| 0 التعليقات ]




في نقاش حامي الوطيس مع مجموعة من الإخوة الأفاضل حول الأسئلة الوجودية الضخمة والأدوار المنوطة بالإنسان، هاج هائج أحد الإخوة فصاح: نحن جئنا لنطبق شرع الله، ونغير هذا الطاغوت الذي يسود في الواقع..
أتفق في المنطلق مع صاحبي. فالمولى جل وعلا جعلنا خلائف الأرض –أرضه- ولا مناص لأي نائب أو ممثل أو خليفة من أن يتبع خُطا مستخلفه ويستنير بشرعه وتوجيهاته. أي بعبارة أخرى لا مهرب له من أن يبحث عن مُراد الذي ناب عنه. ولله المثل الأعلى ! 
لكن الجديد في نيابة الإنسان واستخلافه أنه كائن كان أكثر شيء جدلا، قبل بحمل أمانة عظمى هي (حرية الاختيار)، كائن مطبوع بالتمرد والانطلاق من القيود والرفض والانتفاض. لهذا جاء "شرع" المستخلف (أي المولى جل وعلا) مستحضرا لطبيعة هذا الكائن. جاء "شرع" المولى مكتفيا بوضع للإطار العام لعلمه بمقدرة الإنسان على الاقتراب من مُراد الله بقدر توغله في ميادين المعرفة وإنصاته لنداء الفطرة.  "فالشريعة صامتة لا تتكلم إلا حين يوجه الناس إليها الأسئلة منتظرين أجوبتها، ولا تُفهم إلا إذا أدخلوها في حنايا عقولهم وأسكنوها مع غيرها من الساكنين. يطرح البشر التي تناسب علومهم، ويفهمون إجابات الشريعة فهما منسجما وعلومهم، ولذا فإنها لا تخاطب الجميع بالطريقة ذاتها. إن الدين، وإن كان صامتا، وإذا تكلم فإنما يقول كلامه هو وليس كلام الآخرين". (عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، دار الجديد: بيروت، الطبعة الثانية، 2010، ص:32)
نعم، نحن خلفاء الله على أرضه ومهمتنا هي تطبيق شرعه. لكن أمر استكناه شرع الله والاقتراب من مراده سبحانه ليس أمرا ناجزا وجاهزا وثابتا. إنما هو أمر يرافق الإنسان والإنسانية في رحلة الكدح إلى الله. وما الكدح سوى جهد الإنسان وكبده وصبره ومعاناته في سبيل الاقتراب من هذا المراد الذي لن ينجلي إلا يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قد يعن للإنسان فهم مفاده أن مُراد الله واضح في آية سورة الذاريات وهو إخلاص العبادة للحي القيوم. إن الإشكال لم يتم و لن يتم رفعه بهذا القول، لأن فهمنا لمرامي العبادة يتجدد؛ صحيح أن هناك عبادات موقوتة قارة تتغي التزكية الروحية للإنسان، لكن هناك مجال شاسع فسيح للتفكر والتأمل في كنه العبادة، لأنه باختصار: الله جل في علاه لا يمكن أن يخلقنا لمجرد صلوات قد تستغرق ساعة في 24 ساعة أو صيام شهر ضمن 12 شهرا أو إنفاق أموال محدودة.. فالبحث عن المُراد من العبادة يبقى مستمرا متجددا ورهينا بأفق الإنسان المعرفي ومدينا للعالم الجُواني للإنسان المحفوف بالأسرار والبدائع بلا انقطاع.
إن مطلب تسييج شرع الله، وإن كنت أستحسن الحديث عن مُراد الله، مطلب عسير المنال. فهو مرتبط بقدر استعداد الإنسان والعقل الجمعي لالتقاط لطائفه وإشاراته. فهذا الإمام ابن القيم الجوزية يخصص كتابا كاملا (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية أو الفراسة المرضية في أحكام السياسة الشرعية) ليعلل فكرة بديعة مفادها أن فراسة الإنسان تقربه من مراد الله في مسألة من المسائل اللصيقة بحياة الناس.
يقول: "السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسول، ولا نزل به وحي". (ابن القيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى، 2002، ص:17)
هنا يتضح، أن الإنسان بالخبرة التي راكمها والتجارب التي خاضها والمعارف التي توصل إليها والفطرة التي لا يصمت نداؤها بإمكانه أن يقارب مُراد الله في المسائل التي تعرض له في الحياة وهو مستغن عن الوحي، لأن الوحي يحوي إشارات فقط تكتفي بوضع الإطار العام ولا دخل له في التفاصيل والمستجدات.
ويقول في نص آخر: "إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات. فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه. وقد بين سبحانه بما شرعه من الطرق، أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين." (ابن القيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى، 2002، ص:18)
هنا يؤكد بجلاء أن مراد الله أو شرعه ليس ناجزا ولا الطريق إليه  واحد. فهو حسب أفقه الإدراكي وباستحضاره للنص القرآني (الآية 25 من سورة الحديد) يذهب إلى أن شرع الله أو مراده أو غاية غاياته من الاستخلاف هو إقامة العدل. وأينما ثم العدل فثم شرع الله.
قبل فض الكلام، نعم جئنا، يا صاحبي، لنطبق شرع الله. لكن جئنا كذلك، أولا وأخيرا، لنكدح ونجتهد ونتعلم ونعاني في رحلة البحث عن مراد الله. وفي هذه الرحلة، رحلة الكدح إلى الله، تجلو المعادن النفيسة و يذهب الزبد جفاء ويمكث ما ينفع الناس في الأرض وتكتمل إنسانيتنا. ولا يحق لأحد أن يصادر مطلب الإنسان في أن يبدأ رحلته من أية نقطة انطلاق شاء، فالمهم أن نقترب من نقطة الوصول، حيث أنوار الله تشع وإنسانيتنا تشرق، والخير يعُم ويفيض !



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




ثمة علامات شتى توحي بأن طوفانا جارفا على الأبواب. إنه عالم جديد يتغلغل شيئا فشيئا في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والفكرية بالخصوص. نحن على مشارف عهد جديد، قد يطول لعقود معدودة، لكنه يحمل مفاجآت قاسية، ما لم ننتبه. إن الأحداث السياسية لا تلعب دورا مهما سوى في تسريع وتيرة الانقلابات على مستوى البنى الاجتماعية والفكرية، وإن كان يعتقد كثيرون أن العكس هو الصحيح؛ الزلزال الفكري ينتقل إلى البنية الاجتماعية لينقلب السطح السياسي.
 على كل حال، إن حراك 2011 وإن لم يحقق أهدافه المباشرة المرجُوة فإنه أحدث شروخا قوية في البنى الفكرية والاجتماعية التقليدية. إن جيلي وأمثال جيلي؛ واجب علينا أن نحمد المولى جل وعلا أن قدر أن نكون وأن نبدأ رحلة التفكير في الوقت الذي تزامن مع هذا الحراك (كاتب هذه السطور، أول مقالة فكرية كتبها في نونبر 2010 شهر قبل بداية حراك الشباب التونسي). نعم، إنها لنعمة عظيمة أن تتزامن لحظات انبثاق وعينا مع هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، حتى لا نكرر نفس الأخطاء ونستفيد من الدروس التي يحكيها الواقع كل يوم وننتبه لأغلال كان من الصعب الانتباه إليها فيما مضى، هي أغلال الإيديولوجيا.
لقد دأب الناس على الاستهانة بكل أمر جديد، إذا كان مخالفا لتقاليدهم ومعتقداتهم القديمة. ولكنهم لا يكادون يعتادون عليه حتى يتعصبون له مثلما كانوا يتعصبون ضده قديما. ولله في خلقه شؤون! (علي الوردي، أسطورة الأدب الرفيع، شركة دار الوراق، الطبعة الثالثة،2015، ص:140)
وإن كنت أنسى كثيرا فلن أنسى الأيام الأولى التي يضيق فيها الأفق وينعدم فيها التفكير الجاد وتعلو فيها العاطفة الجياشة ويخفتُ فيها صوت العقل الرزين. لن أنسى يوما وجدت فيه أحد الأصدقاء وكان يتحدث بشكل عادي عن الموسيقى وكيف يتسرى بجميل إيقاعاتها الهادئة في بعض أوقاته، فلم يكن مني إلا أن خاطبتُه –أنا وأحد زملائي- بما نتصوره موقفا متوترا للشرع بخصوصها، ساعتها تفاجأ الصديق بالموقف الجديد وهو الذي كان متدينا يحافظ على صلاة الفجر في المسجد منذ آنذاك إلى يوم الناس هذا. بعدها أصبحتُ مائلا إلى المرونة أكثر في التصور المفترض عن الموقف المتوتر للشرع بخصوص الموسيقى وغيرها (بعد تراكم المقروء وتأملات ونقاشات)، وأمسيتُ متعبا في إقناع صاحبي بالموقف الجديد، فهو قد بات معتبرا نفسه من حراس موقف الشرع ينعى على الناس والمحيط تسلل بعض الكلام الجميل إلى آذانهم!
قصص كثيرة لا تُنسى شبيهة بالسالفة الذكر. قصة أخرى بخصوص مسالة المصافحة. أعرف أصدقاء كُثر لم يكن لديهم أدنى علم بالإشكال الذي تثيره، كلهم متدينون محافظون على صلاة الفجر في المسجد ومازالوا –بفضل الله- إلى اليوم على نفس الطريق. في نقاش معين يجري الحديث مجرى إثارة هذه المسالة، يستصعبون بادئ ذي بدء الموقف الجديد على أسماعهم وأذهانهم، ثم أجدهم بعد ذلك من كبار المنافحين بل المتشدقين بالامتناع عن المصافحة.
هذه قصص في مسائل بسيطة محدودة جدا بالنظر إلى تحديات الحياة وأسئلة الراهن وإشكالات الفكر والسياسة والاقتصاد.. كلها تؤشر على أن الإنسان ضعيف وينبغي أن يتواضع. الإنسان يقبل في البدء ما يدخل ضمن مألوفاته الإدراكية وعوائده الفكرية، وكلما أخبرته بموقف جديد سرعان ما ينتفض ويرفض.. إلا أنه بعد حين يتمسك بالموقف الجديد ويتعصب له ويفسد علاقاته الاجتماعية وقد يقطع رحمه من أجل الوافد الجديد على بنيته الذهنية.
 السنوات المقبلة، الله أعلم بما تحويه أحشاؤها من مفاجآت صادمة، لكن المؤكد أن الفكر التقليدي الذي يعزف على أوتار عاطفة الناس سيحتضر و سيوارى الثرى. لأن تحولات الواقع وتموجاته في تفاعلها مع الأفكار والتصورات (عن مواقف الشرع في مسائل تدخل في نطاق حياة الإنسان المتغيرة) ستتمخض لا شك عن رؤى مغايرة.
إن الفترة السابقة، ما قبل 2011 (بالمناسبة، حدث 2011 يعتبره العديد من الأكابر ضمنهم الفيلسوف أبي يعرب المرزوقي: ثاني ثورة هامة بالنسبة للأمة بعد الثورة النبوية، بعد البعثة)، كانت فترة تأسيس طبع عليها بل غلب عليها طابع ردود الأفعال إزاء صدمة الاستعمار واكتشاف العالم الحديث. والمرحلة التي نعيش فيها اليوم، بعد 2011، هي استمرار لحالة الفوضى والتيه ومزيد من التجريب، أقصد هنا الجانب الفكري والاجتماعي الذي لا ينتبه الناس إلى ما يعتمل فيه من تغيرات جذرية تفوق هزات الوضع السياسي.
ولا شك أن مرحلة الاستقرار والحياة في أمن وأمان قادمة لا محالة. لكن المحتوى الفكري والنموذج الاجتماعي الذي سيتقمصه المجتمع القادم سيكون مباينا بشكل كبير لما نتصوره. لأن أغلب تصوراتنا الفكرية والاجتماعية نجمت عن ردود أفعال ولم تكن تفكيرا في مرحلة الاستقرار يُستحضر فيه روح الإسلام وتحديات العصر بعيدا عن هاجس الهوية والاستلاب وشبح أفول الأنا وصعود الآخر. والأكيد أن الآراء التي تعتبر اليوم شاذة في شؤون الفكر والاجتماع هي التي ستسود، لأنها لم توصف بالشذوذ إلا لكونها شذت عن منطق ردود الأفعال وهجسها الصواب ولم تبالي بالآخر بل التفتت كل الالتفات إلى كيف سيكون برنامجنا نحن لا كيف سنكون في برنامجهم.
صحيح، أن البعض قد لا يستشعر خطورة الطوفان الذي أتحدث عنه. والإنسان عدو ما جهل. وأنعم بها من جنة وراحة وطمأنينة يفرزها الجهل! الإنسان مادام جاهلا بمعنى لا يملك الدراية بما يجري في الساحة الفكرية وتأثيرات ذلك على الساحة الاجتماعية فإنه سيكون مطمئنا وسيكون حالما وهو صادق. لكن مع الأسف الشديد، الأمر ليس كذلك. فما لم ننتبه قبل فوات الأوان سيكون الطوفان القادم جارفا سيقتلعنا من جذورنا وسينتزع منا أرواحنا وسنقف مشدوهين أمام الإلحاد والانتحار وغيرهما من الملاذ الذي سيسعى إليه الإنسان لرفع التعارض بين ما في واقعه الذهني وما في الواقع الخارجي.

