| 0 التعليقات ]




شكلت العملية الانتخابية الأخيرة بملابساتها و نتائجها محطة جديدة تبعث رسائل هامة لمختلف الفاعلين في الحقل السياسي و التحليل الاستراتيجي ببلدننا و محيطنا. لعل أبلغ رسالة جامعة فيها كانت: "من جد وجد و من زرع حصد".. صار واقعا لا مثالا فحسب.
أولا؛ ما قلناه في "رسائل من تيزنيت" من كون المصباح بات عنوان المرحلة بلا منازع و رائد الموجة الإصلاحية الثالثة عن جدارة و استحقاق، انطلاقا من الحشود التي تلتئم حول خطاباته، صار حقيقة أكيدة بالصناديق الشفافة النظيفة.
ثانيا؛ بخصوص مسار الانتقال الديمقراطي في وطننا، أكدت النتائج أننا على الطريق الصحيح. من جانبي، حضرت -كغيري من الشباب المقربين من محيط المصباح-لأداء واجب مراقبة نزاهة العملية الانتخابية و نظافة الأصوات المحسوبة؛ فتداعت الخواطر الآتية في ذهني: أ ليست الانتخابات التي أرى أمامي نزيهة؟ أ ليست قضية الفوز رهينة بأصوات الشعب؛ رهينة بجهدك في إقناع المواطنين بأفكارك و برنامجك؟ لماذا يقاطع المقاطعون، إذن؟
ثالثا؛ بخصوص تراجع حزب "البؤس" في المدن و استمرار جراره البئيس في البوادي. ثمة هناك رسالة في غاية الوضوح مفادها أن "الأصالة و المعاصرة" مطالب بحل نفسه اليوم قبل غدا. لأنه لم يعد ممكنا له -بعد أن بدأ الوعي السياسي يتنامى- إلا أن يضحك على ذقون العجائز و الشيوخ الذين شبوا و شابوا في العهد البائد. و بما أن جمهور "البام" قد شاخ و بات على عتبة سجلات الوفيات فإن الحزب اللقيط يطل على نعشه من النافذة في انتظار أن يخرج إليه من الباب.
في ذات السياق، لا يفوتنا أن ننسى أن "البام" ليس الحزب الإداري الوحيد بقدر ما هو الحزب البئيس الذي صُنع حديثا ليعيق الانتقال الديمقراطي في هذه المرحلة. فهناك حزب التجمع الوطني الأحرار و حزب الاتحاد الدستوري و حتى حزب الحركة الشعبية؛ فهي كذلك أحزاب إدارية مريضة بأمراض مزمنة انتهت أدوارها منذ مدة: مازالت تقتات من ذات الجمهور الذي شاخ أي الوقود الحالي  "للبام" في الانتخابات. و بالتالي فأجلها اقترب جدا: ينبغي أن تحل نفسها و يلتحق فضلاؤها – الراغبون في مواصلة العمل السياسي بشرف- إما بحزب العدالة و التنمية أو فيدرالية اليسار الديمقراطي.
رابعا؛ بخصوص تراجع الأحزاب الوطنية التاريخية (حزب الاتحاد الاشتراكي و حزب الاستقلال). ثمة هناك رسالة ساطعة تقول: إن هذه الأحزاب أصبحت متعفنة ينبغي عليها أن تُعجل بالاستقالة من الحياة السياسية و حل نفسها. حزب الاتحاد الاشتراكي مات ! حزب الاتحاد الاشتراكي بسلوكه السياسي البائس و ترشيحه لأمثال المدعو عبد الوهاب بلفقيه بكلميم الذي يستعمل المال الحرام و يشتري الذمم و الأصوات قد اغتال مرة ثانية الشهداء و المناضلين الذين ماتوا من أجل مغرب النزاهة و الديمقراطية و العدالة و الاجتماعية.
  فأما الشرفاء و الصادقون من هذه الأحزاب، إن كانوا ذوي ميولات يسارية، فمن الواجب الأخلاقي عليهم أن يلتحقوا بفيدرالية الشرفاء (فيدرالية اليسار الديمقراطي) التي تعد آخر عناقيد اليسار المبدئي: إذ فيها أمثال المثقف الكبير محمد الساسي (الذي كان في الثمانينات الكاتب العام للشبيبة الاتحادية حينما كانت تؤطر الجماهير الشعبية بالآلاف) الذي ترشح في ذيل اللائحة في الرباط، إنهم الكبار الذين لا تسيل لُعابهم للسطة بل للديمقراطية و العدالة الاجتماعية و الإصلاح !
بخصوص حزب التقدم و الاشتراكية و حزب البديل الديمقراطي، من الأفضل لهم أن يلتحقوا كذلك بهذه الفيدرالية التي تستحق أن تتقوى. لكن، من جانبها ينبغي على الفيدرالية أن تتخفف من بعض التكبر الذي يتخلل خطاب بعض قادتها (إذ يعتبرون أنفسهم الأوصياء على الديمقراطية و الحرية و يتغافلون عن "النضالية" المنقطعة النظير التي تسم خط "العدالة و التنمية"). إننا في حاجة لمغرب يكون لكل الصادقين.
إن هذا التأثيث المأمول للمشهد الحزبي المغربي، كفيل بتسريع وتيرة الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن و وضع الحد للميوعة السائدة فيه و لفظ الكائنات السياسية التي لا تجيد سوى التهريج و التدجيل و شراء الأصوات في الانتخابات. إنه مشهد جدير بتمتيع المغرب بحياة سياسية راقية تقترب من مشهد الدول العريقة في الديمقراطية حيث التنافس يدور بين قطبين أو حزبين –على الأكثر ثلاثة أحزاب- و يكون التدافع ساريا بين البرامج و الأفكار. إنه المغرب المأمول ! على كل حال، المغرب أخذ طريقه السيار و لا عودة إلى الوراء.
أخيرا؛ رسالة أخرى تعد جوهر الرسائل، بالنسبة لي كمهتم بالأطر النظرية و الفكرية للسلوك السياسي أكثر من الممارسة السياسية، هي أن فكرة "الحتمية" التي تحرك تحليلات الكثير من المثقفين الفضلاء (منهم أصدقائي) الذين نكن لهم كل تقدير و احترام لما لهم من غيرة لا غبار عليها و رغبة صادقة في إخراج مجتمعنا من التأخر التاريخي الذي يرتع فيه؛ أصبحت هذه الفكرة بعد هذه المحطة الديمقراطية في عداد الأفكار التي تستدعي أن يعاد فيها النظر بجدية..
أقصد بفكرة "الحتمية"؛ الخطاب الذي يتضمن تشاؤما مطلقا و رؤية سوداوية لأن المسار السياسي –عندنا- حسب أصحابه لا يسير وفق التحليلات العلمية و لا وفق المسار الذي اتخذته الدول العظمى للتقدم (= أي ضرورة انتشار وعي طبقي وفق الثقافة الماركسية للقيام بثورة ثم بناء حياة حديثة..). و بالتالي أصحابه ينادون بحتمية سلوك مسلك الثورة  -بذاك المفهوم- للخروج من نفق التأخر التاريخي.
إن خط الانتقال الديمقراطي (الذي يعد شرطا لازما للانتقال التاريخي) بهذا الوطن؛ إذ ينتهج نهجا تراكميا تدرجيا متميزا يؤكد أن فكرة "حتمية" الانتقال وفق نمط معين باتت محدودة.



0 التعليقات

إرسال تعليق