| 0 التعليقات ]



غالبا ما يتم النزوع – أثناء الوقوف  عند أداء الحركات الاجتماعية – إلى تحليلات غير جادة  بالأحرى هي انطباعات نفسية ظرفية. فالمتأمل في ما يقوله، مثلا، أبناء الحركة الإسلامية عن أدائها يلحظ نَفَس التشاؤم و علامة الاستياء. بخلاف، ما يذهب إليه جل القادة و المسؤولين من استبشار و تفاؤل و ارتياح. في نفس السياق،  طيف واسع من الشباب المتحمس لهويته الأمازيغية يتحدث بعدمية عن غياب الأمازيغية في الحياة العامة، في حين يتفق رواد الحركة الأمازيغية  على النجاحات المتعددة (التي تبقى منقوصة) التي كانت ثمار نضالات عقود من الزمن. 

 1-أداء الحركة الإسلامية:

لا جدال في أن الحركة الإسلامية، بعد مسيرة عقود من العمل الجاد الدؤوب، نجحت في إزاحة خصومها (الذين كان عملهم سببا مباشرا في نشأتها) من تصدر ميدان المجتمع و ساحات الجماهير؛ خصوصا اليسار الجذري و الحركة الماركسية اللينينية. كما أفلحت في إثارة قضية الإسلام و استعادة بعض المظاهر الإسلامية المفقودة. إلى جانب كسب رهان بناء تنظيمات قوية. لكن، هل المطلوب من حركة – هي بمثابة بعثة تجديدية في الأمة- مجرد هذه الأهداف؟
المفروض في الحركة الإسلامية، كحاملة لواء التجديد، أن تصرف جهودها في اتجاهين: أولا: : التمكين لشعور خشية  الله جل في علاه و رجاء رضاه لبلوغ المقامات العُلا في الدار الآخرة. فهذه هي الصناعة الثقيلة بحق. ثانيا: تعميق خيار التحرر في الأمة؛ أي تثبيت الانعتاق السياسي و العدل  الاجتماعي و الخروج من نفق التأخر التاريخي.
دعونا نتساءل: كيف تعاملت الحركة الإسلامية مع المطلوب منها؟
للإنصاف، تعرضت الحركة الإسلامية –كما تعرض غيرها من الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، لكن بحجم أكبر- للحرمان من حقها في المشاركة السياسية. و بالتالي، فإن تعاملها مع قضية "التحرر" في جوانبه السياسية و الاجتماعية على الأقل لم يدُم طويلا و مازال الوقت مبكرا لتقييم أدائها فيه (للإشارة: بعض خصوم الحركة الإسلامية؛ منهم الأستاذ عبد الإله بلقزيز –في مقال منشور بجريدة وطنية-: سارع بعد مُضي لأشهر معدودة ليحكم على الحركة الإسلامية بالفشل بل ب"إفشال" باقي ما أنجزته القوى "التقدمية" في الفترة السابقة !). لكن من المهم التذكير بأن الحركة الإسلامية  كانت تغط إلى عهد قريب في الحلم ب"الدولة الإسلامية"؛ و هو حلم صار بلا معنى، سواء لمن تصدى للشأن العام من أبنائها أو بالنسبة للمحللين و المفكرين الذين يرصدون تجربتها. بل  صارت هذه الدولة –حسب أحد الباحثين- "دولة مستحيلة". و على العموم؛ فالحركة الإسلامية تشتغل بجد في مسألة التحرر السياسي -في الآونة الأخيرة- و مازالت الإطارات النظرية المواكبة لتأصيل هذه المسألة مشتغلة. بخلاف مسألة الخروج من التأخر التاريخي أو ما يسمى في أدبيات الحركة بإنتاج "الفعل الحضاري" أو تحقيق "النهضة" فواضح للمتتبع أن الخطاب الإسلامي مازال قاصرا و عائما في تناول هذه المسألة بالجدية اللازمة.
أما بخصوص تقييم أداء الحركة في تثبيت أركان "التقوى" في أوساط الناس. فلا يخفى أن  الحركة أفلحت إلى حد كبير في تشييد صرح هذه القيمة في صفوف أبنائها. لكنها مازالت بعيدة جدا عن هدف التمكين ل"التقوى" في صفوف الناس.

 2-أداء الحركة الأمازيغية:

الحركة الأمازيغية حركة وطنية كبيرة قامت برسالة ثقافية معتبرة في تاريخ المغرب المعاصر. هي الحركة التي ورثت حركة اليسار و بالخصوص الحركة الاتحادية (على الرغم من طابعها السياسي) في منافسة الحركة الإسلامية على النفاذ إلى الجماهير الشعبية. تعتبر الجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي (التي تأسست بتاريخ 10 نونبر 1967 بالرباط) أول نواة قوية للحركة. وضعت الجمعية المذكورة  منذ ذلك التاريخ نُصب عينيها الأهداف التالية:
-          تعميق الوعي بالذات الأمازيغية لدى كافة المغاربة.
-          تحقيق و ترسيخ المنظور الوحدوي للأمازيغية.
-          دسترة و ترسيم الأمازيغية.
-          تحديث الثقافة الأمازيغية.
-          تعميم و تعليم الأمازيغية الموحدة في جميع أسلاك التعليم و مؤسسات تكوين الأطر.
-          تطوير و تعميم الإعلام السمعي البصري الوطني العمومي بالأمازيغية.
-          اعتماد الأمازيغية في التوعية الدينية، خطب الجمعة، القضاء، و كافة المرافق العمومية. ( 40 سنة من النضال الأمازيغي، منشورات الجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي، الطبعة الأولى 2007، ص: 15).
واضح أن  الحركة الأمازيغية (سواء بفضل المجهودات الجبارة للجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي أو بنضالات أطراف جمعوية أو فردية  ظهرت في الساحة لاحقا) نجح أداؤها في الدفع بعجلة الأهداف الموضوعة منذ اليوم الأول إلى الأمام. فلا شك أن قطاعات واسعة من الشباب الجامعي تم تعميق وعيها بالذات الأمازيغية. كما إن الثقافة الأمازيغية تعرضت لعمليات جادة للتحديث و العصرنة و كانت أهم خطوة في ذلك عملية جمع و تدوين التراث الشفوي و الانتقال بالشعر الأمازيغي إلى مستوى العصر سواء من حيث الأغراض أو الأسلوب (مع الشاعر محمد مستاوي). بالإضافة إلى ذلك تم  تطوير الفن الامازيغي و خصوصا في شقه الموسيقي؛ و لا أدل على ذلك من الواقع الذي يرصد ذيوع الصيت الذي يلقاه هذا المنتوج الفني الأمازيغي (منذ "أوسمان"، و "إزنزارن"..) في أوساط الناس. و تم تتويج هذا المسار النضالي بالنجاح في توفير حماية دستورية للأمازيغية بترسيمها في 2011.
بخصوص هدف "تحقيق  و ترسيخ المنظور الوحدوي للأمازيغية"؛ الأكيد أن الجمعية التي وضعت هذا الهدف ما فتئت تدافع عنه في شتى المعارك الثقافية و اللغوية بالخصوص. غير أن الواقع يؤكد أنه، إلى اليوم، مازال مشكل المعيرة حاضرا و مازال اتجاه "اللهجات" مستمرا و أمامنا القناة الأمازيغية الثامنة مثال صارخ لذلك؛ نشراتها الإخبارية يتعذر و يصعب على الأمازيغ المنحدرين من سوس –مثلا- متابعتها بسبب هيمنة "لهجة" معينة على النشرات. فلو كانت هناك لغة موحدة لما كانت الصعوبة بهذه الدرجة لأن اللغة الموحدة قاموسها يغرف من كل اللهجات. بخصوص تعميم تعليم الأمازيغية؛ هذه المسألة تعاني تعثرا لافتا لكن المسؤولية تتحملها الجهات التي تقف على أجرأة البرامج (وزارة التعليم، المعهد الملكي للثقافة الامازيغية و ما يدور في فلك السلطة) و ليس الحركة الأمازيغية.
ثمة منجز هام ساهمت الحركة الأمازيغية في تحقيقه بشكل كبير يتعلق الأمر بإمداد الساحة الفكرية المغربية  بجرعات من النسبية و القبول بالرأي الآخر و إيجاد مساحة للاختلاف و الانتفاض ضد الإطلاقية و الدوغمائية و التشبع بثقافة التساؤل و كسر الطابوهات..
لكن، أمام هذا الأداء المتميز للحركة الأمازيغية الذي يتجسد في الوفاء للأهداف المرسومة و تحقيقها بنَفَس تراكمي. ثمة قضية تطفو على السطح بقوة خصوصا مع بداية الألفية الثالثة و هو الخطر الذي يتهدد الأمازيغية  المُتَمثل في الانقراض على المستوى الشفهي. هذه المرة، الخطر يأتي من ضرة حقيقية هي "الدارجة المغربية" التي يراد تدرسيها من طرف بعض الجهات ! (و ليست الضرة هي اللغة العربية كما يتوهم بعض المنتسبين إلى الحركة الأمازيغية) و التي طالما تفاخر المناضلون الأمازيغيون من جيل التأسيس بكونها أمازيغية القالب. و المثير للتساؤل حقا هو وجود بعض المناضلين في الحركة الأمازيغية يستسهلون هذه القضية و يُرَبُون أبناءهم على الحديث بلغة أجنبية (الفرنسية) أو الدارجة فيفقدون لغة أمهم التي من الصعب أن يتداركوا تعلم الحديث بها إن أخطأوا الموعد معها في الصغر و الطفولة بخلاف الدارجة أو اللغات الأخرى التي تُتعلم عاجلا أو آجلا. و قد سبق للناشطة الأمازيغية مريم الدمناتي أن أشارت إلى خطر الموت البطيء على مستوى التداول الاجتماعي  في ندوة وطنية حول الأمازيغية في أبريل 2015 بالمكتبة الوطنية بالرباط. و الخطير في هذا هو أن كل المكاسب التي أنجزت طيلة عقود لصالح الأمازيغية في الميادين الفنية و الأدبية و الحقوقية و الإعلامية في طريقها لأن تُضرب في الصفر ! لأن الناس إذا فقدوا القدرة على التواصل بالأمازيغية لن يحسوا  بجمالية المنتوج الأدبي و الفني الأمازيغي و بالتالي لن يشجعوه مما يهدده بالفناء. فإعداد الإنسان الذي يحمل اللغة هو أهم حلقة في النضال من أجل قضية اللغة؛ فإذا فُقد هذا الإنسان لن يعود  الحديث عن اللغة و لا تمجيدها و لا توفير كلمات في حقها في ديباجة الدستور شيئا ذا بال.   