إن الاستعداد للطوفان القادم يبدأ من العودة بجد إلى متابعة ما يدور في المكتبة. إن هذا الاستعداد ينطلق أولا من إعادة قراءة الكتابات التي طالما ثلبها مفكرونا وصارت أفكارها اليوم ضمن دائرة المقبول. إن إعادة قراءة الكتابات التي طُمست أفكارها بفعل الصراع الإيديولوجي من شأن ذلك أن يعطينا صورة عن الأفكار التي سنتقبلها بسرعة ودون مرارة بعد عشر سنوات. إذن، حتى لا نُضيع سنوات أُخر فلنبدأ القراءة من الآن ولنتأمل من الآن، حتى نحتفظ بروحنا ونصون جوهرنا في  مستقبل الأيام، فالطوفان قادم ليس محالا!


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]







حسن البنا، معلم بسيط أقامت دوائر الامبريالية والاستعمار في أمريكا احتفالات بهيجة، فيها هز البطون ودق الطنبور ورائحة الخمور، لمقتله و إعلان نهاية حياته. أسس الرجل تنظيما صارما لم يُقدر لأي تنظيم في العالم العربي-على الأقل- أن يُعمر مثلما عمر واستمر. العالم كله، اليوم، لا حديث له سوى هذه الظاهرة "الإسلامية" التي يقال أنها من نسله؛ تُصرف الأموال الطائلة على مراكز الأبحاث والدراسات لمعرفة هذا "الأخطبوط" المرعب أو للاقتراب من حقيقته على الأقل.
يتم التوقف طويلا عند يافطة التطرف الديني وخطابات العنف والإكراه والتكفير التي شاعت كثيرا في الآونة الأخيرة ويمتطي صهوتها زمرة من الأميين بدعم مفضوح من الدوائر الاستخباراتية العالمية التي تريد إشاعة صورة نكراء عن الإسلام السمح. فلا يتوانى المتوقفون من ربط جذور ما يجري وما يشيع من جرائم باسم الدين، من ربط كل ذلك بحسن البنا وجماعته. حسن البنا الذي لم يتورط إطلاقا في دعوة ملغومة إلى العنف، حسن البنا الذي اعتبر الأفراد المتورطين في التنظيم الخاص السري الذي باشر اغتيالات محدودة في نهاية الأربعينات "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين".  حسن البنا، سنقف في هذه السطور مع بعض إضاءاته و نُثارات من إشراقاته لنعيد اكتشاف حسن البنا ولنؤكد أن من اتخذ الصادقين الحكماء المتبصرين قدوة لن ينتسب إطلاقا لجوقة الأميين الذين يعتلون المنابر ويجيدون التحريض والتصنيف.  

1-      عدم الإكراه على الانتماء إلى التنظيم:


إن المنطق الضيق الأفق هو الذي يوجه أصحابه  إلى اعتبار عدم انتماء الأقرباء والأصحاب والناس عامة إلى تنظيمهم وجماعتهم جنحة من الجنح بل جريمة الجرائم. يكون، حسب هذا المنطق، الشخص غير المنتمي لنفس الجماعة والذي اختار تنظيما آخر والانحياز لفكرة أخرى مدعاة للتجريح والنفور والكلام في النيات والأعراض.. إن هذا المنطق الأعوج  الذي يعتبر من ليس معي فهو تلقائيا عدوي و ضدي وهو خائن وهو متكبر ومتعالي وباحث عن البروز (بقاعدة "خالف تُعرف")؛ إن هذا المنطق المريض لم يعرف سبيله إلى منهج إمام الدعاة في العصر ومجدد الهمم والعزائم الأستاذ حسن البنا. وإن كان هناك أحد قد يُسمح له –سهوا- بتبني هذا المنطق خاصة مع أقربائه ومحيطه فهو الأستاذ البنا باعتباره قائدا، في سن مبكرة، لتنظيم فيه مئات الألوف يتسابقون لخدمة الأفكار التي طورها. الأستاذ حسن البنا لم ينهج هذا المنهج ولم يتبنى هذا المنطق حتى مع أصغر إخوته بل تلميذه الذي درس عنده في الصف الابتدائي وهو شقيقه جمال البنا الذي ولد سنة 1920 أي يصغر حسن ب14 سنة، فالأستاذ البنا من مواليد 1906.
اختار جمال البنا الشقيق الأصغر والتلميذ النجيب طريقا آخر ولم يختر "الإخوان"، بل كتب كتابات تحمل مضامينها نقدا مضمرا للاتجاه الفكري لمدرسة "الإخوان". غير أن الأستاذ حسن البنا ذي الأفق الواسع والصدر الرحب لم يحقد على شقيقه ولم يُصنفه ضمن زمرة الخصوم والأعداء والخونة بل راح يدعو الإخوان لقراءة كتابات شاب مشاغب لم يتجاوز 25 ربيعا وراح يستحث هممهم لمحو أميتهم في قضايا السياسة والشأن العام بمطالعة رسائل الشاب جمال البنا الذي اختار تأسيس حزب جديد هو حزب العمل الوطني الاجتماعي.
 يحكي الأستاذ جمال البنا قصته المثيرة مع الأستاذ حسن البنا بضمير الغائب. كان حسن البنا يدرك أن في أخيه تميُز "الرسالية" الذي توافر فيه كما توافر للوالد، وكان هذا سر تقريبه رغم الاختلاف، أو كأنما كان يقرب جمال البنا مثلما يحب شاب أشقر فتاة سمراء، فالاختلاف أدى إلى الترابط لا إلى التنافر. وقد لمح حسن البنا لشقيقه الصغير برغبته إلى أن يعمل إلى جانبه في مناسبتين:
كانت الأولى عندما حديث عن علاقة السيد رشيد رضا الشيخ محمد عبده، ثم علاقته بابن عمه الذي كان يحمل اسم "عاصم" ويتولى إدارة أعماله، و لكن جمال البنا صمت، فكان عزيزا عليه أن يرفض هذه الثقة، و في الوقت نفسه فإنه لا يستطيع القبول، وأدرك حسن البنا الموقف بألمعيته وذكائه فغير الحديث، وفي مناسبة أخرى عندما قبض البوليس على جمال البنا وبعض أعضاء حزب العمل الوطني الاجتماعي بعدما قاموا بتوزيع منشور عن ذكرى ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية بالمدافع تمهيدا للاحتلال. وأرسل الأستاذ حسن البنا بأحد أعوانه فقابل سليم زكي حكمدار القاهرة الذي أصدر أمره فورا بالإفراج عنه، و لما عاد قال له: "أنت تكدح في أرض صخرية صلدة، ونحن لدينا حدائق تثمر أشجارها فواكه تتساقط وتحتاج لمن يلتقطها"، ورد جمال البنا بأن فواكه الإخوان ليست هي الثمار التي يريدها، ولم يتأثر حسن البنا بهذا الرد، ولكنه نصح شقيقه بتغيير اسم "حزب" إلى "جماعة" حتى لا يصطدم الحزب الناشئ بالحكومة وهو في نشأته، وهو ما أخذ به جمال البنا.
ويصور هذا سعة أفق حسن البنا وحُسن إدراكه وفهمه لشقيقه الصغير، وكان جمال البنا يدلي بتحفظاته على فكر الإخوان للإمام البنا، وكانت عن المرأة والفنون والسياسة... ، وكان هو يسمع، ويبتسم ولكنه لا يعقب، فما ذكره جمال البنا ليس جديدا عليه، فقد كان حسن البنا مطلعا على الكتابات الحديثة، ولكنه كان قائدا للجماهير، وقائد الجماهير بقدر ما أنه يقودها ويدفعها، فإن الجماهير تمسكه وتقيد خطوه بمستوى فهمها بحيث لا يجاوز هذا الفهم إلا قليلا، كما أن حسن البنا كان يعمل بسياسة المرحلي ويؤمن بأن الزمن جزء من العلاج، و أن لكل مشكلة وقتها، فقد كان مؤمنا بإعطاء المرأة حقا أكبر من الحرية، ولكن في وقت معين، ولو ترك لأصلح الكثير مما لم يفسح له المجال لإصلاحه. (قضية القبلات وبقية الاجتهادات وكذلك من هو جمال البنا؟ وما هي دعوة الإحياء؟، جمال البنا، دار الفكر الإسلامي القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، ص: 132-133-134).


