إن "كنه" القراءة هو الرغبة في إسقاط الأفكار اليابسة العالقة بأذهاننا و الاستعداد الدائم لصدمات كهربائية معرفية عن عالم الإنسان و الحياة اللذين تغشاهما الأسرار بلا انقطاع. إن "كنه" القراءة هو السعي لإيجاد ذلك التوازن المفقود بعد الاستجابة للمطالب المادية في الإنسان (الخبز..)، إنه الانشداد إلى حياة أخرى (بتعبير العقاد).


0 التعليقات

إرسال تعليق