إن تقييم أداء الحركتين الاجتماعيتين القويتين اللتين تستأثران باهتمام المنخرطين في العمل الثقافي و السياسي المغربي يروم أساسا تسليط الدور على حلقة مفقودة في التحليل المُقدم لهذا الأداء. تتجسد هذه الحلقة في نسيان المهمة الأصيلة التي تشكل مبرر وجود هذه الحركات مع توالي السنين بفعل الانخراط في معارك يفرضها التاريخ بالإضافة إلى المراجعات الفكرية التي تستهدف تسديد و تجويد عمل هذه الحركات.
فإذا كانت الحركة الإسلامية قد قامت أساسا لإعادة الاعتبار للإسلام في الحياة فإن هذه الرسالة تقتضي العمل بشكل فعال من أجل تربية الفرد المشبع بمعاني "التقوى"؛ و لا ينبغي أن تنسيها القضايا الراهنة التي تعمل لها (أي قضية التحرر السياسي) هذه المهمة الأصيلة. فقضية التحرر السياسي محو مشترك مع كل الفضلاء الديمقراطيين من شتى المشارب و التوجهات لكن مهمة إرشاد الناس لبناء أركان التقوى هي عنوان وجود الحركة الإسلامية وحدها و من العسير أن تضطلع بها حركة اجتماعية أخرى. فضلا عن أن تشييد صرح التقوى هو بمثابة إقامة للتحرر على المستوى النفسي مما يهيئ مناخا ملائما للتحرر السياسي: فطالما ردد المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه (تأملات) ما مفاده أن الإسلام بدعوته المنتسبين إلى رسالته لنفي كل شعور بالاستعلاء على الناس أو انزلاق نفسي نحو قبول العبودية لحساب آخرين فإنه بذلك يرسخ أقدام الشعور الديمقراطي في نفوس المسلمين. فضلا عن هذه المسألة، أبناء الحركة ملزمون في هذه المرحلة بخوض غمار النزال المعرفي بأدواته المعروفة للإسهام في الإجابة عن الأسئلة التاريخية التي مازالت معلقة.
كما إن الحركة الأمازيغية؛ إذا كانت قد حددت غاية غاياتها في صيانة حق البقاء و النماء للأمازيغية فإن الوفاء لهذا الهدف الطموح ينبغي أن يبدأ من الحرص على استدامة التداول الاجتماعي للأمازيغية خصوصا و أن الحقائق لا تبشر بمستقبل سار للأمازيغية على المستوى الشفهي ذلك أن هناك دراسات تقول بأن تصاعد "التمدين" يقابله تراجع في التواصل بالأمازيغية في الحياة اليومية. من هنا على الحركة الأمازيغية أن لا تنسى أن النجاحات الرمزية التي حققتها الأمازيغية تُخفي خطرا داهما هو الانقراض الشفهي للأمازيغية. و يمكن لإدماج حقيقي للأمازيغية في التعليم أن يُخفض درجة الخطر لا إبعاده نهائيا.