2-      الإيمان بحرية الإنسان:

كثيرا ما يمتعض الممتعضون من تقصير الناس في أداء حقوق الله جل في علاه. لكن أحيانا لا يكون الامتعاض نابعا من قصد سليم وغيرة حارة صادقة. فالذي يرى شقيقه أو ابنه تاركا للصلاة؛ إذ يمتعض من هذا الشرود، لا ينطلق من خوف صادق على مصيره في الدار الآخرة ولا من حسرة جادة على فقدانه لمورد لا يُعوض من موارد التزكية ورفع المعنويات والاتصال بالعلي الأعلى، إنما يهجسه هاجس الاعتبار الاجتماعي وما يقوله الناس أي أن يعرف محيطه ومعارفه وأصدقاءه أن ابنه تارك للصلاة وأن شقيقه لا يعرف إلى أبواب المساجد طريقا.. ولو كانت الغيرة الصادقة على مصير الأحبة في الدار الآخرة، الذي لا يعلم أحد كيف هو إلا الله، لدعا مع أخيه وابنه بظهر الغيب دعوات حارة يومية ملحاحة ليكون من المهتدين والمصلين. وأحيانا يترتب على هذا التفكير الذي ينصرف إلى الاعتبار الاجتماعي أو الطقس التعبدي الشكلي سلوكات ناشزة من قبيل إكراه الراشدين (الأبناء والأشقاء) على الذهاب إلى المساجد أو صلاة الجماعة في البيت؛ وكل هذا يؤشر على افتقادنا لجوهر العبادات وما تدل عليه من حرية الإنسان الباطنية أي من حيث استعداده الحر للاتصال مع ملك الملوك ومناجاته بأشواق المعرفة والوصول.
حسن البنا إمام الدعاة الواسع الأفق لم يكن من هذه الطينة التي تُكره الناس على الصلاة ليتسمى بأن "فلان صلى بعدما دعوته للصلاة". بل كان يدعُ الناس وحالهم ويكتفي بالتذكير الذي هو وظيفة كل داعية مرب أصيل موصول بسيرة المصطفى الأمين. لم يُكره شقيقه الأصغر على صلاة الجماعة وإنما كان يدعه وحاله لأنه يعلم أن "المحاضرات" الرتيبة التي قد يلقيها على مسامعه قد يجيد جمال حبك وعرض ما يفوقها.
حسن البنا مؤمن كبير بحرية الإنسان، وكيف لا يؤمن بالحرية من يتمسك بأهداب روح الإسلام الذي "إذا نظرنا إلى شريعته نجد أنها تعتمد قبل كل شيء على وجدان الإنسان لا على قوات السلطان؛ فبعض التنظيمات القضائية أو الدولية ليست في نظره إلا وسائل تنظيم إداري، تتعلق بالاهتمام بشؤون الناس أكثر مما تتعلق بحكمهم. إنها ذات مهمة هي إسعاد الناس وتدبير مصالحهم؛ لا مراقبتهم والتدخل في شؤونهم الخاصة". (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الطبعة الخامسة، 2008، ص:11)
 يحكي جمال البنا بضمير الغائب ما يؤكد ما ذهبنا إليه. عندما شغل جمال البنا منصب إدارة مطبعة الإخوان، لم يلتزم بما كان يلتزم به العاملون في "الدار" من آداب وتعاليم إسلامية سواء كان في أداء الصلاة أو في الحرص على قربات...، فكثيرا ما كان معاون الدار الشيخ عبد البديع صقر يأتي إليه مؤذنا لصلاة الظهر ليصلي جماعة، وكان جمال البنا يصرفه لانشغاله الشديد بتصحيح بروفة حتى لا تتوقف عجلات ماكينة الطباعة، وعندئذ يهرع إلى الأستاذ حسن البنا ويقول: إن غرفة جمال البنا وكر تاركي الصلاة، فيقول له: "دعه وحاله".
وكان حسن البنا يتابع تقدم شقيقه، وروى الشيخ عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف الأسبق بالأردن أنه عام 1946 كان يطلب العلم في الأزهر، ودخل مع مجموعة من إخوانه على المرشد فوجدوه يقرا في كتاب "على هامش المفاوضات"، فقال لهم: "تعلموا السياسة من هذا الشاب، لقد أصدر حمال رسالة حسنة عن المفاوضات"، ولم يصده عن ذلك أنها كانت تصدر باسم "حزب العمل الوطني الاجتماعي". (قضية القبلات وبقية الاجتهادات وكذلك من هو جمال البنا؟ وما هي دعوة الإحياء؟، جمال البنا، دار الفكر الإسلامي القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، ص:135).

إن سعة الأفق ثمرة طبيعية للاطلاع الواسع والانفتاح على مختلف ألوان الحكمة البشرية وفتوحات العلوم الإنسانية كما أنها سمة تسم كل من يتعلق بروح الإسلام وغاياته قبل أشكال وسائله وطقوس عباداته. لا غرو، إذن، أن نجد حسن البنا القارئ النهم الذي يلتهم جديد المترجمات في علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما، كما يقول الدارسون المحققون لحياته، مدركا للمعاني والجواهر ومتجنبا لمنطق استعداء الآخر المختلف ورافضا لسبيل الإكراه والإلجاء على أداء العبادات.

إن حسن البنا ذي الأفق الرحب حري بالجماعات الإسلامية التي تزعم صلة لها به أن تعيد اكتشافه وتجدد صلتها بإشراقاته وإلماعاته، وجدير بالباحثين في جذور العنف والإرهاب باسم الدين أن يعيدوا النظر في الأحكام الجاهزة التي يتفوهون بها في حقه، كما أنه حقيق بهم أن يسلطوا الضوء على أمثال هذه الإشارات المتنورة لصد تيار الغلو والتطرف الذي يقتات من التضييق على الصور المنيرة للتدين المتنور والرباني العميق في ذات الوقت.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




