| 0 التعليقات ]







سبق في مقالة "لماذا ينحرف الناس؟" أن أشرنا إلى أن منشأ الانحرافات السلوكية يعود بالأساس إلى فقدان المعنى. هنا في هذه المقالة، سنتوقف على خلفيات هذا الفقدان، أو قل معاني فقدان المعنى..
تطفح صحة مجتمعنا بعدة أمراض اجتماعية فتاكة تعيق مسيرة النهوض، لا بد من تسليط الضوء عليها للحد من انتشارها و الحيلولة دون انتقالها إلى الأجيال الصاعدة. أبرز هذه الأمراض: مرض فقدان الذاكرة و مرض فقدان القضية.  كلها تؤدي إلى الإصابة بفقدان المعنى في الحياة.

1.     فقدان الذاكرة:

من الأمراض التي تشل وجود الإنسان؛ مرض فقدان الذاكرة. هذا مرض معروف في الميدان الطبي. لكن ثمة أناس كُثر، مازالوا في ريعان شبابهم، يحتفظون بذاكرتهم: يعرفون أسماءهم، أسماء الأماكن و الأشياء، يميزون أقاربهم و معارفهم... لكنهم، مع الأسف، يعانون من فقدان الذاكرة العمودية و ذاكرة الوطن و ذاكرة الأمة و الذاكرة الإنسانية..
الذاكرة العمودية، تعبير للدكتور طه عبد الرحمان، يشير إلى العلاقة مع الله جل في عُلاه. الإنسان يفقد هذه الذاكرة، رويدا رويدا، حينما يغوص في أوحال الذنوب دون محاولة أوبة، حينما يقطع الصلة العميقة المتمثلة في الصلاة، حينما يتبلد حسه و يغرق في الألفة الغافلة فيعدم التأثر و الانفعال و التساؤل حول فرادة  خلقته و عظمة تكوينه و سعة العالم من حوله و أسرار الموت الذي يخطف الأرواح غيلة و ما بعد الموت من رحلة..
و من الطبيعي أن فقدان هذه الذاكرة العظيمة، التي توجه الإنسان في مسيرة الكدح في هذه الدنيا "حتى لا يطغى"،  يؤدي إلى فقدان ذاكرات أخرى: ذاكرات الهوية و الانتماء؛ ذاكرة الوطن و ذاكرة الأمة و ذاكرة الإنسانية.. فالله جل في علاه هو القائل: (و لا تكونوا كالذين نسُوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون). سورة الحشر:19؛ محذرا المؤمنين – على إيمانهم - من الإصابة بمرض فقدان الذاكرة العمودية، مرض نسيان رب العالمين. هذه الآية الكريمة (19 من سورة الحشر) مسبوقة بآية أخرى تحدد المعنيين بالتوجيه. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون). سورة الحشر:18.
نسيان الله، إذن، مدعاة لنسيان النفس. و النفس هنا، قد تكون موحية بمعنى عام؛ الفرد نفسه، انتماؤه الوطني، عمقه الحضاري: الأمة الإسلامية.. فالذي فقد ذاكرته العمودية، من السهل أن ينخرط في عملية انتحار بطيء: تناول المخدرات و المسكرات و السجائر.
 الذاكرة الوطنية، هي حاضنة لملاحم و سير رموز الوطن المخلصين (على اختلاف مشاربهم و ألوانهم الفكرانية) في التفاني في بنائه و العمل على نهضته. فهي ذاكرة، واجب على الإنسان، منذ مطلع شبابه؛ أن يعمل على شحذها. لأنه بالالتحام، مع هذه الذاكرة و مناراتها و فضاءاتها، يحدد المرء بوصلته و موقعه ضمن ذات حلقة البناء: بناء الوطن. و هذا الالتحام وحده قمين بدفعه للترفع عن الدنايا و سفاسف الاهتمامات.. و بالمقابل فقدان هذه الذاكرة، واضح أنه فقدان لمعنى الانتماء لهذا الوطن، فقدان لمعنى الحياة على الأرض، فقدان لعبق التاريخ.. سقوط في الأنانية، و الدوران حول اللذة و المادة.. حرمان ذاتي من معنى معانقة قيمة الوطنية و حمل هموم و تطلعات الكبار: الكبار في صدقهم و إخلاصهم للوطن و أبناء الوطن..
و ذاكرة الوطن جزء من ذاكرة الأمة الواسعة، و الالتحام بالأولى لا يُغني عن الاغتراف من معين الثانية. محور دوران ذاكرة الأمة قائم على تاريخ الصعود و الأفول في محاولات القيام بواجب الشهادة و النهوض علاوة على قضايا الطريق كقضية فلسطين.
الاحتفاظ بالذاكرة الإنسانية، هو الانتفاع من كدح الإنسان الفكري و جهده في الإجابة عن القلق الوجودي؛ من ذلك معرفة سير عظماء المفكرين و العباقرة و قادة الحركات التحررية و كل من أفنى عمره في خدمة البشرية و الترفع عن الأنانية و اللذة الشخصية، مع اطلاع حسب المُتاح على زبدة أفكارهم و خلاصات بحوثهم و اكتشافاتهم.
حاصل الكلام، هنا، إن معاول الهدم و التخريب وجهتها الأولى هي تعميق الهُوة بين الإنسان و ذاكرته بمختلف أبعادها. و بالتالي لا مفر من جعل صيانة هذه الذاكرة، بمختلف أبعادها دائما، من أوكد الواجبات.