...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




كلما قرأ المغربي التاريخ السياسي لبلده إلا و يقف مشدوها لكثرة الفرص المضيعة أمام تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي منذ ستينيات القرن الماضي. و كلما كان واعيا  بطبيعة الحركات السياسية و الاجتماعية الوطنية التي تتحرك في المسرح منذ الاستقلال و كلما كان مطلعا على المناورات المعمول بها للتشويش على مسار هذه الحركات. كلما كان متسلحا بسلاح المعرفة ذاك؛ تجلت له الحقائق ناصعة و مدلولات الوقائع ساطعة.
لنعد إلى الذاكرة السياسية المغربية؛  لنقف على وجه الشبه بين ما جرى في أول انتخابات جماعية بالمغرب سنة 1960 و ما وقع في الانتخابات الجماعية لسنة 1976  و بين ما يجري في الانتخابات الجماعية لسنة 2015.
انتخابات 1960 أقيمت بعد أسبوع واحد من إقالة حكومة عبد الله إبراهيم. و هذا يُلمح أيضا لما كان وراء مساع خائبة كانت ترمي لإسقاط حكومة عبد الإله بنكيران منذ سنته الثانية 2013 و ما وراء مسلسل تأجيل الانتخابات الجماعية (إلى حين سقوط الحكومة أو انتظار تآكل شعبيتها !).
على كل حال، لم تؤثر إقالة حكومة عبد الله إبراهيم في معنوية المناضلين الاتحاديين فقد تجندوا لتعبئة الجماهير فكانت النتيجة أن فاز مرشحو الاتحاد، عندما أعلنت النتائج يوم 30 ماي 1960، بأغلبية ساحقة في أغلب المدن و القرى. لقد حصل مرشحو الاتحاد على أرقام قياسية في البيضاء و الرباط و طنجة و الجديدة و القنيطرة و غيرها. من بين النتائج التي كان لها وقع المفاجأة العظمى في الداخل و الخارج انهزام السيد محمد الدويري الذي عين وزيرا للمالية في حكومة ولي العهد (الحسن الثاني) في الرباط أمام مرشح الاتحاد الحاج محمد بنعلال العوينات، و كان يكسب قوت يومه من بيع الفحم (الفحام). (في غمار السياسة: فكرا و ممارسة- الكتاب الأول، محمد عابد الجابري. الشبكة العربية للأبحاث و النشر. الطبعة الأولى 2009. ص: 262)
و بانتباه بسيط نجد أن ذات السيناريو هو الذي تحقق في 4 شتنبر 2015؛ إذ أسقطت الجماهير الشعبية مرة أخرى العديد ممن تربع على كرسي الوزارة و قادة الأحزاب (بلخياط، أوزين، شباط، الباكوري..). و بخصوص اكتساح الاتحاد للقرى آنذاك و غيبة وريث الاتحاد (العدالة و التنمية) عن هذه المناطق اليوم؛ المسألة تبين، من جهة، أن الاتحاد كان ملتحما مع الجماهير الشعبية في كل الأوساط و "العدالة و التنمية" مازال في بدايات اقتحامه لهذه الأوساط. و من جهة ثانية، يواجه حزب العدالة و التنمية حزبا من أذكى (و أشرس) أحزاب السلطة على مر تاريخها هو حزب الأصالة و المعاصرة  استغل بشكل لافت وضعية الجماهير في القرى، بينما حزب "البام" الأول (أي جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) بزعامة كديرة لم يكشر عن أنيابه إلا في سنة 1963 و ربما كانت نتائج الانتخابات الجماعية لسنة 1960 هي السبب !
مرت التجربة الديمقراطية الأولى للانتخابات الجماعية كأحسن ما تمر الانتخابات في البلدان المتقدمة التي قطعت أشواطا كبيرة في الحياة الديمقراطية. و إذا كانت هذه النتائج قد أظهرت بوضوح مدى انتصار التقدمية و اندحار الرجعية حيث اكتسح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اكتساحا عظيما هائلا، في جميع نواحي البلاد. و قد نجح الاتحاد الوطني نجاحا هائلا مؤيدا بالأرقام و الأسماء، آن أن ننصرف جميعا إلى ما هو أهم، إلى بناء مستقبل البلاد، واضعين ثقتنا الكاملة في الجماهير الشعبية التي برهنت عن وعيها و نضجها و رشدها. و الخطر كل الخطر هو السقوط مع الرجعية الفاشلة في مجادلات كلامية دائمة لأن الاستعمار، حليف الرجعية، يريد أكثر من هذا. يريد أن نبقى في مجادلات فارغة مع القوى الرجعية، ليتفرج هو، و يستغل انصرافنا عن أهدافنا الوطنية فيثبت أقدامه و يوطد ركائزه في حين أن المعركة القائمة في المغرب هي معركة ضد الاستعمار و بقايا الاستعمار، معركة من أجل الديمقراطية و التحرر و التقدم المطرد. لذلك يجب أن ننصرف للعمل من أجل مستقبل البلاد.
"نعم لقد انتصرنا اليوم و علينا أن نعمل لننتصر غدا. هذا شعارنا، و على ضوئه سنسير واثقين من أنفسنا و من قوتنا كشعب مناضل مكافح. فلنسر جميعا معززين بانتصارنا، فلنسر جميعا و الله معنا، و النصر لنا". هكذا ختم الأستاذ محمد عابد الجابري تعليقه على نتائج الانتخابات الجماعية الأولى في المغرب التي أُجريت سنة 1960. (المرجع السابق، ص:263-264)
و ليس بعيدا أن يظن أي قارئ لهذا النص أن قائله أحد قادة العدالة و التنمية قاصدا بدعاة الرجعية أصحاب المشروع السلطوي (حزب الأصالة و المعاصرة) الذين يحملون بحق أفكارا  في منتهى الرجعية من قبيل استئصال إحدى أكبر الحركات الاجتماعية بالمغرب و احتضان السلطوية و حماية المفسدين و رعاية السعاة لإعاقة مشروع الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن علاوة على الحنين إلى سلب إرادة الجماهير و التحكم في المشهد بالهواتف و ألوان الوعيد.
لننتقل إلى الانتخابات الجماعية لسنة 1976. فقد جرت كما كان مقررا في 12 نونبر بعد حملة انتخابية واسعة خاضها مناضلو الاتحاد في كل مكان، فجاءت النتائج كما كانوا يتوقعون. لقد أسفرت نتائج التصويت التي أعلنت عن "فوز الاتحاد بالأغلبية في أهم المدن و المراكز الحضرية و القروية: في الرباط و فاس و طنجة و أكادير و تارودانت و سيدي قاسم و صفرو". كان الاتحاد يستحق هذه النتائج، فلقد كانت حملته الانتخابية ذكية و قوية، و قد قام المرحوم عبد الرحيم بوعبيد فيها بدور هام، إذ زار كثيرا من المدن و ترأس عدة مهرجانات خطابية في جو من الحماس يذكر بذلك الذي عاشه الاتحاديون في حملاتهم الانتخابية في أوائل الستينات. و لكن دار لقمان تأبى إلا أن تبقى على حالها. لقد تدخلت أيدي التزوير لتغير نتائج مكاتب التصويت و لتعلن وزارة الداخلية عن نتائج أخرى في كثير من المناطق. و بدأت المحرر (جريدة حزب الاتحاد الاشتراكي) بالتشهير بالتدخل الذي حصل فكتبت تقول بعناوين كبيرة: "رغم نزول خصوم الديمقراطية بكامل ثقلهم، و رغم التزوير و طبخات آخر ساعة، الاتحاد الاشتراكي ينتزع أغلبية المقاعد و الأصوات في أهم المدن و المراكز. تدخلات آخر ساعة حرمت الاتحاد من عشرات المقاعد بفارق يتراوح ما بين صوتين أو ثلاثة أصوات". "عملية انتزاع الأغلبية من الاتحاد مستمرة بمختلف الوسائل... و ممارسة الضغط على الناجحين الاتحاديين لإعلان حيادهم و التعاون مع من يسمون ب"الأحرار". و كان هو حزب عصمان الذي خلف حزب كديرة. (في غمار السياسة: فكرا و ممارسة-الكتاب الثالث، محمد عابد الجابري. الشبكة العربية للأبحاث و النشر. الطبعة الأولى 2010. ص:33)
قراءة هذا التاريخ خصوصا في هذه المرحلة من أوكد الواجبات لأنه ثري بالدروس الملهمة لنا لإنجاح هذه الفرصة التي أمام مشروع الانتقال الديمقراطي الذي تم تأجيله من بداية الستينات !
رغم اكتساح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لنتائج الانتخابات الجماعية الأولى لسنة 0196، إلا أن مشروع البناء الديمقراطي تعرض لإجهاض سريع و ضُيعت فرصة تاريخية لإنشاء دستور ديمقراطي. فإثر هذه النجاحات على مستوى الاستشارات الشعبية؛ يقول الأستاذ الجابري: أدرك خصوم الاتحاد، و على رأسهم كديرة و جماعته، أنه إذا أجريت انتخابات مجلس تأسيسي لوضع الدستور سيكون حظ الاتحاد فيه كحظه في انتخابات الغرف و البلديات، و بالتالي سيكون الدستور الذي سيضعه هذا المجلس في صالح ملكية دستورية ديمقراطية حقيقية. من أجل ذلك انطلقوا في حملة من الوشاية الكاذبة ضد الاتحاد قصد التأثير في جلالة المرحوم محمد الخامس، و قد أسسوا حملتهم على القول إن الاتحاد الوطني بمطالبته بالمجلس التأسيسي إنما يريد الإطاحة بالملكية كما حدث حين الثورة الفرنسية عندما اجتمع مجلس تأسيسي سنة 1789 و قرر إلغاء الملكية. (في غمار السياسة: فكرا و ممارسة-الكتاب الأول، ص:264). و سرعان ما انزلق المغرب، بسبب تلك الوشايات المغرضة، نحو ما تسميه الأدبيات الاتحادية ب"الحكم الفردي" بُعيد وفاة الراحل محمد الخامس ذلك الحكم الذي تم تأطيره بدستور 1962. و بذلك تم إجهاض مشروع الديمقراطية الأول في المغرب المستقل و الإجهاز على إرادة الشعب المغربي في التغيير بإنشاء أول نسخة من لون "الأصالة و المعاصرة" باسم جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية.
في الانتخابات الجماعية لسنة 1976؛ الاتحاد الاشتراكي يفوز بثقة الجماهير من جديد. لكن هواة الإجهاز على إرادة الشعب  يحرصون على الولادة الميتة للمشروع الديمقراطي الثاني في المغرب المستقل. و يدفعون بالنسخة الثانية من لون "الأصالة و المعاصرة" تحت اسم التجمع الوطني للأحرار الذي تأسس رسميا سنة 1977 و وُلد بملعقة من ذهب إذ حصل على الأغلبية مباشرة في الانتخابات و زعيمه هو الوزير الأول عصمان !
اليوم في الانتخابات الجماعية 2015، بدأ نفَس الاستبشار بنجاح المشروع الديمقراطي الرابع في المغرب المستقل (فالمشروع الثالث كان مع اليوسفي، لكن مع الأسف تم إجهاضه كذلك !) يسري في أوساط العديد من الناس، منطلقين من حدث 4 شتنبر الذي تحررت فيه إرادة الشعب  و استعاد فيه المبادرة. إذ اكتسح فيه الوريث الطبيعي لنضالات و خط الحركة الاتحادية في نسختيه (الاتحاد الوطني، و الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) المدن و المراكز الكبرى؛ فكما وقف الاتحاد الوطني أمام النسخة الأولى من "البام" التي تزعمها كديرة تحت عنوان (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) في الستينات، و وقف أمام النسخة الثانية من "البام" التي تزعمها عصمان بعد منتصف السبعينات تحت يافطة (التجمع الوطني للأحرار)، ها هو حزب العدالة و التنمية يقف بثبات أمام  النسخة الثالثة من "البام" المسماة (الأصالة و المعاصرة) التي يتزعمها إلياس العمري !
لن نفهم ما يجري اليوم في المشهد السياسي المغربي إن لم نعي أن حزب العدالة و التنمية ليس حزبا كأيها الأحزاب. لن نتمكن من فك مغالق المناورات حول التحالفات في الأيام المنصرمة إلا بعد أن ندرك أن حزب العدالة و التنمية: يعد واجهة سياسية لفكرة إصلاحية تتغيا تخليق الحياة السياسية المغربية. لن نستوعب طبيعة الخناق الذي يضرب على الحزب على المستوى الإعلامي إذا لم نلحظ بذكاء أنه امتداد لحركة وطنية إصلاحية مجيدة؛ حركة كان عنوانها حزب الاستقلال (من 1943 إلى 1958: مع حكومة بلافريج) و كان أملها "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" (من 1959 إلى 1972) و كان تألقها في "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" (من 1975 إلى 2002 ! ). لن ننتهي إلى مفهوم للحرب المعلنة من طرف "الدولة العميقة" على هذا الحزب إلا حينما نفهم أنه في طليعة القوى الديمقراطية الصلبة التي تعاند بلا هوادة  المشاريع السلطوية الاستبدادية البائدة.
باختصار؛ لن نتمكن من إدراك صحيح لما يجري في المشهد السياسي المغربي إلا إذا ضممنا إلى بنيتنا الذهنية ما يلي: حزب العدالة و التنمية واجهة لمشروع وطني تحرري يروم استكمال بناء المغرب المستقل مسترشدا بتراكمات و تضحيات كل الحركات الوطنية المناضلة.
صحيح أنه مشروع مازال يتلمس بنيانه الفكري الراشد. لكنها طبيعة المشاريع الإصلاحية تستهدي و  تستفيد من التجربة و الممارسة لنفض الغبار عن الأخطاء و العثرات و لفظ كل ما هو عتيق غير مفيد من الأفكار. فأمامنا الحركة الاتحادية مرت في فكرها من "التقرير المذهبي" للرئيس عبد الله إبراهيم في المؤتمر الثاني (سنة 1962) و عرجت على "الاختيار الثوري" للزعيم المهدي بنبركة الذي كانت له أصداء واضحة في "التقرير الإيديولوجي" الذي صاغه المفكر محمد عابد الجابري في المؤتمر الاستثنائي (سنة 1975).
إن درس التاريخ السياسي يقول إن الإيمان بالديمقراطية و الانشداد إلى إرث الحركة الوطنية يقتضي الاعتراف بأن حزب العدالة و التنمية يمثل طليعة القوى الديمقراطية الإصلاحية (التي فيها قوى أخرى: حزب التقدم و الاشتراكية و فيدرالية اليسار الديمقراطي) في هذه المرحلة. و أيُ اعتداء غير مشروع على حق الحزب في التسيير و المشاركة في أركان الحياة السياسية هو اعتداء ينذر بإجهاض الانتقال الديمقراطي الرابع الذي حقق أشواطا مهمة لم يسبق لها مثيل. إنها معادلة ينبغي أن تكون واضحة لدى كل الديمقراطيين و كل الوطنيين و كل الغيورين. فدرس التاريخ الاتحادي أثبت أن الاستهداف غير الأخلاقي للاتحاديين، باعتبارهم آنذاك عنوان الإرادة الشعبية، كان استهدافا للمشروع الديمقراطي في المغرب برمته.