تحل الذكرى السابعة و الستين لاستشهاد أحد أبناء هذه الأمة البررة. تحل هذه الذكرى ومشروع هذا الابن البار الذي جعل عمره القصير (حوالي 42 عاما) فداء له؛ يتعرض لحملات هنا وهناك، شعارها الأوحد: أصل كل الشرور ومنبع كل الحرائق والتفجيرات ومصدر كل العنف والإرهاب ومبعث كل التطرف والتخلف هو هذا المشروع القروسطوي اللعين والماضوي السحيق: مشروع الحركة الإسلامية.. ومشروع أم الحركات: الإخوان المسلمون. كل من بدأ واجدا قلمه مائلا إلى الكتابة والتحرير يسمي نفسه باحثا في حركات الإسلام السياسي ويختزل كل مطبات المجتمعات والحكومات في العالم العربي، على الأقل، في مشروع أحفاد حسن البنا. بل هناك منهم من يصر، استبلادا للقراء والمتلقين، على أن أحفاد حسن البنا تحالفوا مع أمريكا ودوائر الامبريالية العالمية لإحداث ما سُمي بالربيع الديمقراطي (في 2011-2012-2013) للانقضاض على السلطة والحكومات.
استكثروا على أحفاد حسن البنا أن يكونوا في السلطة في عقر دارهم سنة غير مكتملة: قالوا عنهم ما لم يقَل في الشيطان. بل حتى الشيطان؛ أمهله الله جل في علاه إلى يوم القيامة وأتاح له الحرية الكاملة ليقيم مشروعه على الأرض القائم على الإغواء والوسوسة والإغراء. لكن الإخوان الكرماء (والناس يشهدون بخدماتهم الاجتماعية التي يقل نظيرها في العالم) ربما لا يستحقون من أبناء وطنهم ما استحق الشيطان من الله العلي الكريم (وإن كنت أنسى فلن أنسى معطى هاما يؤشر على مقدار الحقد الذي يكنه البعض للإخوان والشماتة التي يستشعرها وهو يرى الانقلاب الدموي الظالم على التجربة الديمقراطية الفتية؛ فغداة يوم الانقلاب حوالي مستهل يوليوز 2013 ذهبتُ إلى الثانوية بهدف رؤية النتائج فإذا بي أصادف أحد أساتذتي الذي ينتمي إلى حزب الاتحاد الاشتراكي يخاطب أحدهم بكلام يتقطر شماتة وحقدا وبأسلوب ساخر ويخبره بسقوط طائرة الإخوان). حتى أقرباؤهم في تونس الصغيرة (النهضة)، عز عليهم أن يستمروا في قيادة حكومة بتراء فراحوا ينسفون ويٌفجرون ويؤلبون لتستقيل الحكومة مرات ومرات. وجاءت داعش بجرائمها النكراء في حق الإنسانية فراحوا يبحثون لها عن جذور ولم يفهموا أبدا أن التضييق المستمر على الإخوان كحركة اجتماعية وطنية مسالمة  تخترق مجموعة من المجتمعات في العالم لن يفرز سوى داعش بل أسوأ من داعش لا قدر الله.
دعونا نتساءل، أين كان هناك مشروع ناضج لدى حزب من الأحزاب أو حركة من الحركات في أوطاننا لنحاسب الإخوان وعموم الحركة الإسلامية على محدودية فهمها لطبيعة الدولة والسلطة وأسئلتهما والأجوبة الملائمة لإشكالاتهما؟ أين كان هذا؟
هل عند الحركة الاتحادية –التي طالما عبرنا عن تقديرنا غير المحدود لمدرستها وفكرتها النبيلة- التي تورطت في بداياتها، في الستينات بالخصوص، في أحداث عنف وأحلام من هذا القبيل.. هل هناك من يعتبر الحركة الاتحادية حركة سياسية رجعية وهل هناك من يتهمها بالعقم على مستوى النظر السياسي (من حيث إدراكها لطبيعة تناقضات الدولة ومآلات العنف والثورة)؟ لا طبعا، لأنها قامت بنقد ذاتي جريء ومشهود في منتصف السبعينات وقدمت للوطن من مدخل النضال الديمقراطي الشيء الكثير.
هل هناك من تجرأ مثلا وقال إن حركة أقصى اليسار (اليسار الجديد) التي تنحدر منها أغلب الأحزاب اليسارية المبدئية القابضة على جمر الوفاء للديمقراطية كمبدأ وممارسة؛ لا تُجيد السياسة وتملك مشروعا تدميريا للوطن.. لأنها كانت في نهاية الستينات وبداية السبعينات تعتقد سبيل العنف الثوري كسبيل واحد ووحيد لإحداث التغيير أو أنها كانت ضعيفة من ناحية التحليل السياسي وإدراك مآلات المواقف غير المحسوبة في القضايا الرمزية الحساسة كقضية الوحدة الترابية. لا أحد، بإمكانه أن يقول هذا. ولا أحد بإمكانه أن يشير إلى أن هذه الأحزاب اليسارية، التي فيها صفوة أساتذة العلوم السياسية، ذات مقدرة تفسيرية أو تحليلية للوضع السياسي تتسم بالقصور؛ لأنه، باختصار، حركة أقصى اليسار  دشنت بدورها مسلسلا هاما من النقد الذاتي: انطلقت به إلى رحابة العمل السياسي الحزبي المدني وشاطئ النضال الديمقراطي والحقوقي.
وقس على هذا، حركات وأحزاب المشرق: لن تجد أكثرها قد بدأ عمله بالنضج اللازم للسياسة بل لن تلفيها إلا وهي غارقة في الطوباويات والأحلام الكبيرة الفاقدة لأي صلة بالواقع الموضوعي الذي تعيش فيه.
إذن، فمن حق الحركة الإسلامية أن تُخطئ كما أخطأ غيرها. ومن واجبها تدشين عصر جديد من النقد الذاتي. ولكن النقد الذاتي لن يكون موجها إلى الوجهة الصحيحة إلا إذا تم السماح لها بممارسة حقوقها المشروعة في التدبير و السلطة، كي تطعم الممارسة النقدية النظرية بدروس التجربة العملية (والحركة الإسلامية في تونس والمغرب رائدتين في مضمار النقد الذاتي: لكن مازالت الحاجة إلى إعادة النظر في مجموعة من الأمور قائمة بشكل كبير). متى نؤمن، يا سادة، أن الوطن يحتاج إلى الحركة الإسلامية وإلى الحركة الأمازيغية وإلى حركة اليسار الجديد وإلى روح الحركة الاتحادية. وسائر أوطاننا تحتاج إلى هذه الشراكة.
إن كان من حسنة لربيع 2011 وما خلفه من زهور معدودة، فهي حسنة النقاش بصوت مرتفع في كل الموضوعات التي كان يتعسر الخوض فيها بهذه الجدية في الفترة السابقة.



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



عاد أحد أصدقائي من فرنسا غير آسف على العودة. عاد بعد سنة ونصف من تجربة الغربة؛ حصل على باكالوريا علوم رياضية يونيو 2014. عاد بعدما انتصر لتحيزات محتواه الداخلي، قائلا: المشكل نفسي بالدرجة الأولى، لم أرتح هناك، الجو لا يلائمني.. لهذا اتخذت قرار العودة. كنت في طليعة المتفوقين في دراستي بل كنت مُتصدر صفي الدراسي. كنت في الشعبة التي يعدها الكثيرون غاية المراد من رب العباد، شعبة الرياضيات في الأقسام العسكرية التي تسمى خطأ ب"الأقسام التحضيرية".
حاولتُ إثناء صاحبي عن قراره الشجاع وغير المسبوق، لكني استسلمتُ لمنطقه الذي يتناغم مع منطقي. إنه المنطق الذي ينتصر للمعنى وينحاز للمحتوى الداخلي للإنسان ويتحيز لنفسيته ومعنوياته. إنه المنطق الذي يُعلي من شأن الراحة النفسية والسعادة الداخلية والطمأنينة الباطنية. إنه المنطق الذي ينفلت من قيود الماديات وأغلال نظرات المجتمع القاصرة. إنه المنطق الذي يتقصد الإنسان، بمنواله، بناء تجربته الخاصة وفق ظروفه وإمكاناته ومؤهلاته  وميولاته الخاصة ويرفض اللهث وراء تكرار واجترار تجارب الآخرين مهما سمت  وكانت شامخة (دون إغفال الاستفادة والتعلم، فالحياة مدرسة)، لأن السعادة باختصار هي تجربة شخصية وجوانية وداخلية. إنه منطق يعلنها بصراحة و بلا هوادة: لا يمكن للآخر أن يتصور كيف سأكون سعيدا مهما بلغت نيته من الصفاء.
عاد صاحبي ومعه أفكار شتى حول المجتمع الفرنسي  وطبيعة الحياة في فرنسا. استوقفته سائلا: لماذا يتقدم المستوى العلمي والمعرفي للمجتمع الفرنسي رغم أن معظم الذين يحتلون المراتب الأولى في الأقسام التحضيرية وغيرها أجانب والمغاربة لا يشق لهم غبار في هذا المضمار؟
أجاب بالإيجاب مبتسما. صحيح أن نسبة مُقَدرة وهامة من الطلبة المغاربة الذين يُجايلونني هم الذين احتازوا المراتب الأولى. لكن ثمة ملاحظتين لا بد من الإشارة إليهما بصدد المقارنة بين المنظومتين اللتين تؤطران الطالب/التلميذ المغربي والطالب/التلميذ الفرنسي:
أولا، ما يمكن تسجيله، دون أدنى مجهود فكري، هو اختلاف التعامل مع الدراسة عموما و مع النقط والدرجات التقييمية بالخصوص. ففي حين نجد طالبنا يتمزق نفسيا وتنتفخ أوداجه حين ينكسر في اختبار معين و حين لا يحالفه النجاح في تحصيل عالي الدرجات. نجد الطالب الفرنسي –على الأقل، كما عاينته في محيطي الدراسي- يتعامل ببرودة مع هذه الخُطوب (أي تحصيل ضعيف النقط والدرجات).
استدركتُ على صاحبي متدثرا بمنطق الطلاب المغاربة و نفسيتهم: إن الطالب المغربي يموت حزنا ويستشيط غضبا إثر خيبته في سباق النقط والدرجات لسبب بسيط هو كونه يستشعر أن مفاتيح سوق الشغل بدأت تسقط من يديه بعد كل خيبة وانكسار. في حين أن الهاجس المهني والمادي لا ندري كيف يتعامل معه الفرنسي.
أجاب صاحبي: تماما صديقي. الطالب الفرنسي –أتحدث عن العينة التي عاينتُ حتى لا نسقط في تعميم مخل- يؤمن بيقين بأن مستواه المتواضع لا بد و أن يوافق مهنة توفرها الدولة، لهذا فهو راض بوضعه وغير آسف كثيرا على مستواه. فصاحب أي مستوى هو مشروع ممتهن لمهنة تلائم ذاك المستوى.
ثانيا، في نفس السياق، لا يفوت المتأمل في التعامل الذي ينطبع به الطالب الفرنسي مع المنافسة في وسطه، لا يفوته أن يسجل كون الفرنسي لا يرتهن كثيرا لمنطق الصراع الأعمى من أجل البقاء: فهو إذ يتحصل على نتائج متواضعة مسبوقة يبهرك بتفاؤل إرادته: لا مشكلة، سأحاول أن أتدارك في الاختبار القادم.. لكن صاحبي لم يفته أن يقول: إن روحه تتقد حماسة ومحتواه الداخلي يشع أملا في تعويض ما فاته من النقط و المراتب والدرجات.
إذن، هذه الروح المتدفقة بالجدية والأمل والحماس والتفاؤل لعلها سر الأسرار ولغز الألغاز ومفتاح المفاتيح الكامنة وراء نجاح الفرنسي دراسيا ومهنيا وماديا. هذه الروح التي تسري في الإنسان رغم طوارئ الفشل وأعراض الانكسار وانثنائه بالخيبات، هي التي تستنهض همته ليستمر في الحياة. فظاهريا قد تجد الفشل لا يفارق الإنسان، لكن جوهره نقي لامع بروح الجدية. هذه الروح هي المطلوب غرسها واستنباتها في أوساطنا. هي روح إذا ما توفرت -وطبعا فهي مصحوبة بإجراءات أخرى: من مهام الدولة أساسا-  فلا خوف على الإنسان من كبوة بل لا خوف عليه من كبوات لأنه يدرك جيدا سبيل النهوض وطريق الاستمرار في مسيرة النجاحات والوثبات. و دور أهل التعليم والتربية المركزي هو تنشيط هذه الروح حتى لا تخمد ولا تخمل. في قضية صلاة الفجر أيضا، المطلوب إشاعة نَفس الجدية في التعامل معها. فالإنسان، سيتعثر لا شك في مسيرة الكدح وسينام لا ريب عنها في يوم ما، لكن روح الجدية تمنعه من التطبيع مع النوم وروح الحرص على بركات الفجر تحول دون ركونه إلى الخمول ودون انتسابه لزمرة النُوام.   