. فقدان القضية:

من الأمور المساهمة بقوة، في تقديري، في فقدان المعنى في الحياة و الارتماء في سخافة الاهتمامات مرض "فقدان القضية" و هو نتيجة طبيعية و تلقائية للمرض الأول "فقدان الذاكرة".
فقدان القضية؛ فقدان للرسالة، فقدان للانخراط في معالجة أي إشكال، فقدان لحمل أي هَم، فقدان للذة النضال من أجل قيمة من القيم أو ملف من الملفات، فقدان لطمأنينة خدمة الناس بلا أخذ و راحة العطاء و البذل بلا مقابل. مرض كهذا، هو سجن حيثُ العذابات النفسية و الراحة السطحية المتصنعة، أسرٌ في ظلال تفكير مهووس بالسيارة الفارهة و المنزل الفخم و الهاتف الذكي و الزوجة (أو الخليلة) الحسناء. إنه مرض مثيل للموت، أو قل إنه الموت؛ فماذا تعني حياة التفاهة؛ تكرار عمل يومي رتيب بلا روح و لا إبداع و تزود من السوق و أكل و نوم و هكذا دواليك.. هكذا بدون حمل قضية أو اعتناق فكرة أو الدفاع عن قيمة مطلقة.. ماذا تعني هذه الحياة، غير البؤس و الشقاء و الموت؟
القضايا، المقصودة هنا، لها صلة قوية بأبعاد الذاكرة التي سبق الحديث عنها.
فمن عانق قضية الذاكرة العمودية بصدق، استشعر أن واجبه هو تذكير الناس بربهم، و من ثم عليه الاجتهاد قدر المستطاع في تجديد الوسائل للقيام بذلك.
و من التحم بالذاكرة الوطنية، اتضح له أن قضيته هي تعريف الأجيال الصاعدة برموز وطنهم و زعاماته ( الدعوية، الفكرية، العلمية، السياسية) أولى الأولويات حتى يتعلقوا بالقدوة الصالحة المنيرة.
و من التفت إلى ذاكرة الأمة و الإنسان، جعل قضيته الأولى هي العمل على بلورة وعي جمعي في محيطه – على الأقل- وعي تحرري حضاري و حس يقظ تجاه قضايا الأمة و وعي متبصر تجاه أسئلة الإنسان الوجودية و الفكرية مع التعريف دائما بسير رموز الأمة و كل الذين قدموا خدمة غالية للإنسانية. 
و نحن – كمجتمع  مغربي بعمقه الحضاري الإسلامي - في هذه المرحلة التاريخية في حاجة إلى كل هؤلاء، إلى كل من يقتطع من وقته و يضحي من أجل الجماعة، إلى كل من لم يفقد المعنى و يغار عليه، إلى من يُذَكرنا بربنا حق تذكير و يبصرنا بدورنا و يسلط الضوء على سير رموزنا و جهد الإنسانية من أجل حل مشكلاتها.


0 التعليقات

إرسال تعليق