| 0 التعليقات ]



عاينت مجريات أحداث  طريفة – و أليمة في الوقت ذاته - جرت بين ثلاث قريباتي؛ قصة تجسد بشكل لافت جانبا من المد و الجزر الذي مازالت تعرفه قضية المرأة في وطننا. القريبة الأولى امرأة مسنة جاوزت 77 سنة. بينما الثانية و الثالثة كانتا طفلتين إحداهما تبلغ من العمر 12  سنة  و الأخرى 11 سنة.
كانت بداية القصة مع التعامل غير الحسن الذي تقابل به السيدة المسنة الطفلة ذات 11  ربيعا. المسنة تصرخ في وجه الصبية، تطلب منها أن تخدمها و تنظف و تهيئ الفضاء ( و الطعام..) الذي يشغلنه. تتوسل المسنة لأمر الطفلة أو نهيها لغة جارحة، قاسية و غليظة ملؤها أنك (أي الطفلة) "أنثى" : ما الهدف من مجيئك للدنيا غير القيام بهكذا أشغال. واصلت المسنة حربها الكلامية على الصبية و إطلاق أوامرها التي لا نهاية لها عليها، غير أنها أضافت إلى ضحايا أوامرها الطفلة الأخرى ذات 12 ربيعا.
ذات وجبة غذاء، و أنا ألحظ من بعيد ما يقع، حرصت – لهذا السبب- بعد تناولي للوجبة على جمع فتات الطعام و نفايات المأكل. تلقيت شكرا من الصبية الكبرى. إلى جانب شكوى بليغة لخصت مجريات المعاناة النفسية و (المادية) للطفلتين. للإشارة، فالطفلة الكبرى، كانت صاحبة وعي حقوقي أرقى من وعي الصغرى.
الصبية الصغرى، في مرافعتها القصيرة أمامي، أشارت باعتزاز لافت إلى جواب بسيط المبنى و عميق المعنى في ذات الوقت واجهت به اللغة الجارحة و التهمة الدائمة (كونها "أنثى")  الصادرة من طرف المسنة: (إنه ربي هو الذي خلقني).
أما الصبية الكبرى، صاحبة الوعي الحقوقي، فقد تنهدت و قالت: (إننا نُعامل كالمستخدمات عند أهل البذخ و الترف، أي الذين يتبختر نساؤهم في مقعد و يكتفون بالحديث و إطلاق الأوامر للخدم). ثم أضافت كلاما أهم: (إن الصبية الأخرى "فلانة" تُعامل معاملة أقسى و بلغة جارحة. و المصيبة أنها تنتهك حرمة الطفولة. إنها "طفلة" لها مشاعر و أحاسيس).
إن إيرادي لهذه القصة يستهدف تسليط الضوء على ما يكتنف قضية المرأة بشكل عام في أوطاننا من أسئلة.
إن الفكرة المركزية المستخلصة من القصة هي لجوء الطفلة الكبرى إلى استدعاء مرجعية حقوقية حديثة – تلقتها في صفوف الدراسة – (حقوق الطفل خاصة و حقوق الإنسان عامة) للتعبير عن استنكارها للنظرة الدونية للطفلة الأنثى. إنها ترى امرأة مسلمة مسنة هي التي تستبطن هذه الرؤية الدونية و بالتالي لم تجد بدا من استدعاء مرجعية أخرى. فالتكريم الإلهي للإنسان (كيفما كان جنسه) في خطاب القرآن الكريم لم تر له انعكاسا في تعامل المرأة المذكورة. و منه لم تستحضر المرجعية القرآنية في الدفاع عن كرامة الطفلة على الرغم من كونها تتشرب معان لا بأس بمستواها من هذه المرجعية.
قد نتفهم المرأة المسنة؛ فهي تقوم باستفراغ تجليات ذات الحرمان الذي عانت منه كأنثى. فلا شك أنها اكتنزت صورة نمطية سلبية عن وظيفة الأنثى على مقاس تلقته في تربيتها منذ الصغر. إنها وجدت قدرها المحتوم يقول (الخدمة المنزلية و الاستعداد لبيت الزوجية). وجدت نفسها دائما تحت وصاية الآخر و في خدمته. لم تفكر يوما أنها – ربما كان ذلك في شيخوختها -  إنسان له كيان مستقل و وظائف اجتماعية. أنى لها ذلك و هي لا تعرف الحرف و قد حُرمت من الكُتاب و المدرسة؟
أما الطفلة الصغرى، التي تعرضت للقدر الأكبر من الإهانة لا لشيء إلا لكونها خُلقت "أنثى"، فنظرا لضعف وعيها الحقوقي فقد لجأت لإثارة قلق وجودي في ذهن المرأة المسنة عندما صاحت (إنه ربي هو الذي خلقني). و من الصعب الذهاب إلى القول بكونها استندت إلى المرجعية القرآنية في التكريم الإلهي؛ فمستواها محدود و هذا الجانب ضامر في ذهنيتها. و لعل مرد لجوئها إلى استفزاز وجودي للمرأة المسنة هو نداء الفطرة الساطع (إذا كنت كيانا "دون": لا يصلح لأدوار الإنسان؛ فلماذا خلقني الباري إذن؟ ).

الخلاصة؛ إذا أردنا تسوية جادة لقضية الحيف الاجتماعي -غير المنكور- الذي تعاني منه المرأة (الأنثى) في وطننا. فلا مناص لنا من تربية الناشئة و الأجيال الصاعدة على إبراز التكريم الإلهي للإنسان (من حيث هو إنسان) و على التحرر من كل أثقال التقاليد الراكدة التي ليس لها بالدين صلة. و هذا هو المدخل الآمن لتلافي نزوع الفتاة المسلمة، بعد تنامي وعيها الحقوقي في سن الرشد، إلى الصدام  مع الدين كلية و قطعياته الواضحة. فمنطق العصر الحديث و سنن التاريخ، لا ترحم و لا تنتظر أحدا !


0 التعليقات

إرسال تعليق