...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



قضيتُ يوما متعبا مع والدتي -أطال الله عمرها- في تنظيف و "إعادة تهيئة" المسكن والفضاء الذي نعيش فيه. طيلة أشغال التنظيف راودتني أسئلة كان قطب رحاها السؤال التالي: الأشغال الشاقة، في حياة الإنسان الفرد والمجتمع، من سيتحملُ أثقالها؟
كان سؤالي نابعا من قناعة  تؤطرني مفادها أن البشرية، عبر تاريخها، تتغيى إنزال المشقة عن الإنسان وتيسير شؤونه وإسعاده على الأقل في الجوانب المادية. من هذا المنطلق، كانت روائح المشقة التي شممتها في تلك الأشغال مدعاة للتساؤل ومبعث للقلق على المعذبين في الأرض (المرأة، عمال البناء و النظافة، المشتغلون في حمل ونقل الأثقال، المتسمرون في  الشمس الحارقة..).
ربما الآباء حينما يحملون هاجس المستقبل المادي والمهني لأبنائهم، بشكل مَرضي، ينطلقون من الشعور الذي يتملكهم حينما يتصورون ابنا لهم أو ابنة وهو يكابد طعنات الدهر وشقاء الحياة. الكل، إذن، يريد أن يكون ابنه طبيبا أو مهندسا أو محاميا أو أستاذا.. و هذا حق مشروع بل واجب مفروض. لكن، لا ينبغي أن ننسى –أتحدث هنا باسم أهل الفكر والثقافة المهمومين بأمر مشروع المجتمع الذي نريد- أن هناك أعمالا لا تقوم الحياة بدونها والحاجة دائمة إليها (البناء، النظافة...)، مازالت أكلافها وتكاليفها (الإنسانية والاجتماعية بالدرجة الأولى) غالية، ولن يكون ضحية لها سوى أحد من إخوتنا و أبنائنا. قد يُقال إن المعني بالأمر هو المسؤول فهو الذي كان متهاونا في صباه في الدراسة لهذا فهو حاصد ثمار الشقاء لا محالة جزاء عمله. نعم، جزء من هذا صحيح. غير أن الفرص المتاحة أمام الجميع في الصبا و الطفولة في التعلم و الدراسة غير عادلة بحكم الظروف الاجتماعية الخارجة عن إرادة المعني بالأمر. و بعد، فهذا ليس موضوعنا و لا مقصودنا، إن الفكرة التي أريد التصريح بها هنا هي أنه إذا افترضنا أن الجميع يدرس لغاية الطب والهندسة والمحاماة والصيدلة –و هذا هو السبيل الذي نحن ننتظم في إطاره-، فهناك مشاغل أخرى لا بد من قائم بها وأكيد انه سيكون أحد الخافقين، لسبب أو لآخر، في السباق نحو الغاية المذكورة.
نظرا لاطلاعي الشحيح والمعدوم على تجارب الدول و الأمم الأخرى في هذه المسألة، فإني سأكتفي بالإشارة إلى كون المشكلة هي إنسانية وكونية وليست مشكلة محلية. لأن البشرية، في تاريخها، تتقصد ترسيخ قيم ثلاث هي العدل والحرية والمساواة. ولا شك أن الوضع الذي يُجيز وجود فئة تعاني الأمَرين في أعمال شاقة وفئة أخرى تعمل في الغرف المكيفة و بكبسات الزر في الحاسوب، ليس وضعا عادلا و لا موحيا بمساواة إنسانية.
إنه لا مناص بمنطق قيم العدل و الحرية و المساواة التي تقرها و تدعو إليها كل الشرائع، من التفكير في سبل تدبير الأشغال الشاقة: سبُل تؤكد إنسانية الإنسان القائم بها وتغرس فيه أحاسيس العزة والكرامة وشعور القائم بمهام التعليم والهندسة والمحاماة.
فلنعد إلى قصتنا، التصور الذي يرى  بأن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة فيه عدل ومساواة ورحمة (باعتبار متاعب خارج البيت من نصيب الرجل و مشاغل داخل البيت من حظ المرأة)، تصور يبدو محدودا ولا أثر له في الواقع. لأن الاتجاه العام لطبيعة الأعمال الخارجية، بات يومئ إلى أن العمل بات مريحا و ميَسرا إلى حد ما، باستثناء الأشغال الشاقة التي وقفنا عندها. أما الأشغال المنزلية، ففي فضاء محدود: من وحي التجربة (تجربة والدتي) نقول إنها متعبة حقا و ظالمة صدقا، ناهيك عن الفضاءات الفسيحة، ولا يمكن لأي عاقل(ة) إلا أن يُفضل العمل الذي يقوم به خارج البيت –باستثناء الأشغال الشاقة- بل لا يمكنه إلا أن يُفضل أضعافه في مقابل الانسلاخ من هوية الأشغال المنزلية الرتيبة و المُملة.
كيف ستُدبر، إذن، الأشغال المنزلية في جو تُصان فيه إنسانية ربة البيت ورب البيت؟ هذا هو السؤال الذي شغلني حينها. فهناك من يقول بجلب "الخادمات".. يبدو أن المؤمن بكرامة الإنسان –أي إنسان- سينفر فورا من هذا الخيار لأن الخادمة في نهاية المطاف امرأة أيضا مثل الأم والأخت والزوجة. والنظام العادل الذي يرمقه كل حر لا وجود فيه لمسمى "الخادمات". نعم، قد يعتبر بعضهم هكذا كلام بأنه غرق في عالم المُثل. قد يكون كذلك، لكن المعروف أن المتصدي لأدواء الإنسان والمجتمع لا يبرر الظلم مهما كان الثمن ومهما كانت العاقبة. صحيح، بالإمكان الحديث عن مربية للأطفال في غياب بسبب العمل عن المنزل، لكن القول بأن جلب "الخادمة" للعناية حصرا بالأشغال المنزلية اليومية من تنظيف و كنس و طهي و .. يبدو مردودا.
ربما في انتظار مزيد من التأمل في السؤال والاطلاع على تجارب غيرنا من بني الإنسان، أسوق جواب والدتي أسعدها الله دنيا و آخرة: بالتعاون، بالتعاون، يا بني، تهون كل المصاعب وتنهار كل المشاق..

  

...تابع القراءة

| 1 التعليقات ]



