| 0 التعليقات ]



يتجه منطق الحضارة الحديثة إلى الإقبال على إنتاج ( و من ثم استهلاك) مختلف الإنتاجات الفنية، و على الأخص، إنتاج الأفلام و الأغاني. لأن هذه الفنون تُمكن، بشكل مدهش، من أسر المتلقي بالمعاني و القيم و الأحلام و الرسائل الثاوية فيها. و بالتالي، فأي دعوى ل"رفض" الفيلم و الأغنية هكذا أصالة، لن يكون لها مستقبل سوى الهامشية و قارعة التاريخ.
و لا شك أن الآخر، المختلف عنا و الذي يقود زمام الأمور في عالمنا، يخصص ميزانيات ضخمة لهذه الأعمال الفنية و يؤهل متخصصين خبراء في دواليبها منطلقا من رؤية معرفية واضحة للإنسان الذي يتغيا نحت طرازه بواسطتها. بالمقابل، تتسم الأعمال الفنية في بلداننا، في أغلبها، بوصف جامع هو "غياب البوصلة"؛ أي أنها تفتقد لحلم و رؤية معرفية ناظمة على أساسها توجه العمل الفني. و ربما كانت فلسطين، مرة أخرى، هي التي شذت عن هذه القاعدة. لأن أبناء فلسطين الأبرار يجمعهم حلم واحد و تلحمهم قضية واحدة و من ثم، فهم على الأقل، يتوفرون على بوصلة أولية تضبط سير الأعمال الفنية.
لهذا كله؛ ليس غريبا أن نرى قناة الأقصى الفلسطينية تنتج أفلاما جد متميزة، في ظل ظروف صعبة من أرض غزة العزة.  في شهر رمضان الأبرك، حين يحلو عادة للمخرجين السينمائيين قصف المشاهد المسلم بمشاهد تنضح بالجراءة و الإسفاف. اختارت "الأقصى" عنوان المقاومة و أنتجت مسلسلين متتاليين: الأول هو مسلسل (الروح) في رمضان 1435 هجرية (سنة 2014). الثاني هو مسلسل (الفدائي) في رمضان 1436 هجرية (سنة 2015). أترك تقييمها الفني للمشاهد (فبإمكانه متابعتها على قناة اليوتيوب)، و أكتفي بملاحظات على مستوى المضمون و الرسائل.
نجحت "الأقصى"عن طريق عنوان المقاومة أن تقوم بعملية تربية صامتة للمشاهد. فالرسالة الأولى التي قامت بإيصالها هي أن العدو الصهيوني محكوم عليه بالإعدام، لا محالة، مادامت النفوس متحررة من آثار محاولات الاحتلال النفسي الصهيوني و بشكل أعم مما تحدث عنه المرحوم عبد الوهاب المسيري (الامبريالية النفسية). فمسلسل "الفدائي" لفت الانتباه بالخصوص إلى معان عميقة من قبيل التراحم و التكافل الاجتماعي و التآزر بين أبناء حارة الفدائي و هي بدون شك غصة في حلق الاحتلال (الصهيوني) النفسي الذي يسعى لإيجاد الشقاق و افتعال الصراع و إشاعة قيم التعاقد و الاستهلاك. كذلك المسلسل تناول مسألة محورية (الصلاة) في حياة المسلم في عدة مواضع. أما بخصوص القضية التي تثير النقاش دوما و هي مسألة "الزي"؛ فأكيد أن المسلسل، بشكل صامت و بدون صخب، أثبت زيف الدعوى التي يشيعها أهل الأفلام السينمائية في بلداننا. دعوى لا تمل من تكرار أن عرض النساء بزي محترم مدعاة لنفور العديد من المشاهدين من متابعة الفيلم و بالتالي إيذان ببوار تجارة أصحابه. هنا، مسلسل "الفدائي" كسر هذه الأسطورة و عرض النساء اللائي مثلن أدوار الصهيونيات بتفرقة بين زيهن و أزياء المسلمات لكن بدون جراءة لا معنى لها. إن الفكرة واضحة: الفيلم الذي لا يتجاوز أفق منتجيه جدار الربح و التجارة، أكيد أن "الإثارة" هي المطية المريحة نحو الهدف، أما  الفيلم  الذي لا يهجسه الربح قبل هدف إيصال رسالة أو بناء وعي و تربية وجدان – و هو النموذج الذي نفتقده في بلداننا- ، فمن المؤكد أن "الإثارة" المجانية و المتاجرة بالأجساد لا معنى لها آنئذ و بالتالي فالفيلم  سيتجنبها.
 ذهبت رياح المسلسل (الفدائي) بعيدا حينما أثار قضية جادة و هي التعاون بين المسلمين الفلسطينيين الوطنيين و المسيحيين الفلسطينيين الوطنيين على قاعدة المشروع الوطني التحرري المشترك الذي يتصدره الدفاع عن المقدسات كيفما كانت (هذا يتضح في قصة الدكتور المسيحي "يوحنا" الذي كان نعم السند و النصير للمقاومين و بسبب ذلك تعرض للأسر).
إن أمثال هذه الأفلام و المسلسلات التي لا تحيد عن القضية قيد أنملة هي الكفيلة ببناء الحد الأدنى من الوعي التحرري المقاوم في صفوف ناشئتنا. بل حتى في صفوف كبارنا و مثقفينا. فهذا الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد، أحد أبرز المهتمين بالقضية الفلسطينية في المغرب و الممثل الوحيد عنه في أسطول الحرية الأخير، يعترف صراحة في حوار مع قناة الإصلاح (في الشبكة العنكبوتية) – على هامش المؤتمر الثاني عشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي الذي أقيم في مراكش هذه السنة-: إنه رغم كونه يعتبر نفسه خبيرا بخبايا القضية و أصولها ومستجداتها، فإن مشاهدته لفيلم وثائقي يضفي معان جديدة و عميقة على درايته المعرفية.

إن الفيلم المقاوم، لكونه ينطلق من حلم واضح يتعلق باستعادة الأقصى و مشروع التحرير، تميز في الأداء و في إيصال الفكرة و الرسالة.  فلا مندوحة لنا، إذن، في أوطاننا من تبني حلم مشترك على أساسه نوجه أعمالنا الفنية لتفوز بالريادة. و جلي أن حلمنا المشترك في هذه المرحلة التاريخية هو التحرر من أوهاق الفساد و الاستبداد و استكمال بناء الصرح الديمقراطي: فلتعمل، إذن، أعمالنا الفنية على ترجمة هذا الحلم !

0 التعليقات

إرسال تعليق