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




شكلت العملية الانتخابية الأخيرة بملابساتها و نتائجها محطة جديدة تبعث رسائل هامة لمختلف الفاعلين في الحقل السياسي و التحليل الاستراتيجي ببلدننا و محيطنا. لعل أبلغ رسالة جامعة فيها كانت: "من جد وجد و من زرع حصد".. صار واقعا لا مثالا فحسب.
أولا؛ ما قلناه في "رسائل من تيزنيت" من كون المصباح بات عنوان المرحلة بلا منازع و رائد الموجة الإصلاحية الثالثة عن جدارة و استحقاق، انطلاقا من الحشود التي تلتئم حول خطاباته، صار حقيقة أكيدة بالصناديق الشفافة النظيفة.
ثانيا؛ بخصوص مسار الانتقال الديمقراطي في وطننا، أكدت النتائج أننا على الطريق الصحيح. من جانبي، حضرت -كغيري من الشباب المقربين من محيط المصباح-لأداء واجب مراقبة نزاهة العملية الانتخابية و نظافة الأصوات المحسوبة؛ فتداعت الخواطر الآتية في ذهني: أ ليست الانتخابات التي أرى أمامي نزيهة؟ أ ليست قضية الفوز رهينة بأصوات الشعب؛ رهينة بجهدك في إقناع المواطنين بأفكارك و برنامجك؟ لماذا يقاطع المقاطعون، إذن؟
ثالثا؛ بخصوص تراجع حزب "البؤس" في المدن و استمرار جراره البئيس في البوادي. ثمة هناك رسالة في غاية الوضوح مفادها أن "الأصالة و المعاصرة" مطالب بحل نفسه اليوم قبل غدا. لأنه لم يعد ممكنا له -بعد أن بدأ الوعي السياسي يتنامى- إلا أن يضحك على ذقون العجائز و الشيوخ الذين شبوا و شابوا في العهد البائد. و بما أن جمهور "البام" قد شاخ و بات على عتبة سجلات الوفيات فإن الحزب اللقيط يطل على نعشه من النافذة في انتظار أن يخرج إليه من الباب.
في ذات السياق، لا يفوتنا أن ننسى أن "البام" ليس الحزب الإداري الوحيد بقدر ما هو الحزب البئيس الذي صُنع حديثا ليعيق الانتقال الديمقراطي في هذه المرحلة. فهناك حزب التجمع الوطني الأحرار و حزب الاتحاد الدستوري و حتى حزب الحركة الشعبية؛ فهي كذلك أحزاب إدارية مريضة بأمراض مزمنة انتهت أدوارها منذ مدة: مازالت تقتات من ذات الجمهور الذي شاخ أي الوقود الحالي  "للبام" في الانتخابات. و بالتالي فأجلها اقترب جدا: ينبغي أن تحل نفسها و يلتحق فضلاؤها – الراغبون في مواصلة العمل السياسي بشرف- إما بحزب العدالة و التنمية أو فيدرالية اليسار الديمقراطي.
رابعا؛ بخصوص تراجع الأحزاب الوطنية التاريخية (حزب الاتحاد الاشتراكي و حزب الاستقلال). ثمة هناك رسالة ساطعة تقول: إن هذه الأحزاب أصبحت متعفنة ينبغي عليها أن تُعجل بالاستقالة من الحياة السياسية و حل نفسها. حزب الاتحاد الاشتراكي مات ! حزب الاتحاد الاشتراكي بسلوكه السياسي البائس و ترشيحه لأمثال المدعو عبد الوهاب بلفقيه بكلميم الذي يستعمل المال الحرام و يشتري الذمم و الأصوات قد اغتال مرة ثانية الشهداء و المناضلين الذين ماتوا من أجل مغرب النزاهة و الديمقراطية و العدالة و الاجتماعية.
  فأما الشرفاء و الصادقون من هذه الأحزاب، إن كانوا ذوي ميولات يسارية، فمن الواجب الأخلاقي عليهم أن يلتحقوا بفيدرالية الشرفاء (فيدرالية اليسار الديمقراطي) التي تعد آخر عناقيد اليسار المبدئي: إذ فيها أمثال المثقف الكبير محمد الساسي (الذي كان في الثمانينات الكاتب العام للشبيبة الاتحادية حينما كانت تؤطر الجماهير الشعبية بالآلاف) الذي ترشح في ذيل اللائحة في الرباط، إنهم الكبار الذين لا تسيل لُعابهم للسطة بل للديمقراطية و العدالة الاجتماعية و الإصلاح !
بخصوص حزب التقدم و الاشتراكية و حزب البديل الديمقراطي، من الأفضل لهم أن يلتحقوا كذلك بهذه الفيدرالية التي تستحق أن تتقوى. لكن، من جانبها ينبغي على الفيدرالية أن تتخفف من بعض التكبر الذي يتخلل خطاب بعض قادتها (إذ يعتبرون أنفسهم الأوصياء على الديمقراطية و الحرية و يتغافلون عن "النضالية" المنقطعة النظير التي تسم خط "العدالة و التنمية"). إننا في حاجة لمغرب يكون لكل الصادقين.
إن هذا التأثيث المأمول للمشهد الحزبي المغربي، كفيل بتسريع وتيرة الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن و وضع الحد للميوعة السائدة فيه و لفظ الكائنات السياسية التي لا تجيد سوى التهريج و التدجيل و شراء الأصوات في الانتخابات. إنه مشهد جدير بتمتيع المغرب بحياة سياسية راقية تقترب من مشهد الدول العريقة في الديمقراطية حيث التنافس يدور بين قطبين أو حزبين –على الأكثر ثلاثة أحزاب- و يكون التدافع ساريا بين البرامج و الأفكار. إنه المغرب المأمول ! على كل حال، المغرب أخذ طريقه السيار و لا عودة إلى الوراء.
أخيرا؛ رسالة أخرى تعد جوهر الرسائل، بالنسبة لي كمهتم بالأطر النظرية و الفكرية للسلوك السياسي أكثر من الممارسة السياسية، هي أن فكرة "الحتمية" التي تحرك تحليلات الكثير من المثقفين الفضلاء (منهم أصدقائي) الذين نكن لهم كل تقدير و احترام لما لهم من غيرة لا غبار عليها و رغبة صادقة في إخراج مجتمعنا من التأخر التاريخي الذي يرتع فيه؛ أصبحت هذه الفكرة بعد هذه المحطة الديمقراطية في عداد الأفكار التي تستدعي أن يعاد فيها النظر بجدية..
أقصد بفكرة "الحتمية"؛ الخطاب الذي يتضمن تشاؤما مطلقا و رؤية سوداوية لأن المسار السياسي –عندنا- حسب أصحابه لا يسير وفق التحليلات العلمية و لا وفق المسار الذي اتخذته الدول العظمى للتقدم (= أي ضرورة انتشار وعي طبقي وفق الثقافة الماركسية للقيام بثورة ثم بناء حياة حديثة..). و بالتالي أصحابه ينادون بحتمية سلوك مسلك الثورة  -بذاك المفهوم- للخروج من نفق التأخر التاريخي.
إن خط الانتقال الديمقراطي (الذي يعد شرطا لازما للانتقال التاريخي) بهذا الوطن؛ إذ ينتهج نهجا تراكميا تدرجيا متميزا يؤكد أن فكرة "حتمية" الانتقال وفق نمط معين باتت محدودة.



...تابع القراءة

| 2 التعليقات ]