ماركس.. لا مفر لابن الحركة الإسلامية، في بداياته، من تشييد علاقة متشنجة معه. قصتي مع ماركس تبدأ من التعاطي الإيجابي الذي قابلتُ به محاولات مدرسة آل قطب الرد على "اليهود الثلاثة" (ماركس، فرويد، دوركايم) في مجموعة من الكتابات. مرور العناوين التالية : "ماركس" و"الماركسية" و"الحركة الماركسية اللينينية" يتردد باستمرار على ذهنيتي. وأكيد أن تمثُلي لماركس وبقية هذه العناوين كان طافحا بالاختزال والاجتزاء والأحكام الفارغة من أي برهان.
مدرسة آل قطب التي لها أفضال لا تقدر بأي ثمن علي وعلى جمهور عريض من أبناء الحركة الإسلامية، لن أتهمها بالاتهامات المجانية (أي بعد أن "اقتربتُ" من إنسانية ماركس: سألعن مدرستي الأولى و سأتهمها بتعمُد تزييف وعيي). لكن، نذهب مذهب القائلين إنها تجربة بشرية محكومة بسياقات أواخر الخمسينات والستينات حيث اشتد الشد والجذب بين معسكر الشرق (الاتحاد السوفياتي: الذي يزعم أنه حامل لإرث "الماركسية") ومعسكر الغرب الذي يحمل لافتة أخرى. وكان معسكر الشرق بمثابة قطب جذب لجماهير واسعة من الشباب القاطن في الوطن العربي والإسلامي نظرا لتظاهره بالانحياز للعالم الثالث ومناهضة الامبريالية وتغوُل المعسكر الغربي علاوة على احتفاظ الفكر الماركسي ببريق خاص لارتباطه بإثارة المسألة الاجتماعية وقضايا المستضعفين. ومن المفهوم أن نجد أي متصد لرد الفعل، عاكفا على تسفيه أحلام وخطاب صاحب الفعل. و لما بات الفعل هو استقطاب معسكر، يقدم نفسه على أنه حاضن للفكر الماركسي، لشباب الوطن فإن رد الفعل كان هو الانتفاض والنهوض بعزم وإصرار لنقض هذا الفكر بالعودة إلى اختزال رائده في ثياب "اليهودية" أو ثياب "الإلحاد". فإعلان الاتحاد السوفياتي: الإلحاد دينا رسميا للدولة زاد من حدة رد الفعل ومن سواد الزاوية التي يُرى منها ماركس.
اختيار "الاقتصاد" كتخصص مدرسي كان من بين أهدافه الانطلاق نحو إعادة التعرف على ماركس. و تيسر لي بفضل المولى جل و علا الاطلاع على نُثارات من كتابات ماركس (الإيديولوجية الألمانية، المسألة اليهودية، كتابات عن حياته وفكره وهمومه).
كانت أولى المشاهد المضيئة في حياة ماركس التي أثارت انتباهي، وطالما رددتها لزملائي، هو ماركس المهموم بالإنسان والإنسانية جمعاء. ماركس الذي تيقظ وعيه الإنساني المرهف منذ سنينه الأولى وشبابه الباكر. حوالي سنة 1835-1836 وعمره 17 ربيعا (للإشارة فهو من مواليد 1818)، طلب الأستاذ من التلاميذ تحديد متمنياتهم المهنية في المستقبل، أجاب الإنسان ماركس: لا تهمني إطلاقا طبيعة عملي. ما يهجسني ويؤرقني هو أن أعمل ما أقدمه به خيرا وإضافة للإنسانية جمعاء. ذلك هو عهد الكبار أينما كانوا وكيفما كانت ملتهم. لم يلتهوا أبدا بأفق ضيق أو ثراء شخصي وإنما كانت وجهتهم ماثلة نحو خدمة الإنسانية من أي سبيل. فالمقصد هو إسعاد بني الإنسان والطريق غير هام فملامحه ستتجلى بعد حين. وكما يقول أحدهم، لولا هؤلاء لضاقت بنا الحياة.
كانت ثاني الملاحظات التي رفعت عني غشاوة إيديولوجيا العداوة لماركس ذات صلة وثيقة بالبيت القصيد إنها رسالة عبارته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب". وعمره 26 ربيعا أي في سنة 1844، في إحدى مخطوطاته، كتب ماركس في نص ينطق بما مفاده أن الدين تعبير على تُعاسة الإنسان واحتجاج على هذه التعاسة، قبل أن يتحدث على أن الدين الموَظف لإسكات الحركة الاحتجاجية و مناهضة الظلم الاجتماعي أفيون ومخدر معيق لحركة الإنسان والمجتمع. إذن، سياق إيراد العبارة الشهيرة سياق تشريف للدين باعتباره عنوان المقاومة والاحتجاج والنضال ضد كل أشكال الظلم والطغيان.
أما ثالث محطة أبرزت لي ماركسا "جديدا" كانت مع مفهومه الشهير بل نظريته المركزية أي "الألينة: الاستلاب، الاغتراب.." حينما كان يصدح إن العامل مغترب عن عمله و عن السلعة التي أنتجها. هنا تجلى ماركس المنافح عن حرية الإنسان الرافض لخضوعه للاستعباد من طرف سلعة صماء أفنى فيها قوة عمله فحُرم من قيمة عمله في نهاية المطاف. إن رحلة ماركس بمثابة مرافعة علمية للدفاع عن حرية وكرامة الإنسان-العامل ضد مساعي تشييئه و استلاب حريته.
كانت رابع الإشارات اللطيفة في مسار ماركس هو وفاؤه للعهد الذي أخذه على نفسه حينما كان تلميذا أي توسل أي طريق لخدمة الإنسانية جمعاء. هنا يظهر ماركس الإنسان من جديد الذي يحترق من أجل الآخرين، والذي بإمكانه أن يعيش حياة كبار أهل الفكر المُترفين لكنه اختار شظف العيش ليذوق مرارة حياة كل المقهورين، هنا يبرز ماركس الذي يعيش على الاستدانة و مساعدات صديقه إنجلز..
إن ماركس الذي في خاطري يُذكرني بالخالق الباري. إن عكوف ماركس، هذا مع "رأس المال" فحسب، 23 سنة منقطعة للبحث والقراءة والحفر المعرفي من السابعة صباحا إلى السابعة مساء  في المكتبة الوطنية لأكبر دليل في نظري على القبس الإلهي المُتضمن في تكوين كل إنسان ابن آدم. فأن ينقطع المرء للمعرفة والبحث عن المعنى ويزهد في الدنيا وملذاتها لأقوى برهان على أننا كائنات ليست ترابا فقط بل موجودات كريمة بروح المولى جل في عُلاه. إننا في معركتنا اليوم ضد نزوعات ما بعد الحداثة غير الإنسانية التي تُروج لإنسان استهلاكي أولا و أخيرا وتختزله  في الجسد بل في عضوه التناسلي. إن  معركتنا لاستعادة إشراقات عهد التنوير بصيغة جديدة فيها جرعات هامة من لفت الانتباه إلى ازدواجية الإنسان تبدأ من تسليط الضوء على إلماعات إنسانية كل عظماء التاريخ أمثال ماركس و غيره الذين اكتووا بالنار ليعيش الآخرين في أجواء العدل والحرية والسلام.  


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





في سنوات السلك الثانوي، كنت أعيش قلق التلاميذ و قلبي هناك مع الطلبة في الجامعة. لذلك لا تفوتني عطلة دون زيارة أجواء الطلاب خاصة في أكادير. كنت أرنو بشكل متحمس إلى ذلك اليوم الذي أكون فيه طالبا و ألتحق بركب التجديد الطلابي. و الأمر الذي كان ينغص عليَ معيشتي ويشوش على حلمي هو كوني منتسبا إلى شعبة العلوم الرياضية التقنية؛ شعبة لم تكن لتُخيرني في شأن مستقبلي، فقد كانت وجهتها إلى تأهيل "المهندسين" صارمة. لذلك كنت طيلة الثانوي أحاول أن أعَوض ما سأفتقده في الأقسام التحضيرية أو معاهد المهندسين. كنت أحاول أن أعيش "الجامعة" في "الثانوية". و ما شجعني على المُضي في ذلك مطالعات يسيرة عن أجيال من التلاميذ المغاربة كانوا يعيشون جو النقاش و التفاكر في فضاءات الثانوية. و إن كنت أنسى لحظات جميلة قضيتها بهوية "تلميذ"، فلن أنسى الأيام الأخيرة التي هددني فيها المدير (حسب كلامه، فالتهديدات جاءت من السلطة المحلية) و ترجاني –بلغته- في والديَ أن أُوقف نقاشا بسيطا و دردشة متواضعة مع التلاميذ في وقت الاستراحة، قائلا: يا بني، دع النقاش.. إلى الجامعة.
كان من مفاجآت الأقدار أن حقق المولى جل و علا الحلم الكبير و جئت إلى الجامعة بعد حنين سنين و سنين. لكن، مع الأسف الشديد لم يكتمل الحلم بل اصطدم بصخرة الواقع الأليم و استحال سرابا لا يسُر الناظين. إذ وصلتُ إلى الجامعة وهي بالكاد منسلخة من أدوارها الاجتماعية و الثقافية والاحتجاجية ناهيك عن العلمية. وصلتُ إلى جامعة العاصمة فوجدتها صحراء قاحلة. وصلتُ إلى الجامعة و لست مبالغا إن قلت إن التجارة السائدة فيها هي تجارة "الغش" في الامتحانات. وصلت إلى الجامعة بعد طول أمل وعناء فإذا بي أمضي كل وقتي خارجها. وصلتُ إلى الجامعة لأعيش فترة القلق و الأرق و النقد و التساؤل و النقاش في كل لحظة لحظة، فإذا بي أجد نفسي بحاجة إلى البحث عن ملاذ آخر لأحلامي خارج الجامعة (مراكز الأبحاث ومؤسسات ثقافية و علمية أخرى..).
لكن انتمائي لركب اسمه التجديد الطلابي مازال يثير بصيص أمل في نفسي (لا بد من تسجيل تقديرينا الكبير للحركة الثقافية الأمازيغية: لكن للأسف فهي غائبة في جامعة محمد الخامس بالرباط على الرغم من كون أغلب مؤسسي الحركة الأمازيغية المعاصرة انطلقوا من هذه الجامعة في أواخر ستينيات القرن الماضي: الصافي مومن علي، علي صدقي أزايكو، بوكوس..).
و التجديد الطلابي التي في خاطري، هي التي نقول في إطاراتها و لا نجد غضاضة في ذلك و لا أحد يمنعنا و هذا من سعة أفقنا: إن الشهيد عمر بنجلون شهيد الشعب المغربي (رغم أن عمر لو طال به العمر يمكن أن يحسبنا ضمن الصف الرجعي و يمكن أن يسلك مسلك زميله المناضل الوطني الكبير محمد اليازغي الذي انسحقت نضاليته و وطنيته في لحظة المطالبة بحل الحزب سنة 2003). إن الشهيد عمر مفخرة حقا و صدقا لنا كمغاربة و ينبغي للشباب و الطلاب المغاربة أن يتخذوه منارة ضمن القدوات المشرقة: فهو في أقل من 24 سنة من عمره القصير كان رئيسا لجمعية الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا و كان متفوقا في تخصصَيه (المدرسة العليا للبريد، و القانون العام). و ذاق الأمرين لكي يوفر مستلزمات دراسته حين كان تلميذا، بائعا للبيض المسلوق في القطار.. وكان مناهضا للظلم و الظالمين، على المستوى المحلي (المغرب) و على المستوى الإقليمي (العدو الصهيوني) و على المستوى الدولي (الامبريالية و الاستعمار الجديد).
التجديد الطلابي التي في خاطري، لا نخاف في مقراتها أن نصدح بما يعن لنا من  ملاحظات حول أفكار يابسة. هي التي ندافع في فضاءات انشطتها عن الغائبين الذين يستحقون إنصافا. هي التي نقول في محضنها إن الأستاذ ابراهيم أخياط علم من أعلامنا وكبير من أكابرنا و فاضل من فضلاء وطننا. هي التي نقول فيها باطمئنان إن أحمد عصيد مثقف من مثقفينا قد يحيف، نعم، ويتحامل علينا.. لكن خطابه مهم لتحديث نظامنا و ذهنية مواطنينا. هي التي لا نهاب أن نقول في إطاراتها إن نظرتنا إلى الغرب في حاجة إلى مراجعة و تصويب دون أن نُتَهم بعمالة أو تمييع.
إن التجديد الطلابي التي في خاطري، انعكاس لإرادة التفاؤل و عنوان الصمود وسط الإعصار. إنها وسيلة لكي لا ننسى أننا كائنات عمودية موصولة بالسماء و منفوخة بروح رب الأرباب. و إطار كذلك لإثارة أسئلة العمران و التعايش بين بني الإنسان.



