| 0 التعليقات ]



كتاب (بين الرشاد والتيه) عبارة عن مجموعة من المقالات كتبها الأستاذ مالك بن نبي بالفرنسية بعد الاستقلال في الستينيات، وقد جمعها في صيف 1972 وترجمها إلى العربية ثم بوبها واختتمها بكلمة عن الصراع الفكري.
يدعو الكاتب في هذا الكتاب إلى تأسيس علم اجتماع مستقل يختص بمشكلات العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي. ويربط بين معطيات السنن الإلهية وتطوير المجتمعات وتغييرها.
يتوزع الكتاب على خمسة فصول: طريق الثورة؛ في قضايا الاستقلال؛ في السياسة؛ في قضية فلسطين؛ حول الاقتصاد.
ينطلق الكاتب في الفصل الأول ( طريق الثورة) من اعتبار التجربة الإسلامية الأولى ثورة كاملة المواصفات. ويستحضر نموذج أبي بكر في التعامل مع المرتدين لبيان حرص رواد الثورة الإسلامية الأولى على صيانة الروح الثورية. ويستخلص من ذلك أنه لا بد من اليقظة لصد خمائر "ما ضد الثورة" (يشار إلى أن الكاتب يتحدث في سياق خاص: هو ثورة الجزائر ضد استعمار فرنسا التي بدأت عام 1954 والتي تكللت بالنجاح والاستقلال عام 1962).
يندد الكاتب بما سماه "المتاجرة بالقيم الثورية" ويستشهد بمقولة لأحد أبناء المدرسة الماركسية مفادها: يجب دائما أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى لا تلتهمنا. ويُذَكر بدرس التاريخ الذي لا يكترث للمبادئ المجردة بقدر ما يهتم لإصدار حكمه بنتائج المبادئ في الواقع الملموس.
في الفصل الثاني (في قضايا الاستقلال) يؤكد الكاتب أن الجزائر تحتاج إلى سياسيين مُلمين بعلم الاجتماع "فالعلم الذي لا يترجمه عمل يظل ترفا لا مكان له في وطن مازال فقيرا في الوسائل والأطر".
يعتبر الكاتب، ويرجع المقال إلى عام 1962، أن واجب الوقت هو "الفعالية" في العمل للانتقال من مقتضيات التحرير إلى متطلبات البناء. ويستشهد بالحديث النبوي:"إنما هي أعمالكم تُرد إليكم كما تكونوا يُوَل عليكم"؛ الذي يخترق أبعادا سياسية واجتماعية عميقة، يختصرها الكاتب على الصعيد التربوي في مقدمة واضحة: "إذا أردت أن تصلح أمر الدولة أصلح نفسك".
وإذا كان النقد الذاتي ضرورة ملحة في مرحلة ما بعد الثورة؛ فإن علم الاجتماع الخاص بمرحلة الاستقلال هو المعني، حسب الكاتب، بالكشف عن العراقيل والمعوقات التي ربما عرقلت الإنجاز والتنفيذ".
يرى الكاتب أن مجتمعا فقيرا، في الجزائر وغيره من بلدان العالم الثالث، لا يمكنه النهوض بالرأسمال المادي (الذهب)، بل لا بد له من استثمار الرأسمال غير المادي الذي يتمتع به ووضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان، التراب، الوقت.
يرجع الكاتب في الفصل الثالث (في السياسة) إلى موطن تكوين سياسة مؤثرة في واقع الوطن فيجدها كامنة في التعاون بين الدولة والفرد على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. ويسترجع بشكل نقدي الشعار الميت الذي خيَم طيلة عصور الانحطاط (ما بعد الموحدين): "عليك بخاصة نفسك". ويؤكد أنه لا يمكن مجابهة أهوال الزمن إلا بجهد تدعمه عقيدة لا يعتريها الشك أبدا.
في نفس السياق، يستعيد الكاتب الجانب المشرق في الإيديولوجيا باعتبارها ترياق الفتور؛ بالإضافة إلى تحديدها لعمل الدولة في اتجاه معين، ومنحها للسياسة التوتر الضروري للطاقات الاجتماعية لتبلغ الهدف المعين.. الذي لا بد وان يكون متطابقا مع التطور الطبيعي للأمة، ومع الظروف العامة التي تحيط بهذا التطور، وأن يكون فوق ذلك متطابقا مع مصير الإنسانية كلها.
في الفصل الرابع (قضية فلسطين) يبين الكاتب أن الأطماع الشخصية هي التي كانت السبب في ضياع فلسطين، علاوة على الجوانب النفسية التي كانت ضالعة في النكبة. ويعتبر أن هدف الكيان الصهيوني ليس توسيع الحدود في 67 بقدر ما كان تحطيم روح كان يخشاها، بالإضافة إلى صرف أنظار العرب عن بناء أسس متينة للنهوض والتحرير بإلهائهم بمواجهة مشاريع الهدم المستحدثة في كل مرة.
وفي موضع آخر من نفس الفصل، يستشهد الكاتب بكتاب "مفاتيح الحرب" حيث يوضح صاحبه "بيير روسي" أن منذ الأزل لم تستطع التكنولوجية مقاومة الذرة الإنسانية.  
يستدعي الكاتب في الفصل الخامس (حول الاقتصاد) أطروحة الاستعمار الجديد ـ وريث القديم ـ وهي إيهام الجماهير بأن المهم هو الثرثرة حول الحقوق فقط، ويستدعي في المقابل التوجيه النبوي (إنما هي أعمالكم تُرد إليكم؛ كما تكونوا يولى عليكم) الذي يغرس حس المسؤولية والارتباط بالواجبات.
ويعود الكاتب إلى مؤتمر "باندونغ" الاقتصادي الذي انعقد في الجزائر وجمع 77 دولة في العالم الثالث. ويتفق مع ما خرج به المؤتمر من أن هناك أوضاع نفسية راهنة في العالم الثالث؛ هي قيد التعطيل ولا يستفاد منها في خطة التنمية. ويتكئ الكاتب على التحليل الذي يرى أن الحياة الاقتصادية لا ترتبط فقط بأجهزة ذات طابع فني ومالي وتنظيمي، بل هي قبل ذلك مرتبطة بأجهزة نفسية موجودة لدى الفرد الذي يفكر في الخطط والذي ينفذها. وهذه المعطيات قرينة الثقافة.

ينتصر الكاتب مجددا للمنطق الذي يرى بأن "العمل" يمكن أن يعوض النقص الكائن على مستوى "رأس المال" في العالم الثالث؛ حيث يرى بأن تكوين الإنسان هو مفتاح التنمية. وفي المقابل يعتبر بان تبعية هذا الإنسان (خاصة على مستوى الأفكار) هي أم المشكلات الاقتصادية في العالم الثالث. ويذهب إلى كون التخلف الاقتصادي مبطن بتخلف ذهني، حيث بطالة العقول أسبق من بطالة السواعد.

0 التعليقات

إرسال تعليق