شاءت الأقدار أن أصل إلى تيزنيت ساعات معدودة قبل بدء المهرجان الخطابي الذي استضاف الأستاذ عبد الإله بنكيران.  لا أخفي أني لا أتعلق بالأشخاص كثيرا مهما كانوا، لكني في ذات الوقت أعلن باعتزاز أني أرتبط ارتباطا وجدانيا عميقا بالصادقين (و الصادقات) من الناس لأني ببساطة أرى فيهم معنى الإنسان و قبسا من روح الله. و لا سلطة لي على دموعي حين أستمع لهم إذ تحين ساعة اللقاء و يجيش عالم الارواح.
حضر للمهرجان المذكور الذي استضاف حامل مشعل المصباح (ذ. بنكيران): حشد و أيُ حشد ! حشد مخيف بكل صدق !
لم أتصور يوما –و أنا الذي كنت قريبا جدا من محيط المصباح- طيلة أيام الثانوية و الإعدادية بتيزنيت أن "العدالة و التنمية" قادر على تعبئة الجماهير بهذه الكثافة المنقطعة النظير. إنه الصدق يا سادة ! إنه خطاب الصادقين الذين لا يجيدون التصنع و الزخرفة و "التزويق" !
رغم أني لا أؤمن بحكاية " الزعيم" ! إلا أنه – من دون شك-  يبقى الأستاذ عبد الإله بنكيران في طليعة رجالات الوطن الكبار الذين هيأتهم العناية الإلهية لهذه المرحلة. هو –بلا مبالغة- وريث عبد الله إبراهيم و المهدي بنبركة و عبد الرحمان اليوسفي. بل ربما هو  المنافس الشرس، الذي لا يشق له غبار، للمهدي بنبركة في القدرة التواصلية المذهلة و  احتلال قلوب المواطنين.
إنه الصدق –مرة أخرى- يا سادة ! فلا يوهمن أحد نفسه بمكانة مرموقة في أوساط الناس و هو سالك طريق الكذب و الافتراء و التسلق و التملق و الخواء و الفراغ ! إنه الصدق –أولا و أخيرا- مع رب العالمين في المُرابطة على درب الصالحين و المصلحين ! إنه الصدق –ثانيا- مع الوطن و المواطنين في العمل – قدر المستطاع – على رفع الوهن عنهم و الارتقاء بأحوالهم و الوقوف ضد كل من يكيد لهم !
إن الرسالة التي لن يغفل النبهاء عن تلقُفها من وراء الحشود التي تحضر منتديات و مهرجانات المصباح؛ هي أن فكرة "العدالة و التنمية" و المشروع الحاضن لها هو رائد الموجة الثالثة من الحركة الوطنية الإصلاحية. فبعد الموجة الأولى مع حركة الاستقلال : و أشير في هذا الصدد أني لما وقفتُ بجوار المنصة التي اعتلاها الأستاذ بنكيران مع العديد من الشباب عادت بي الذاكرة إلى الذاكرة السياسية للمفكر العملاق محمد عابد الجابري التي سجلت (في "مواقف") المهرجان الجماهيري الحاشد الذي أطره الراحل الكبير المهدي بنبركة –في إطار حزب الاستقلال- في الدار البيضاء لعله في سنة 1955 و شارك الشاب محمد عابد  الشباب في حراسة منصته و هو إذ ذاك على مشارف العشرين (فهو من مواليد دجنبر 1935) التي بدوري أُطل على عتبتها في هذه الأشهر الجارية !  
بعد الموجة الاستقلالية جاءت الحركة الاتحادية لتضفيَ على المشهد السياسي معان أخرى و كان قائدها في نسختها الثانية  الوطني الكبير الأستاذ "عبد الرحيم بوعبيد" المحبوب لدى شريحة واسعة من المواطنين. و للأسف الشديد فقد حمل إدريس لشكر نعش الحركة الاتحادية إلى  مثواها الأخير.
هكذا سنن التاريخ ! اقتضت أن يكون مشروع الإصلاح الذي يمثل "العدالة و التنمية" واجهته السياسية بمثابة خميرة للحركة الإصلاحية الجديدة التي تألقت بعد الحراك الفبرايري المجيد ! و الجميل أن هذه الموجة الثالثة استجمعت جواهر الحركة الاستقلالية (مقاصد الشريعة عند الفاسي) و درر الحركة الاتحادية (الوطنية الصادقة، الصلابة الأخلاقية و الديمقراطية). و بالتالي فكل رافض –هكذا بإطلاق- للحركة الإصلاحية الثالثة (بقيادة العدالة و التنمية) فهو معاند لسنن التاريخ و مُهمل للحقائق الساطعة في الواقع الراهن.
إن الوعي بالواقع السياسي الحالي يقول: إن حزب الاتحاد الاشتراكي انتهى ! و كل ارتباط بهذا الحزب إنما هو ارتباط بمنظومة رجل لا يخلو كلامه من مغالطات و أكاذيب و سفه و تدجيل. إن حزب الاستقلال، منذ مدة ليست قليلة، بات حزب الأعيان و الراغبين في الانتفاع بالمال العام و الاغتناء غير المشروع و هو حزب بلا بوصلة و لا مشروع يحكمه رجل: لا يختلف مواطنان حول جهله و دجله و خبله و سيلان لُعابه (للسلطة). أما أحزاب التجمع الوطني للأحرار و الاتحاد الدستوري و الحركة الشعبية (نسبيا) فهي أحزاب إدارية وظيفية أنشأها (المخزن)  للتشويش على مسار الحركة الاتحادية خصوصا، غدت الآن في المشهد السياسي –للأسف فهذه هي الحقيقة- بلا وظيفة تذكر سوى توفير نصاب الأغلبية (و العدالة و التنمية مضطر للتحالف معها لأن المشهد أصلا مبلقن و لا خيار له في ذلك  في انتظار تغير حقيقي في النظام الانتخابي يسمح بأغلبية تتشكل من حزبين : حزب العدالة و التنمية  مع حزب كالتقدم و الاشتراكية أو فيدرالية اليسار الديمقراطي) و هي –بلا شك- توظف أساليب بئيسة تنتمي للعهد البائد في العملية الانتخابية: المال الحرام و شراء الذمم... أما حزب البؤس و البؤساء (ليس"البؤس" بالمعايير المادية؛ فأغلبهم من اليسار الجذري الفاشل الذي انتقل من حب التحليلات العلمية ل"رأس المال" (الكتاب الأشهر لكارل ماركس)–حسب تعبير المناضل الوطني الغيور: عبد العزيز أفتاتي- إلى حب "المال" و الريع و الاغتناء غير المشروع و بحبوحة العيش على حساب الكادحين. بل أعني "بؤسهم" من ناحية فقرهم الأخلاقي و القيمي: فكل مشروعهم هو العداء للحركة الإسلامية و  استئصال شأفتها و بالتالي العداء للديمقراطية و دولة المؤسسات و الحرية؛ أي في نهاية المطاف مشروعهم هو تكريس الفساد و تثبيت الاستبداد)؛ فهو حزب مخزني بامتياز جرائمه المتواصلة –في السر و العلن- بحق مشروع الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن تستدعي  يقظة جادة من طرف كل المواطنين الغيورين.
لم يبق –إذن-من الأحزاب المُعول عليها سوى حزب العدالة و التنمية و هو حزب المرحلة.  و بالمناسبة: الوعي بسنن التاريخ؛ يقتضي أن نفهم بأن لكل محطة رجالها و نساؤها و عنوان جامع لمشروعها: و بالتالي لا مناص مرة أخرى من الإقرار بأن مشروع الإصلاح الذي يقوده العدالة و التنمية –رغم كل الملاحظات التي قد تسجلها عليه- هو إجابة عن أسئلة المرحلة. و نحن واعون بأن  صلاحية موجته ستنتهي في يوم من الأيام كما وُلدت كل الموجات و ماتت سواء بترهل في نضالية و قيم إنسان "المشروع" أو ظهور موجة جديدة من الإصلاح – و هذا مستبعد في المستقبل القريب- أكثر متانة و تماسكا و جاذبية. و من الجدير بالذكر كذلك أن المرحلة تتطلب أحزاب أخرى تكمل النقائص و تسد الثغرات و تتدافع أطروحاتها بشكل ديمقراطي راقي مع مشاريع و رؤى الحزب و أُقدر –و تقديري محدود- أن تكون فيدرالية اليسار الديمقراطي و أجنحة معتبرة من حزب التقدم و الاشتراكية هي الخطوط السياسية المرشحة لهذه المَهمة: فالانتقال الديمقراطي لا يحتمل طغيان لون واحد مهما كان، زد على ذلك أن التاريخ يسير دائما على أنقاض تدافع فكرتين. هذا ما أثبته كبار فلاسفة التاريخ.
إني هنا أتحدث في إطار الممكن و الواقعي و الموجود (من قبيل: واقعية "الجابري" مع الحركة الاتحادية الثانية، و خط "العروي" في الترشح باسم الاتحاد الاشتراكي سنة 1977). أما الحديث عن التماسك الداخلي لمنطق المشاريع و الصرامة المنهجية في التعبير عن الرؤى و الأفكار فذلك  حديث آخر.






...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





ألقى الأستاذ بلال أردوغان محاضرة مفتوحة حول أسرار نجاح التجربة التركية أمام الجيل السابع من أكاديمية إعداد القادة التي تنظمها سنويا شركة الإبداع الأسرية و تديرها الأستاذة بثينة إبراهيم (زوجة المفكر و الإعلامي المعروف طارق السويدان). لم يُفوت فيها المحاضر الفرصة لبعث رسائل مضيئة لمسارات "قادة" الغد.
استهل نجل الرئيس التركي كلمته بالتذكير بمدلول القيادة، كما درسه في إحدى الجامعات العريقة بالولايات المتحدة الأمريكية، و هو: القدرة على مواجهة المشاكل  و قيادة المعارك (على مختلف الأصعدة) في ظل غموض المشهد و ضبابية الصورة و طغيان التعقيدات و تشابك الملفات. و من هنا، اعتبر نجاح والده في قيادة التجربة راجع إلى استبطانه لهذا المدلول (رغم كونه لم يشهد الدراسة في الجامعات المتقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية !) فهو الذي يقول –أي الرئيس أردوغان-: أستمتع بمجابهة  المشاكل  الكائنة في مناخ موبوء و  مشهد مضطرب..
هذا الكلام يزكي كثيرا المسار الذي يرسمه حزب العدالة و التنمية في المغرب. فالحزب يدرك ما يكتنف العملية السياسية من غموض و تعقيد و ميوعة، لكنه -و بقيادة الأستاذ عبد الإله بنكيران- يصمد وسط الإعصار و يشق طريق فكرته الإصلاحية بثبات غير مكترث لأي مثبط أو كائن يعيش على الأماني و الانتظار.
اعتبر الأستاذ بلال أن توجُه حزب أردوغان إلى بناء اقتصاد قوي من خلال الدفع بعجلة الاستثمارات الأجنبية و تقوية البنيات التحتية و تلميع عمل البلديات  إلى جانب توجيه المشاريع نحو الفقراء و توطيد أركان الديمقراطية و الحرية. اعتبر كل تلك الإجراءات نجاحات ساطعة رفعت الوهن عن تركيا. لكنه استدرك: إن النجاح الحقيقي الذي حققناه هو المتمثل في جعل التدين في مركز الحياة التركية (قبل ولوج حزب العدالة و التنمية للسلطة كانت المرأة تُطرد من البرلمان لأنها محجبة، حاليا أزيد من عشرين محجبة و لا أحد بمقدوره أن يتجرأ على فتح فمه بخصوص زيهن بله أنطردهن من السلطة التشريعية).
أما زبدة الدروس التي وجهها نجل أردوغان ل"قائد" الغد فهي : اعرف نفسك، و عش لرسالتك.. النجاح التام يوجد هناك في الدار الآخرة.. لا راحة لنا في الدنيا. فحتى ما نظنه نعيما هنا، بالمقارنة مع ما في الفردوس الأعلى، هو جحيم. الخيبة كل الخيبة، إن فُزت هنا و أفلحت في الدنيا، و خسرت الآخرة فذاك هو الخسران المبين. و أضاف: المهم إن لم ننجح، بالنسبة لنا نحن المسلمون، هو أن نموت و نحن نحاول صد الظلم و الطغيان و مقارعة الباطل و الاستكبار..
هو درس و أيُ درس ! هو درس ابن الرئيس الذي لم تنسيه حياة واشنطن أو باريس بوصلة "الآخرة" التي تعد بحق منارة كل مسلم سعيد ! (كل نفس ذائقة الموت و إنما تُوفون أجوركم يوم القيامة فمن زُحزح عن النار و أُدخل الجنة فقد فاز و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). سورة آل عمران:185.
المهم هو أن تحاول  بكل قواك، هو أن تجاهد بكل جهدك، هو أن تُقلع.. و ليس بالضرورة أن تصل! المهم هو أن تقتعد مقعدا في الفردوس الأعلى فذاك هو غاية المنى ! أما أن تحتل حيزا بين الأمم العظمى، فلا شك أنه مطلوب، لكن يكفيك فيه شرف المحاولة.. ففيها مناط رسالة الاستخلاف.. و لعل الجيل الذي يعقبك يفوز بقطف ثمار محاولاتك !
كلام يزكي مرة أخرى تجربة العدالة و التنمية في نسخته المغربية. فهو حزب يخوض هذه الأيام غمار العملية الانتخابية في مستنقع آسن؛ في ظل غياب منافسة حقيقية من الأحزاب السياسية (باستثناء قطاع مُقدر من حزب التقدم و الاشتراكية و فيدرالية اليسار الديمقراطي الذي يحوي آخر العناقيد في اليسار الوطني المبدئي الغيور). فالمنافس الحقيقي للحزب هو الفساد و الكذب  و استعمال المال الحرام و استغفال جماهير الأمية..  لكن، "العدالة و التنمية" يكفيه أنه يحاول، بل هو يشق سبيل الفلاح في محاولته: إذ يقض مضاجع المفسدين (بحاله قبل مقاله) و يستنفر خطابه طغمة الأعيان و المتنفذين و يهجس لفكرته الإصلاحية حزب "البؤس" الذي تلطخ بمخازي المخزنة منذ نشأته في ثمانية بعد ألفين (2008)..
ختم نجل الرئيس التركي رسائله قائلا: نحتاج إلى قادة واثقين بأنفسهم، فخورين بدينهم و هويتهم. قادة يغشاهم الإيمان بربهم و يملأهم الحب لرسولهم (صلى الله عليه و سلم) و الحب للإنسانية جمعاء. لا تهتموا بما يقوله الناس فيكم بل ركزوا على ما يراه الله جل في عُلاه منكم.