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





بوح لا بد منه. لا أدري لماذا هذا الوقت بالذات. لكنه إحساس يغشاني دائما. يا سادة !مدرستنا عظيمة. وعظمة مدرستنا و تميزها لا أنسبه، لما قد يعنُ لبعض الأفاضل من تميز في انتهاج منهج "وسطي" أخرج البلاد من الانسداد. كلا! فرادة مدرستنا ترجع إلى كونها كانت المحضن الأول –ومازالت- لمجموعة مُقدرة من الفاعلين؛ هي التي تساهم بقدر هام وجليل في تحريك المشهد المغربي الفسيح. دعونا من السياسة فمساهمة خريجي مدرستنا فيها لا يخفى حتى على الأطفال في الشارع. فالمقصود هنا –بالتأكيد- المشهد الثقافي والفكري والإعلامي والعلمي.
لا يهمُني أن يكون هؤلاء الفاعلون من الباقين أو المغادرين لقطار المدرسة. نعم، قد يكون بعضهم منتسبا حاليا إلى جوقة المتحاملين والحاقدين. لكنه، على أية حال، موقف أخلاقي والإنسان حر في نهاية المطاف. رغم أني، أُرجح كون التحامل والبغضاء أمر راجع غالبا لسلوكات غير أخلاقية أيضا نابعة من أبناء المدرسة الذين يتزيدون في الحرص عليها والغيرة على مشروعها ويتوسلون إلى ذلك حدة في الخطاب.
نعم، إني أعتز حقا إن مدرستنا كانت يوما محضنا للدكتور عبد الرحيم العلام على سبيل المثال. واضح أن الرجل له مواقف مغايرة تماما لخط مدرستنا في المسألة السياسية و النظام السياسي بالأساس، والتي قد لا أتفق معها بدوري إجمالا لكني أسجل تعاطفا مع بعض جوانبها. لكن هذا لا ينفي أنه باحث شاب مقتدر و متمكن وواعد في الفكر السياسي والعلوم السياسية وحالة خاصة في العطاء غزا المنابر الإعلامية في زمن قياسي وآراءه بات يتلقفها الشباب الذي يشترك معه في الموقف من النظام السياسي. إن آراءه وأطاريحه، وهذا هو بيت القصيد، غنية ومطلوبة والحاجة إليها قوية. لأن التاريخ لا يمكن أن يسير بل سيركد إذا قاده فقط و بارتياح أصحاب أطروحة المحافظة السياسية (أي المهادنة المطلقة مع النظام). لأنه لا مفر لنا من الملكية البرلمانية في يوم من الأيام.
إن المتتبع المدرك لمراكز الأبحاث والدراسات السائدة في الوطن، لا شك أنه لن يخطئ كون جل القائمين عليها و المشتغلين في إطارها من الذين خرجوا من رحم مدرستنا. إنه لأمر يبعث على السرور بالنسبة للمنتسب الواسع الأفق الغيور على هذا الوطن المحبوب. أؤمن دائما أن الهام هو أن يكون الإنسان صادقا (أقصد الصدق في تحري الصواب: و هذا أمر لا يدريه إلا ربنا جل في عليائه) وجادا في بحثه. وليقل ما يشاء، لأن الله حسيبي و حسيبه (على ما لا نعلمه). . إن الدكتور مصطفى بوهندي –على سبيل المثال كذلك- الذي اثارت آراؤه عجيجا وضجيجا (لم يتيسر لي أن أقرأ له إلا كتاب "نحن و القرآن") إن بوهندي؛ فخر لمدرستنا أنها كانت  مأوى أسئلته الأولى. والحركة الثقافية والعلمية، مرة أخرى، لن تتحرك في بلدنا إلا بوجود بوهندي ونقيضه؛ وربما لنا الشرف أن نُخرجهما معا: ونحن حركة اجتماعية دورنا في هذا البعد هو تحريك المشهد وإدارة عجلة التاريخ. وأعجبُ للذي يضيق حنقا بوجود بوهندي ومن على شاكلته (رغم أني لا أشايعهم): إن وجود بوهندي هو الذي خلق لك وجودا قوامه "التصدي لتشغيباته"!
جريدة مدرستنا (التجديد) أسهمت في تخريج كوكبة من الإعلاميين المتميزين (عليموسى، الكنبوري، حمودي،...) انتقلوا إلى الصحف الوطنية الكبرى (المساء، أخبار اليوم..). إنه لأمر يبعث على الاعتزاز بمدرستنا أيضا.
كبار المتصدين للشأن العلمي في بلدنا مروا من مدرستنا. قادة الرابطة المحمدية للعلماء (أحمد العبادي، عبد السلام الطويل..). رئيس جامعة القرويين ( الدكتور الروكي). المجلس العلمي الأعلى (المرحوم فريد الأنصاري، الدكتور مصطفى بنحمزة..). الشيخ الزمزمي و الشيخ عبد الله نهاري؛ جميعا يساهمون في قلقلة أركان الخطاب الديني في بلدنا. لا يُهمني هنا التوقف على موقفي من آرائهم ومفارقاتها بقدر ما يؤرقني تقريب فكرة "كوننا مدرسة استثنائية" أبناء مدرستنا هم الذين يحركون الرأي العام الديني أيضا.
كثيرون هم أبناء مدرستنا (سواء الأوفياء أو العاقين: ربما كانوا ضحية لسلوك غير أخلاقي-إشكال نفسي أو اختاروا  الانسحاب. والإنسان حر في قناعاته يا سادة. المرفوض هو التحامل المجاني) الذين يسجلون حضورا نوعيا في النخبة المؤثرة في بعد من أبعاد المشهد المغربي الراهن. منهم  كوكبة منيرة من أبناء الجنوب؛ و أعتز في هذا السياق أن من بين أنجب عناصرهم أبناء مدينتي تيزنيت.
في المسألة الفكرية والعلمية أنجبت مدرستنا أنجب التلاميذ بل قل الأساتيذ. أن يكون الأفاضل امحمد جبرون والطيب بوعزة ورشيد الراضي ومحمد همام.. ضمن قطارنا فهذا أمر حميد. و قد نختلف معهم وهو حق أكيد.
في هذه العُجالة التي جاءت بعد انفعال نفسي مع الأم (=مدرستنا). لم أقصد أن أذكُر مواليد مدرستنا الذين مازالوا يشتغلون تحت يافطتها ولهم آثار طيبة في أوساط المجتمع و هم فضلاء كُثر (وعلى رأسهم: الدكتور سعد الدين العثماني، الأستاذ عبد الإله بنكيران، الدكتور أحمد الريسوني، الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد)، وقد يأتي يوم نزور فيه تقديرنا لهم وما يبدو لنا في آرائهم. وإنما قصدي التعريج على بعض من لم يُشتهر في أوساط القواعد أنه كان هنا. وهذه الفئة شقت طريقا متميزا في المشهد المغربي في ناحية من نواحيه، حق لنا أن نفتخر بها مهما اختلفنا معها إن كنا واسعي الأفق ومن أهل رحابة الصدر.
إن الحركات الاجتماعية المتغلغلة في الشعب ليس غريبا ولا عجبا أن تكون مأوى بل دافعا –و لو بشكل غير مباشر- لتشكُل النخب و الصفوة القائدة للمشهد الوطني.  وعظمة حركتنا الرائدة (التوحيد والإصلاح) تتجلى في أنها كانت مدرسة خرجت قادة الشعب المغربي، على أني أسجل في هذا الصدد أننا مازلنا في المرحلة الموالية للبداية يعني مازلنا نتحمل شرف ومسؤولية إيواء النخب وتخريجها (خاصة في المجال الفكري و الفني الذي أصبنا فيه بشبه تعقيم فيما مضى وبدأنا نتعافى منه).  
إن المدرسة التي تستدعيها ذاكرتي دوما حين أذكر مدرستنا هي المدرسة الاتحادية التي لا تُقدر أفضالها على الشعب المغربي بثمن. إن المدرسة الاتحادية مدرسة الشهداء (المهدي، عمر..) والعمالقة (الجابري، العروي..)  هي التي تغزو منتوجات خريجها الأسواق الثقافية المغربية. إنها ذات المدرسة التي قبضت على جمر "الإصلاحية" في زمن العنفوان الثوري في 1975 و لولاها بصدق لعشنا تاريخا آخر: و دائما أقدر أن مدرستنا تنحو نفس منحى المدرسة الاتحادية؛ تقبض على جمر الخط "الثالث"، تقديرا لمصلحة الوطن (وهو مجرد اجتهاد سياسي قابل لأخذ والرد)، في زمن الحماس الثوري مع 2011. غير أن مدرستنا مازالت بحاجة إلى اختراق السوق الثقافي (وهناك مبشرات تعكسها أجيال شابة أغلبها خريجة العمل الطلابي لكنها مازالت محدودة بالنظر إلى المطلوب، أما بالمقارنة مع ما سبق فهي قفزة بلا شك) لتكون الوريثة بحق للمدرسة الاتحادية في انتظار وليد جديد ومدرسة أخرى. وهنا أُسجل أن الحركة الأمازيغية بدورها مدرسة ومازالت ببريقها ساهمت أيضا في تخريج  قادة في المشهد المغربي الراهن (على سبيل المثال؛ الأستاذ أحمد عصيد استقطب في نشاط ثقافي سنة 1982 وسنه 22 سنة: لا ريب أننا نختلف معه وقد نتفق معه في كثير من القضايا لكنه يبقى مساهما من المساهمين في صياغة المشهد المغربي المعاصر: نريد مغربا للجميع ولا يمكن إلا أن يكون كذلك وإلا سيتوقف التاريخ).
باختصار؛ إن المدارس الكبيرة من الحركات الاجتماعية هي التي تُخرج نُخب حقيقية. ومدرستنا (التوحيد والإصلاح، وما يدور في فلكها) مدرسة استثنائية معطاءة. علينا أن نتخفف من أثقال التاريخ المثخن بانفعالات نفسية لا غير، لنعتز بأبنائنا (على عقوق بعضهم لنا: لعله خير). والفكرة الجوهرية التي ينبغي أن يلتقطها الذي من مازال يقبل -على مضض- بالآخر المُختلف مفادها أن وجود المُختلف: العلام، بوهندي، عصيد.. هو سبب وجودي، وإذا انتفى هؤلاء و انعدم بعض المختلفين الآخرين، فما مبرر وجودي وما مصيري سوى التهلكة ! إن التاريخ يعلمنا درسا بليغا: إنه يسير بفعل التفاعل بين المختلفين و"المتصارعين" و إلا فالحياة ستقف وستصير بدون معنى. فالمختلف معي يُسدي لي خدمة جليلة في الحقيقة. والله يتولى السرائر وهو حسيبنا نسأله الفردوس الأعلى  لنا جميعا.





