| 0 التعليقات ]





لا شك أن حزب العدالة والتنمية يعيش أصعب أيامه، رغم مرور قرابة شهر على نجاح مؤتمره الوطني. كان محور الجدل القائم لشهور مجسدا في ثنائية غير معبرة هي الشخص/المؤسسات. إذا عدنا إلى الجدل المثار قبيل تنظيم المؤتمر الوطني للحزب سنة 2008، والذي شكل بحسب العديد من المراقبين منعطفا مهما في مسار السلوك السياسي للحزب، يمكن أن نقترب من الخلفيات البعيدة للأزمة الراهنة.

عرف الحزب آنذاك جدلا بين ما أطلق عليه إعلاميا "أتباع الرميد" و"أتباع بنكيران"، وكان توجه الخطين يتمايز على الشكل التالي:

ــ خط الرميد، يجسد الدعوة إلى تصليب الخط السياسي للحزب وتمحيض هويته الديمقراطية والنضال من أجل تعميق الإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي بما يعزز من رصيد الاقتراب من "الملكية البرلمانية" حيث لقاعدة "ربط المسؤولية بالمحاسبة" معنى.

ــ خط بنكيران، يرى بأن الحزب تراجعت انعكاسات مرجعيته الإسلامية على خطابه/سلوكه السياسي في فترة العثماني، لكون الأخير "تطرف" في تمييزه بين الديني والسياسي ونزع نحو منحى يجعل خدمة قضايا "الهوية" يُمر فقط عبر قناة النجاح في "التدبير".

كل التوقعات التي سبقت المؤتمر كانت تشير إلى أن العثماني سيفوز بولاية ثانية، ليس لأنه نجح فقط في تجاوز أزمة تداعيات 16 ماي 2003، ولكن لأنه بحسب متتبعين كان هو "العاصم" من الاستقطاب الداخلي (وإن لم يكن حادا كما هو عليه الحال اليوم)، أي بعبارة أخرى كان يمثل:

ــ خطا ثالثا (بدون أتباع)، يمسك العصا من "الوسط" بين أطروحة "الهوية أولا" (=بنكيران) وأطروحة "الديمقراطية أولا" (=الرميد). وحسب بعض التحليلات الصحفية لمنتمين إلى الحزب والتي نُشرت آنذاك قبل المؤتمر، لم يكن العثماني صاحب أطروحة في العمل السياسي؛ فهو فعلا قام بتأصيل جيد للتمييز بين الديني والسياسي خلاصته أن في السياسة ننشغل بأمور الشأن العام ونشتغل بأدوات السياسة، ولكن ــ يتساءل أولئك المتتبعين من الداخل ــ بأي مضمون سنشتغل في العمل السياسي في واقع مغربي منحدر وبعيد عن مرحلة "استقرار الحياة الديمقراطية"؛ هل سنناضل من أجل المزيد من الدمقرطة أم سنُدبر فقط ما هو قائم (كسائر الموظفين المأجورين)؟

كانت التحليلات الإعلامية السائدة (من داخل البيت الحزبي) تعتبر أن العثماني صاحب موقف غامض ومتردد وبراغماتي (في الوقت الذي يتحيز الخطان الآخران لقضايا مبدئية من قبيل "الهوية" و"الديمقراطية")، لذا فهو يقترب من نموذج "التدبير" بلا قلق وبلا إزعاج، وهي أطروحة مناسبة لمرحلة اكتمال ورش البناء الديمقراطي، وليس لمرحلة "الانتقال إلى الديمقراطية". على كل حال، المؤتمر الوطني حسم خيار الحزب  بتبني  أطروحة "النضال الديمقراطي"، التي كان خط "الرميد" (الذي تنازل في مؤتمر يوليوز 2008 عن منافسات الأمانة العامة) ينفرد بالدعوة إليها علانية.

لكن، في النهاية بعد سنتين ونصف في (20 فبراير 2011) وجدنا العثماني (مع بعض داعميه) والرميد (مع بعض المنسجمين مع خطه) جنبا إلى جنب في المسيرات التي "تحسم" موقفها في أنه "لا ديمقراطية بدون ملكية برلمانية".

بينما بنكيران الذي كان منذ سنة 2000 ينخرط في معارك كبيرة ضد قضايا "الميوعة" و"العلمانية" ويعتبر بأن الحركة الإسلامية جاءت لترسخ "التدين في مؤسسات الدولة"؛ توجه منذ 2008 نحو الانخراط في معارك جديدة ضد "التحكم" الذي أصبح العدو الجديد الذي يوظف العلمانية والفساد بواسطة الاستبداد للإبقاء على الأمور كما هي وحرمان العدالة والتنمية من حصصه السياسية المشروعة.

إذن، دفع سياق 2011 الخطوط الثلاثة إلى تحولات معتبرة، يمكن رصدها فيما يلي:

ــ خط بنكيران؛ أي خط مناهضة "خصوم الهوية" وترسيخ المرجعية الإسلامية في مؤسسات الدولة، تحول إلى مناهضة "التحكم في طبعته الأولى من 2007 إلى 2012" ومناكفة "خصوم مشاركة العدالة والتنمية في الحكومة"؛ قبل أن ينتقل لاحقا، بعد نجاح العدالة والتنمية في انتزاع رئاسة الحكومة في سياق معروف، إلى محاربة خصوم "الحياة الديمقراطية السليمة"  (=التحكم في طبعته الثانية ابتداء من 2013). توازى هذا الموقف السياسي مع نضوج الموقف الفكري بخصوص المرجعية الإسلامية، حيث صار (بنكيران) يعتبر أن المقصود بها انطلاق الأفراد من قيم (الصدق، الأمانة، التجرد، النزاهة... إلخ) وليس "تديين" المؤسسات كما كان يؤمن في السابق. وهو نفس الموقف الفكري السابق للعثماني والمشروح في مقال كُتب عام 2005 ونُشر في كتاب (الدين والسياسة: تمييز لا فصل) عام 2008 (عكس ما ذهب إليه مصطفى الفن في إحدى مقالاته).