...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



حضرتُ مؤخرا نشاطا دوليا جمع جنسيات متنوعة في الوطن العربي. أتاح لي اللقاء فرصة التعرف عن كثب على ملامح فرادة هويتنا الوطنية (بعد استحضار عمقها الإسلامي العربي). فالهوية، في أبسط دلالاتها، هي حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره. من هنا، كانت معاينتي لثقافة باقي مكونات الوطن العربي محطة لاستجلاء تميز هويتنا المغربية عن باقي الكيانات العربية، دون إهمال فكرة التنوع في إطار الوحدة.
إنه أمر لافت، أننا –نحن المغاربة- لسنا نسخة كربونية لغيرنا (=أي لأشقائنا العرب).
 خذ العامية المشرقية؛ فيها مشترك كبير في المعاني و المفردات بين مختلف الكيانات العربية من أقصى الخليج إلى الجزائر (و أعني ما أقول حينما أحُد المجال بالجزائر). و من اليسير لأي مواطن عربي، ينتمي لهذا المجال، أن يستوعب حديث زميله و لو كان من أقاصي هذا المجال. باستثناء العامية المغربية، لن يفهمها الكثيرون. و بالمناسبة، جنسية "العامية" لا علاقة بالتمكن من اللغة الفصيحة؛ فالمغاربة لا يتلعثمون في الحديث بالفصحى رغم بُعد عاميتهم عنها. بل إن أحد الشباب المشاركين في النشاط، و هو مهاجر مغربي أمازيغي قح من مدينتي "تيزنيت" يقطن في فرنسا منذ صباه في 2002 (درس الابتدائي في تيزنيت ثم هاجر)، يتحدث بفصاحة مثيرة للاهتمام.
على المستوى الفكري، المغاربة معروفون بالشغب الفكري و بآرائهم المثيرة التي تعادي التقليد و تنزع نحو التجديد. أحد الشباب المهتمين بالفكر، من الصومال، عبر لي عن تقديره الشديد للمفكرين المغاربة  (و أشار لي لبعض الأسماء: من بهذا قبيل الدكتور محمد عابد الجابري و هو "عروبي معتز بإسلامه"، و الدكتور سعد الدين العثماني و هو "إسلامي معتز بأمازيغيته").  و هؤلاء، رغم البون الواسع بين مجالات اشتغالهما، قدموا للمكتبة الإسلامية تجديدات مهمة و إضافات نوعية. كما عبر لي شاب آخر، من قطر، عن سروره بمقابلة أهل المغرب و حبه لعلمائه و مفكريه؛ دون أن ينسى استياءه  من "التواضع الشديد" الذي يتصفون به بخلاف أهل المشرق (قطر و البلدان الخليجية خاصة)، قائلا: ما إن يتحصل أحدهم على شهادة "البكالوريوس" (=الإجازة)، حتى يتجه نحو نشر "سبعة" كتب و المشاركة في الندوات و الدورات و  إنشاء المراكز  و "بلبلة" الدنيا..
على صعيد الفكر السياسي -مثلا-؛ الشباب المغاربة "حسموا" تقريبا ! مع خيار الدولة المدنية و الإيمان بالديمقراطية و الحرية. في حين أن العديد من الأطراف في الحالة العربية مازالوا يستنكفون من قضية "مدنية" الدولة. على أن العمليات الجراحية الفكرية مازالت تشتغل، هناك، للاتجاه نحو التصالح مع هذا الخيار.
دعونا نتساءل: لماذا هويتنا الوطنية فريدة و متميزة؟
لعل مجيبا يقول: إن المغرب تعرض لاستعمار فرنسي. و معروف أن فرنسا هي مهد التنوير و الحداثة.  و بالتالي، فالمغرب استفاد من هذه الرياح الفكرية التنويرية الفرنسية القوية للقيام بتجديد الفكر الديني و تثوير الخطاب الإسلامي.
لا شك أن هذا سبب مهم و مفتاح أساسي لفهم تقدم الذهنية المغربية على نظيرتها المشرقية (في العديد من الأصعدة). غير أننا إذا اكتفينا بهذا المستوى من التحليل. بماذا سنفسر، إذن، الفروق الكبيرة –على مستوى الذهنية- التي بيننا و بين سوريا الجريحة و لبنان الممزق و كلاهما تعرض للاحتلال الفرنسي؟
إني ،هنا، لا أخفي أن ذاكرتي تستدعي المكون الأمازيغي في هويتنا الوطنية. فهناك تكمن "العبقرية المغربية". و ينبغي أن ننصف المثقفين الأمازيغيين الوطنيين المعتدلين رواد الحركة الأمازيغية (ذ.أخياط، د،شفيق، ذ.أزايكو، د.بوكوس ..) الذين لفتوا انتباه المغاربة بعد رحلة نصف قرن من النضال الثقافي و الاجتماعي إلى هذا المكون الهام الذي يثري هويتنا الوطنية.
بخصوص قضية العامية أو الدارجة المغربية، لماذا هي عصية على باقي أبناء الوطن العربي. أشير إلى أن "فيلسوف" الحركة الأمازيغية أو بالأحرى "فيلسوف" لامريك (أي الجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي) –بتعبير ذ. ابراهيم أخياط- و هو الأستاذ الصافي مومن علي؛ اعتبر في إحدى كتاباته –لعله كتاب "خطابات إلى الشعب الأمازيغي"- أن الدارجة المغربية ترجمة حرفية للأمازيغية إلى العربية فبنيتها اللسانية أمازيغية خالصة.
هل هذا الرأي صائب أم لا؟ هذا نقاش اللسانيين. المهم أنه يضفي معان إضافية على الفكرة-الرأي: مرد فرادة هويتنا الوطنية الغنية هو المكون الأمازيغي. 
قصدي في هذه الأسطر ليس توسيع الهوة بيننا و باقي إخواننا في الوطن العربي. و إنما هو تجديد الدعوة للاعتزاز بالمكون الأمازيغي في هويتنا الوطنية. و هذا الاعتزاز بهذا الانتماء لا يتنافى إطلاقا –إلا في أذهان بعض المغرضين و المتحاملين على  عمقنا العربي الاسلامي- مع العمل على تعميق الصلة بباقي الكيانات العربية و خاصة المغاربية. فاليوم، بات واضحا انه من زاوية استراتيجية: لا مستقبل إلا للتكتلات البشرية الضخمة و الأسواق الكبيرة و بالتالي فلا خيار لنا في العمل بجدية على بناء  الاتحاد المغاربي  و لم لا الاتحاد العربي؟



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



عاينت مجريات أحداث  طريفة – و أليمة في الوقت ذاته - جرت بين ثلاث قريباتي؛ قصة تجسد بشكل لافت جانبا من المد و الجزر الذي مازالت تعرفه قضية المرأة في وطننا. القريبة الأولى امرأة مسنة جاوزت 77 سنة. بينما الثانية و الثالثة كانتا طفلتين إحداهما تبلغ من العمر 12  سنة  و الأخرى 11 سنة.
كانت بداية القصة مع التعامل غير الحسن الذي تقابل به السيدة المسنة الطفلة ذات 11  ربيعا. المسنة تصرخ في وجه الصبية، تطلب منها أن تخدمها و تنظف و تهيئ الفضاء ( و الطعام..) الذي يشغلنه. تتوسل المسنة لأمر الطفلة أو نهيها لغة جارحة، قاسية و غليظة ملؤها أنك (أي الطفلة) "أنثى" : ما الهدف من مجيئك للدنيا غير القيام بهكذا أشغال. واصلت المسنة حربها الكلامية على الصبية و إطلاق أوامرها التي لا نهاية لها عليها، غير أنها أضافت إلى ضحايا أوامرها الطفلة الأخرى ذات 12 ربيعا.
ذات وجبة غذاء، و أنا ألحظ من بعيد ما يقع، حرصت – لهذا السبب- بعد تناولي للوجبة على جمع فتات الطعام و نفايات المأكل. تلقيت شكرا من الصبية الكبرى. إلى جانب شكوى بليغة لخصت مجريات المعاناة النفسية و (المادية) للطفلتين. للإشارة، فالطفلة الكبرى، كانت صاحبة وعي حقوقي أرقى من وعي الصغرى.
الصبية الصغرى، في مرافعتها القصيرة أمامي، أشارت باعتزاز لافت إلى جواب بسيط المبنى و عميق المعنى في ذات الوقت واجهت به اللغة الجارحة و التهمة الدائمة (كونها "أنثى")  الصادرة من طرف المسنة: (إنه ربي هو الذي خلقني).
أما الصبية الكبرى، صاحبة الوعي الحقوقي، فقد تنهدت و قالت: (إننا نُعامل كالمستخدمات عند أهل البذخ و الترف، أي الذين يتبختر نساؤهم في مقعد و يكتفون بالحديث و إطلاق الأوامر للخدم). ثم أضافت كلاما أهم: (إن الصبية الأخرى "فلانة" تُعامل معاملة أقسى و بلغة جارحة. و المصيبة أنها تنتهك حرمة الطفولة. إنها "طفلة" لها مشاعر و أحاسيس).
إن إيرادي لهذه القصة يستهدف تسليط الضوء على ما يكتنف قضية المرأة بشكل عام في أوطاننا من أسئلة.
إن الفكرة المركزية المستخلصة من القصة هي لجوء الطفلة الكبرى إلى استدعاء مرجعية حقوقية حديثة – تلقتها في صفوف الدراسة – (حقوق الطفل خاصة و حقوق الإنسان عامة) للتعبير عن استنكارها للنظرة الدونية للطفلة الأنثى. إنها ترى امرأة مسلمة مسنة هي التي تستبطن هذه الرؤية الدونية و بالتالي لم تجد بدا من استدعاء مرجعية أخرى. فالتكريم الإلهي للإنسان (كيفما كان جنسه) في خطاب القرآن الكريم لم تر له انعكاسا في تعامل المرأة المذكورة. و منه لم تستحضر المرجعية القرآنية في الدفاع عن كرامة الطفلة على الرغم من كونها تتشرب معان لا بأس بمستواها من هذه المرجعية.
قد نتفهم المرأة المسنة؛ فهي تقوم باستفراغ تجليات ذات الحرمان الذي عانت منه كأنثى. فلا شك أنها اكتنزت صورة نمطية سلبية عن وظيفة الأنثى على مقاس تلقته في تربيتها منذ الصغر. إنها وجدت قدرها المحتوم يقول (الخدمة المنزلية و الاستعداد لبيت الزوجية). وجدت نفسها دائما تحت وصاية الآخر و في خدمته. لم تفكر يوما أنها – ربما كان ذلك في شيخوختها -  إنسان له كيان مستقل و وظائف اجتماعية. أنى لها ذلك و هي لا تعرف الحرف و قد حُرمت من الكُتاب و المدرسة؟
أما الطفلة الصغرى، التي تعرضت للقدر الأكبر من الإهانة لا لشيء إلا لكونها خُلقت "أنثى"، فنظرا لضعف وعيها الحقوقي فقد لجأت لإثارة قلق وجودي في ذهن المرأة المسنة عندما صاحت (إنه ربي هو الذي خلقني). و من الصعب الذهاب إلى القول بكونها استندت إلى المرجعية القرآنية في التكريم الإلهي؛ فمستواها محدود و هذا الجانب ضامر في ذهنيتها. و لعل مرد لجوئها إلى استفزاز وجودي للمرأة المسنة هو نداء الفطرة الساطع (إذا كنت كيانا "دون": لا يصلح لأدوار الإنسان؛ فلماذا خلقني الباري إذن؟ ).