...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





في صيف (2014) الذي تلا تَخرجنا من المدرسة بشهادة الباكالوريا، صادفتُ أحد الأصدقاء الذي جَايَلني و زاملني في الابتدائي و حصل على شهدة الباكالوريا من تخصص تقني. كان معي كتاب عن العمل النقابي الطلابي.  انغمرنا معا في نقاش حول رحلة ما بعد الباكالوريا، بعدها تذَكر صاحبي أن معي كتابا فرام أن يكتشفه. لكن ما إن قرأ العنوان و أدرك المضمون و طبيعة الموضوع حتى راح يلقي موعظة حول أهمية انتقاء الكتب المقروءة مؤكدا أنه لن يقرأ ذات كتاب و لن يُضيع "وقته" في هكذا موضوع. ربما أسرف صاحبي في شفافيته ! لكن ما عساني فاعلا فقد ختم آخر عهد لي به بتلك الموعظة التي لم و لن أنساها !
دائما عندما تُذكَر القراءة للتلاميذ و الطلاب؛ يستهدف المُبشرون بفوائدها عادة "اكتساب الأسلوب للإجابة بإجادة على الإنشاء" و قلما تجاوزوا هذه الفائدة. و مؤخرا، مع تنامي المدارس الخاصة و ضعف مكانة اللغة العربية في المنظومة التعليمية، صار أولياء التلاميذ و المُتصدون لتوجيه الطلاب يركزون في دعوتهم إلى القراءة على "المطالعة باللغة الفرنسية فقط"، لهذا تصاعدت أسهم "باولو كويهلو" مثلا في أوساط الشبيبة المغربية في الآونة الأخيرة. على كل حال فالدعوة إلى القراءة بالفرنسية كان وراءها حقيقة تخترق الواقع المغربي مفادها أنه لا مستقبل دراسي لأي تلميذ أو طالب بدون الفرنسية (أي، ابتداء، القدرة على التحرير و الإنشاء بالفرنسية).
في ظل هذا المناخ، معدل القراءة مازال منعدما. المستوى الفكري و الثقافي لأغلب الطبقات الاجتماعية (سواء المعدومة، أو المتوسطة، أو المُترفة) يكتسحه شلل شبه كلي بنسب متفاوتة. الناس يلهثون وراء "اليومي". بعد نيل "كسرة الخبز" يشرعون في البحث عن معنى آخر في الحياة، عن توازن مفقود، عن شيء خاف معدوم. أما غير الحاصلين على "الخبز" فحلمهم و معنى الحياة بالنسبة لهم، طبعا، هو "الخبز".
دعوى حصر فوائد القراءة في التمكن من تدبيج الإنشاء سواء بالعربية أو الفرنسية، لم تأت من فراغ. فالآباء و الأولياء و المتصدون لتوجيه الطلاب و التلاميذ جزء من نسق اجتماعي همُه، كما سبق، هو "الخبز" و الرغبة في تأمين حصول الأبناء على "الخبز". و هو أمر طبيعي. و "الخبز" لن يتم توفيره بدون المرور من مسطرة تتطلب إجادة الإنشاء بالفرنسية أولا و العربية قليلا.
بالكاد يُفلح هذا الخطاب المُبشر بالقراءة في استقطاب الشبيبة (الطلاب و التلاميذ). حتى و إن نجح، فاجتياز الشبيبة لكل محطات المسطرة بنجاح يدفعها نحو تطليق "القراءة" (هذا في حالة الزواج !) لأنها استنفذت أغراضها. هكذا لأن الفائدة المرتجاة من القراءة تم قصرها على بُعد مادي نفعي براغماتي مؤقت. و موعظة صاحبي الذي امتعض من كتابي جاءت في هذا المساق و هي محكومة بنفس السياق و بذات الدلالات.
لقد اتضح بالأرقام، أن القنوات الفعالة من قبل في عملية القراءة لم تعد مؤثرة. فلم تعد لدى المواطن القارئ نفس الحوافز. و بذلك لم تعد هناك قراءة تقوم على الحوافز الفردية و المصالح الحزبية و الرغبة في حل القضايا و الإشكاليات العامة من وجهة النظر الحزبية و الإيديولوجية أو البحث عن مميزات شخصية في سياق التنافس النضالي. (أحمد الرضواني. القراءة العمومية بالمغرب. العدد 73. مجلة فكر و نقد. نوفمبر 2005).
إذن ، في السابق، ظلت الفئات القليلة المحظوظة، بفضل تسَيُسها، مشدودة إلى القراءة. و منذ مطلع التسعينات، و السياسة تفقد بريقها لصالح النهج التقنوي المتواطئ مع حسابات البنك الدولي. و كانت النتيجة اللاحقة انسحاب المُسيسين و الطامعين في الانتساب إلى عالم الفكر و الثقافة أو تدجين بعضهم و احتواؤه ضمن التكنوقراط. اليوم، بعد أحداث 2011 و الخُطى الأولى في استعادة الأمل و استرداد السياسة و استعمال "الفايسبوك"، ثمة انتعاش في مستوى تسيُس الجماهير لكنه مازال مصحوبا بالشلل الفكري. لهذا يلزم مصاحبة هذا الانتعاش بالإقبال على القراءة و البداية من هذه الموضوعات المثيرة للسجال (التاريخ السياسي للوطن بعد استقلال 1956، طبيعة النظام السياسي، الحقبة الاستعمارية و ما دار في أطوائها من مقاومة و نضالات وطنية، تاريخ الأحزاب السياسية و الحركات الاجتماعية القائمة في المجتمع المغربي، تاريخ الإصلاحات التعليمية، مسار التحديث..).  

نستجمع الكلام؛ إن أزمة القراءة مرتبطة أولا بأزمة الخطاب المُبشر بأدوار القراءة. فتضخيم المنافع المادية المؤقتة و إغفال الأدوار "المعنوية" الأكثر أهمية هو أول الأدواء، وجب علاجه أولا. إن هذه المرحلة التاريخية الثقيلة (التي يحتدم فيها "الشذ" و "الجذب" بين نزوع التسيس و نزوع التقننة) التي نمُر بها فرصة هامة لغرس "كنه" القراءة العميق في ذهنية الشبيبة المغربية.  إن "كنه" القراءة، الذي غفل عنه صاحبي، هو أن تفهم الحياة و تدرك المحيط الذي تتحرك فيه و تعرف سبب ما يعتمل في وسطك من"عجيج" و "ضجيج". و إذا استبطن المرء هذا المعنى، فلا خوف عليه حينئذ: في المدرسة، أو أمام الإنشاء، أو من ضرورة الأسلوب، أو القابلية للاستبداد، أو الخضوع للتدجين و الاستيلاب.. إن "كنه" القراءة هو الرغبة في إسقاط الأفكار اليابسة العالقة بأذهاننا و الاستعداد الدائم لصدمات كهربائية معرفية عن عالم الإنسان و الحياة اللذين تغشاهما الأسرار بلا انقطاع. إن "كنه" القراءة هو السعي لإيجاد ذلك التوازن المفقود بعد الاستجابة للمطالب المادية في الإنسان (الخبز..)، إنه الانشداد إلى حياة أخرى (بتعبير العقاد).


...تابع القراءة