ــ خط الرميد، وجد السياق منسجما مع اطروحته فانتهز الفرصة ليقبل على بطولات جسدت انسجامه مع موقفه السياسي تجلى أبرزها في احتجاجه بصراحة وعلانية على موقف الأمانة العامة، وتأطيره لمحاضرات عديدة يعلن فيها أن موعد "الديمقراطية=الملكية البرلمانية" قد حان.

ــ خط العثماني؛ أكد عبر هذه المحطة أن اختزاله في أطروحة "التدبير" غير صحيح. ولهذا اقترب سياسيا من موقف الرميد.

المفاجأة ستقع في 2017، هذه الخطوط الثلاثة ستعرف انقلابات "على الرأس": 
ــ خط الرميد وخط العثماني؛ تحالفا سياسيا في أطروحة مواصلة "التدبير" الحكومي وحماية "التدبير" المحلي بدون أفق ديمقراطي. مع تسجيل اختلافهما الفكري؛ فالرميد معروف بتشدده في فهم المرجعية الإسلامية بخلاف العثماني.

ــ خط بنكيران؛ تبنى نسبيا من الناحية السياسية أطروحة الرميد الأولى التي نادى بها قبل 2008 (أي المطالبة بالإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي بجرعات معتبرة)، وفكريا أطروحة العثماني المتمثلة في أن المرجعية الإسلامية لا شأن أن لها والخطاب السياسي للحزب أو السلوك السياسي للحكومة/الجماعات وإنما تهُمُ البناء القيمي للفرد لكي يكون محصنا ضد أهواء الجاه والمال.

لنستجمع ما تقدم من رصد في جداول تجميعية مكثفة:



الرميد
الموقف السياسي
الموقف الفكري
قبل 2008
الديمقراطية أولا
=إصلاح سياسي ودستوري ومؤسساتي
المرجعية الإسلامية
= محاربة الفساد السياسي والفساد الأخلاقي (الخمارات، العري... إلخ).
في 2011
لا ديمقراطية بدون ملكية برلمانية
المرجعية الإسلامية
= محاربة الفساد السياسي والفساد الأخلاقي (الخمارات، العري... إلخ).
في 2017
التدبير أولا
= تدبير الشأن الحكومي والمحلي في إطار المتاح وتحقيق إنجازات رقمية قدر المستطاع.
المرجعية الإسلامية
= محاربة الفساد السياسي والفساد الأخلاقي (الخمارات، العري... إلخ).



العثماني
الموقف السياسي
الموقف الفكري
قبل 2008
التدبير أولا
= تدبير الشأن الحكومي والمحلي في إطار المتاح وتحقيق إنجازات رقمية قدر المتاح والمستطاع.
المرجعية الإسلامية = اتصاف الأفراد بخصال الأمانة والنزاهة والصدق وحسن النية خوفا من الله والدار الآخرة.
في 2011
الديمقراطية أولا
=إصلاح سياسي ودستوري ومؤسساتي
المرجعية الإسلامية = اتصاف الأفراد بخصال الأمانة والنزاهة والصدق وحسن النية خوفا من الله والدار الآخرة.
في 2017
التدبير أولا
= تدبير الشأن الحكومي والمحلي في إطار المتاح وتحقيق إنجازات رقمية قدر المتاح والمستطاع.
المرجعية الإسلامية = اتصاف الأفراد بخصال الأمانة والنزاهة والصدق وحسن النية خوفا من الله والدار الآخرة.



بنكيران
الموقف السياسي
الموقف الفكري
قبل 2008
الهوية أولا
المرجعية الإسلامية = محاربة الفساد الأخلاقي: العري والمهرجانات والربا والخمر والقمار... إلخ.
في 2011
الديمقراطية = مشاركة العدالة والتنمية في الحكومة
المرجعية الإسلامية = محاربة الفساد السياسي.
. توظيف الدين في الخطاب السياسي (الله هو الرازق، الجنة عند الله... إلخ).
في 2017
الديمقراطية أولا
= عدم التراجع عن الإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي

المرجعية الإسلامية = اتصاف الأفراد بخصال الأمانة والنزاهة والصدق وحسن النية خوفا من الله والدار الآخرة.



يبدو أن الخط  الذي عرف انقلابا غير مسبوق  في موقفه السياسي هو الرميد. أما العثماني فقد عُرف دائما، كما يقول العديد من المراقبين من داخل الحزب، بغموضه و"تردده" و"براغماتيته". بينما بنكيران استخلص أجود ما لدى الاثنين واستثمره بطريقته الخاصة: الموقف الفكري للعثماني بخصوص مفهوم المرجعية الإسلامية، كما استفاد من زبدة الموقف السياسي لغريمه الرميد المتمثل في العض بالنواجذ على الإصلاح (السياسي والمؤسساتي، بل والدستوري كما جاء في خطابه في ملتقى الشبيبة 2017 في فاس) بدون أن يرقى إلى الإيمان بالملكية البرلمانية. ولكن الدرس الكبير الذي نتلقفه هنا هو أن المواقع (رأس الأمانة العامة، راس الحكومة، رأس وزارة هامة) لها تأثير كبير على المواقف.

0 التعليقات

إرسال تعليق