الخلاصة؛ إذا أردنا تسوية جادة لقضية الحيف الاجتماعي -غير المنكور- الذي تعاني منه المرأة (الأنثى) في وطننا. فلا مناص لنا من تربية الناشئة و الأجيال الصاعدة على إبراز التكريم الإلهي للإنسان (من حيث هو إنسان) و على التحرر من كل أثقال التقاليد الراكدة التي ليس لها بالدين صلة. و هذا هو المدخل الآمن لتلافي نزوع الفتاة المسلمة، بعد تنامي وعيها الحقوقي في سن الرشد، إلى الصدام  مع الدين كلية و قطعياته الواضحة. فمنطق العصر الحديث و سنن التاريخ، لا ترحم و لا تنتظر أحدا !


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



يتجه منطق الحضارة الحديثة إلى الإقبال على إنتاج ( و من ثم استهلاك) مختلف الإنتاجات الفنية، و على الأخص، إنتاج الأفلام و الأغاني. لأن هذه الفنون تُمكن، بشكل مدهش، من أسر المتلقي بالمعاني و القيم و الأحلام و الرسائل الثاوية فيها. و بالتالي، فأي دعوى ل"رفض" الفيلم و الأغنية هكذا أصالة، لن يكون لها مستقبل سوى الهامشية و قارعة التاريخ.
و لا شك أن الآخر، المختلف عنا و الذي يقود زمام الأمور في عالمنا، يخصص ميزانيات ضخمة لهذه الأعمال الفنية و يؤهل متخصصين خبراء في دواليبها منطلقا من رؤية معرفية واضحة للإنسان الذي يتغيا نحت طرازه بواسطتها. بالمقابل، تتسم الأعمال الفنية في بلداننا، في أغلبها، بوصف جامع هو "غياب البوصلة"؛ أي أنها تفتقد لحلم و رؤية معرفية ناظمة على أساسها توجه العمل الفني. و ربما كانت فلسطين، مرة أخرى، هي التي شذت عن هذه القاعدة. لأن أبناء فلسطين الأبرار يجمعهم حلم واحد و تلحمهم قضية واحدة و من ثم، فهم على الأقل، يتوفرون على بوصلة أولية تضبط سير الأعمال الفنية.
لهذا كله؛ ليس غريبا أن نرى قناة الأقصى الفلسطينية تنتج أفلاما جد متميزة، في ظل ظروف صعبة من أرض غزة العزة.  في شهر رمضان الأبرك، حين يحلو عادة للمخرجين السينمائيين قصف المشاهد المسلم بمشاهد تنضح بالجراءة و الإسفاف. اختارت "الأقصى" عنوان المقاومة و أنتجت مسلسلين متتاليين: الأول هو مسلسل (الروح) في رمضان 1435 هجرية (سنة 2014). الثاني هو مسلسل (الفدائي) في رمضان 1436 هجرية (سنة 2015). أترك تقييمها الفني للمشاهد (فبإمكانه متابعتها على قناة اليوتيوب)، و أكتفي بملاحظات على مستوى المضمون و الرسائل.
نجحت "الأقصى"عن طريق عنوان المقاومة أن تقوم بعملية تربية صامتة للمشاهد. فالرسالة الأولى التي قامت بإيصالها هي أن العدو الصهيوني محكوم عليه بالإعدام، لا محالة، مادامت النفوس متحررة من آثار محاولات الاحتلال النفسي الصهيوني و بشكل أعم مما تحدث عنه المرحوم عبد الوهاب المسيري (الامبريالية النفسية). فمسلسل "الفدائي" لفت الانتباه بالخصوص إلى معان عميقة من قبيل التراحم و التكافل الاجتماعي و التآزر بين أبناء حارة الفدائي و هي بدون شك غصة في حلق الاحتلال (الصهيوني) النفسي الذي يسعى لإيجاد الشقاق و افتعال الصراع و إشاعة قيم التعاقد و الاستهلاك. كذلك المسلسل تناول مسألة محورية (الصلاة) في حياة المسلم في عدة مواضع. أما بخصوص القضية التي تثير النقاش دوما و هي مسألة "الزي"؛ فأكيد أن المسلسل، بشكل صامت و بدون صخب، أثبت زيف الدعوى التي يشيعها أهل الأفلام السينمائية في بلداننا. دعوى لا تمل من تكرار أن عرض النساء بزي محترم مدعاة لنفور العديد من المشاهدين من متابعة الفيلم و بالتالي إيذان ببوار تجارة أصحابه. هنا، مسلسل "الفدائي" كسر هذه الأسطورة و عرض النساء اللائي مثلن أدوار الصهيونيات بتفرقة بين زيهن و أزياء المسلمات لكن بدون جراءة لا معنى لها. إن الفكرة واضحة: الفيلم الذي لا يتجاوز أفق منتجيه جدار الربح و التجارة، أكيد أن "الإثارة" هي المطية المريحة نحو الهدف، أما  الفيلم  الذي لا يهجسه الربح قبل هدف إيصال رسالة أو بناء وعي و تربية وجدان – و هو النموذج الذي نفتقده في بلداننا- ، فمن المؤكد أن "الإثارة" المجانية و المتاجرة بالأجساد لا معنى لها آنئذ و بالتالي فالفيلم  سيتجنبها.
 ذهبت رياح المسلسل (الفدائي) بعيدا حينما أثار قضية جادة و هي التعاون بين المسلمين الفلسطينيين الوطنيين و المسيحيين الفلسطينيين الوطنيين على قاعدة المشروع الوطني التحرري المشترك الذي يتصدره الدفاع عن المقدسات كيفما كانت (هذا يتضح في قصة الدكتور المسيحي "يوحنا" الذي كان نعم السند و النصير للمقاومين و بسبب ذلك تعرض للأسر).
إن أمثال هذه الأفلام و المسلسلات التي لا تحيد عن القضية قيد أنملة هي الكفيلة ببناء الحد الأدنى من الوعي التحرري المقاوم في صفوف ناشئتنا. بل حتى في صفوف كبارنا و مثقفينا. فهذا الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد، أحد أبرز المهتمين بالقضية الفلسطينية في المغرب و الممثل الوحيد عنه في أسطول الحرية الأخير، يعترف صراحة في حوار مع قناة الإصلاح (في الشبكة العنكبوتية) – على هامش المؤتمر الثاني عشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي الذي أقيم في مراكش هذه السنة-: إنه رغم كونه يعتبر نفسه خبيرا بخبايا القضية و أصولها ومستجداتها، فإن مشاهدته لفيلم وثائقي يضفي معان جديدة و عميقة على درايته المعرفية.

إن الفيلم المقاوم، لكونه ينطلق من حلم واضح يتعلق باستعادة الأقصى و مشروع التحرير، تميز في الأداء و في إيصال الفكرة و الرسالة.  فلا مندوحة لنا، إذن، في أوطاننا من تبني حلم مشترك على أساسه نوجه أعمالنا الفنية لتفوز بالريادة. و جلي أن حلمنا المشترك في هذه المرحلة التاريخية هو التحرر من أوهاق الفساد و الاستبداد و استكمال بناء الصرح الديمقراطي: فلتعمل، إذن، أعمالنا الفنية على ترجمة هذا الحلم !
...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



إذا طًرح السؤال عن محور سمات العصر في كلمة، جاز لنا أن نصدح إنه: عصر التساؤل !
إنه عصر التساؤل عن كل شيء. كل الموروثات تخضع للنقد و الاختبار. لا تمضي فكرة دونما حساب. غدا التساؤل رمزا للتنوير و الانخراط في الزمن الحديث.
ما الدافع إلى التساؤل؟
 في الأمور التي يُعتقد  بأن النقاش قد حُسم فيها؛ كثيرا ما يكون ما يحمله الواقع الموضوعي في أحشائه من تحولات - يُهدم المقولات المسلم بها في السابق دون تمحيص لمصداقيتها على الأرض - هو النقطة التي ينطلق منها التساؤل.
من يرفض التساؤل؟
صاحب السلطة هو المرشح الأول و الأبرز للوقوف دون سيادة ثقافة التساؤل. السلطة كيفما كانت رمزية معنوية أو مادية: الحكام، المجتمع، الأُميون، الأساتذة،  الآباء، حماة التقاليد، نُظار الأفكار و سدنة الأحلام الأيديولوجية..
فصاحب السلطة يطمح لاستدامة تطويعه للإنسان. و التساؤل يقف حجر عثرة أمامه بل يُعجل بانهيار طموحاته. إذ أن المتسائل عصي على الإملاءات، لا يتبنى ما يراد له من أفكار قبل أن يعالج صدقيتها و مصداقيتها. يكفي أنه لا يقول دائما "نعم" هذا صحيح..
لماذا الإنسان يتساءل؟
العجب كل العجب من الذي لا تأخذه الدهشة و لا ينخرط في غمار السؤال في هذه الحياة. العجب من الذي يعتبر ما يجري في دنيا الناس عاديا  لا يستحق التدبر و التملي و الالتفات. العجب ممن لم يستطع أن ينفك من الألفة الغافلة و الأبعاد المادية و يرتمي في أحضان تساؤلات الإنسان.
التساؤل عنوان العبور إلى الحي القيوم. (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه). الانشقاق:6.
التساؤل حرب على كل نزعة تتغيا اختزال إنسان في دوغما. حرب على كل نزعة وثوقية ترتاح لإنسان  يتشبث بأذيال اطمئنان كاذب زائف.
كيف السبيل لتوسل التساؤل للقيام بالتنوير؟
التساؤل، كي لا يحيد عن دوره التنويري، لا بد لصاحبه من تحري الحق بغض النظر عن الانتماءات. لا بد لصاحبه من الالتصاق بأسئلة الواقع الموضوعي و تفادي القفز على المعطيات و الحقائق. لا بد لصاحبه من توخي التقاط السنن و الكليات وراء ركام التفاصيل و الجزئيات. لا بد لصاحبه من طرح السؤال المجدي في ذاك الواقع الموضوعي أولا.  
ما المخاوف من التساؤل؟ 
التساؤل فضيلة و لا شك. غير أن تساؤل زمن ما بعد الحداثة عدمي و عبثي و استغلال فج و إفشال متعمد لقضية ناجحة: هي الحاجة إلى التساؤل.
المحاذير المحدودة التي بإمكاننا إثارتها هنا هي ذات صلة بالمخاوف من المآلات العدمية لعملية التساؤل. إذ يكتفي الإنسان بتشقيق الكلام و لا يُسهم في الحياة بأدنى عمل من الأعمال. و لو تلك الأعمال الفاضلة التي يُعنى بها قبل انخراطه في التساؤل.

التساؤل يقود صاحبه في المراحل الأولى لفقدان التوازنات النفسية المهترئة التي يرتاح بها في السابق خصوصا حين يكتشف أن مضامين الأفكار و الشعارات  التي آمن بها باتت محدودة. و تحت ضغط التحولات و الانقلابات و التساؤلات يُسلم الإنسان أخيرا أنه مخلوق ضعيف قدره  أن يؤمن بنسبية الأفكار و الرؤى و المنظورات و المشاريع: و ويل له من مغامرة التشبث الأعمى المغرور بحلم إيديولوجي؛ اللهم الحلم بالفردوس الأعلى و نيل رضوان المولى جل و علا و الحلم بالتمكين للقيم الإنسانية السامقة في الدنيا (العدل، الكرامة، الحرية، العدالة الاجتماعية..).


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





في الوقت الذي نُحدث فيه أنفسنا باطمئنان عن كوننا نعيش في المغرب. في بلد يسعى لأن يقدم نموذجا في تدبير الخلاف السياسي بين أبناء الوطن بالأدوات الديمقراطية. بلد يقول بأن الوطن للجميع. بلد  أكرمه المولى سبحانه و تعالى بالنجاة من طاحونة الطائفية و الاصطفافات غير الوطنية المخدومة. بلد لا يضيق بالتنوعات. في هذا الوقت، الذي كدنا ننسى فيه حكاية التسميات و التقسيمات المُموهة و المغالطة (هذا إسلامي، هذا علماني..). يطل علينا السيد سعيد لكحل - أحد الصحفيين الذين لا يخفون توجههم العلماني منذ أكثر من عقد من الزمان – بحديث أقل ما يمكن أن يُقال عنه أنه كلام يجر إلى تمزيق النسيج الوطني و استدعاء نموذج (بنعلي) التونسي و استثارة الصراعات الوهمية و المعارك الجانبية التي لن تفيد الوطن لا بباع و لا ذراع في هذه المرحلة بالذات.
في ندوة، من المفترض أن تزين بالأحاديث الراقية و النقاشات الجادة التي تترفع عن خطاب العوام و ترتقي بالمستوى الفكري للرأي العام، بالمكتبة الوطنية بالرباط. هناك، تلفظ سعيد بما يلي: "شي أسر كاتشوف ولدها بدا كايصلي و كاتقول مزيان راه هداه الله.. و هو في الحقيقة عاد نحارف".
أ لهذا الحد يا سعيد؟ أ لهذا الحد تجلو شهوة الاستئصال؟ أ لهذا الحد ينطق المخبوء فيك؟
في هذا المقام و هذا المقال، لا تهمنا الجهة المنظمة للندوة. لأنها ببساطة لا تستحق حتى الذكر. لأنها جهة تلطخت بمخازي المخزنة و مساعيها الدنيئة للإجهاز على مسار الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن. لأنها ضد الديمقراطية و احترام التعددية و حق الاختلاف. لأنها راعية السلطوية في هذا البلد. لأنها تتغيا تنمية بلا شعب.
لكن، أنت يا سعيد ! عهدناك كاتبا جريئا يصول و يجول و يكشف عورات الحركات الإسلامية و عثراتها في المسألة الديمقراطية و قضية الحريات. ما بالك انقلبت على اختيارك (العلماني) الذي نحترمه؟ ما بالك استحلت شرطيا يوزع تهم الانحراف على "ولد تقَصَد طلب رحمة الرحمان و توجه إلى الصلاة".
لك يا سعيد أن لا تصلي. فهذا اختيارك و تلك إرادتك. لكن أن تستحيل الصلاة انحرافا. فهذا لعمري، كلام لا ينحو نحو مجافاة وجدان قرابة ملياري مسلم فحسب بل يصادم البشرية أي كل المؤمنين من شتى الديانات الذين يمارسون طقوسا فيها نسائم الروح تنعت  الصلاة.
ربما الفضاء كان يسمح بذات الكلام. ففيه سدنة الانقلاب على الاختيار الديمقراطي للشعب المصري و فيه خدام المشروع السلطوي و إعاقة الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن. و ربما أحاديثهم حطمت كل المقاييس في بلوغها قمم النشاز. فهل أردت الإسهام بكلام يقطر استئصالا أكثر من كلام سادة الندوة؟
من فضلك يا سعيد، إذا أردت حلما مبتورا فلك ذلك. لكن لا تتهم من رمق حلما مزدوجا. لا تقم بدور شرطي تونس (في عهد بنعلي) فتعد المصلي في عداد المنحرفين؟
فالمصلي الساعي للاتصال بالعلي الأعلى، إنما يسعى نحو حلمه المزدوج. أي حلم عمودي، يروم الفردوس الأعلى و النجاة في الدار الأخرى. و حلم أفقي، يستهدف الفوز بحسنة الدنيا: توطيد أركان الديمقراطية بمشمولاتها (الحرية، الكرامة، العدالة الاجتماعية) إلى جانب التنمية الشاملة الواقفة على أساس البحوث العلمية و الحفريات المعرفية.
سعيد ! إذا اكتفيت بحلم أفقي وحيد فذاك اختيارك. إذن، فلنتعاون جميعا –كمواطنين- عليه. و لنكن لسدنة المشروع السلطوي و أصحاب المشاريع الانقلابية على الاختيارات الديمقراطية بالمرصاد. و لنسعى بشكل جاد لغرس بذور ثقافة قبول الآخر و الإيمان بنسبية الرؤى و الأفكار في المناخ العام بالأحاديث الفياضة بالعمق و الملتفة للأسئلة الحقيقية المؤرقة. و لنقل "لا" للسطحية و التفاهة و المعارك الجانبية. و لنلح على أن الوطن للجميع. و "لا" لاستئصال و استعداء أي مصل أو مدبر عن الصلاة: فكلهم مواطنون.
على أن العاقل يا سعيد، يتطلع دوما للخيرين فيعمل للدنيا دون إغفال الدار الآخرة. و لا يوجد عاقل تُعرض أمامه جائزتين و يكتفي بواحدة.
قبل فض المقال، لا أتمنى  يا سعيد أن تكون بهكذا حديث ذلك الإنسان الأفقي الذي قال عنه الفيلسوف المغربي  طه عبد الرحمن: لا عجب أن يأخذ النسيان يتداعى عند هذا الإنسان الأفقي بعضه إلى بعض، حتى يبلغ أقصى مداه، فلا يعود يذكر أنه مخلوق، فضلا عن أنه لم يُخلق عبثا، و لا حتى أنه إلى زوال محتوم إلى حين أن يأتي أجله على حين غرة؛ و يا ليته نسي و وقف عند حد نسيانه !

بل إنه يمكر ليل نهار من أجل أن يرى غيره ينسى مثلما نسي، متوسلا بكل أدوات النسيان، ترغيبا و ترهيبا، حتى إنه أضحى يعلن بغير حق و لا حياء، أنه لا يطيق أن يذكر اسم الله و لا إجلاله و لا تكبيره و لو في غير مجلسه؛ و إذا أحد سواه لم يبق في قلبه التفات إلى غير الله في سراء أو ضراء، فصدح بالتهليل و التكبير، متفانيا في حب ربه، ضج هذا الإنسان الناسي بالشكوى من تهديدات التطرف الديني، مناديا على الإنسانية بالويل و الثبور و عظائم الأمور ما لم تحزم أمرها و تعلنها حربا لا هوادة فيها على هذا التطرف، كأن نسيانه حق لا باطل معه و خير لا ضرر فيه، و ذكر غيره باطل لا حق فيه و شر لا نفع معه. (طه عبد الرحمن. روح الدين، ص:15 . الطبعة الثانية:2012. المركز الثقافي العربي)


...تابع القراءة