| 0 التعليقات ]







يعد التضخم inflation من أهم تجليات الأزمة الاقتصادية التي قد تعرفها أي دولة. وهو ظاهرة تعكس لجوء البنك المركزي في أي دولة إلى إصدار أوراق نقدية بدون تحصيل ما يقابلها من إنتاج، مما يؤدي ارتفاع العرض على الطلب، فيختل توازن السوق، فترتفع الأسعار، فتنكسر القدرة الشرائية للمواطنين، ثم تنفجر الاضطرابات الاجتماعية إلى أن ينفرط عقد الاستقرار السياسي والسلم الأهلي.

هو مرض اقتصادي فتاك ومقياس مفيد لمعرفة درجة العافية الاقتصادية في أي دولة من دول العالم. ولذلك نجد أن من أهم رهانات السياسات الاقتصادية والمالية في مختلف دول العالم تقليص معدل التضخم بالعمل على إحداث القيمة المضافة التي تعكس الإنتاج.

ويحتفظ مفهوم التضخم بمغزى أعمق ودلالات اجتماعية أقوى؛ إذ إن "إصدار سيولة نقدية بدون توفير غطاء إنتاجي لها" هو تعبير عن الزيف والزور والغش والانتحال والتظاهر. وهي كلها أمراض اجتماعية تستفحل - للأسف- في أوساط مجتمعنا، بل عليها ندندن في كل أحاديثنا.

فمعيشنا اليومي يثبت أن هناك موظفين لا يذهبون إلى مقر العمل في الوقت المحدد ولا يقومون بوظيفتهم كما ينبغي ولا يبذلون جهدا لتقديم الخدمات المطلوبة، ومع ذلك، يتلقفون راتبهم الشهري بدون أدنى حرج وبدون تأنيب الضمير. إنه "التضخم" في أوضح الصور، أن تأخذ ما لا تستحق.

وسياستنا المحلية والوطنية تنبئنا كل يوم أن العديد من المنتخبين، في كل المستويات، يديرون الظهر للمهام التي انتُدبوا لها ويسعون في مقابل ذلك وراء مشاريعهم الشخصية وصناعة "جاههم" ولا يجتهدون البتة للإتيان بحلول مفيدة لمشاكل المواطنين. إنه "التضخم" في أبهى الحلل، أن تُدعى "مسؤولا" وأنت لست في مستوى "المسؤولية".

ومدارسنا وجامعاتنا تشهد كل يوم غياب الأساتذة عن الفصل وشيوع التكاسل في الإعداد للحصص وفقدان الجدية في التعاطي مع الدروس وسيادة التقليد والتكرار والاجترار والاكتفاء بمخزون الذاكرة الذي علاه الغبار. إنه "التضخم" في أجلى التجليات، أن تحمل صفة "أستاذ"، بل "أستاذ جامعي"، وأنت غارق في الكسل والخمول.

وحياتنا اليومية تسجل أن العديد من الأشخاص يرتقون مهنيا وسياسيا واجتماعيا بدون أدنى استحقاق، فمنهم من يشتري الشهادات والدبلومات لإثبات مستوى مفقود ومنهم من يشتري الأطاريح والرسائل العلمية بدون حرج، وتجد فيهم من يذهب إلى الجماعة/البرلمان/الحكومة بواسطة شراء الأصوات، وتلفي فيهم من يقتعد مقاعد المسؤولية في التنظيمات (الأحزاب، النقابات، الجمعيات، مراكز الأبحاث) بالتسلق والتملق وأساليب "ميكيافيل". إنه التضخم، أن ترى نفسك في المرآة فلا تعرف قدرك بل تتوهم أنك كائن آخر أعلى شأنا وأرفع مقاما.

وامتحاناتنا الإشهادية والمستمرة والجامعية تُعَرفنا باستمرار بالطلاب والتلاميذ الذين لا يتورعون عن حمل حوامل الإجابة إلى قاعات الاختبار ولا يخجلون من الاستعانة بزملائهم أو هواتفهم لتسويد أوراق الامتحان. إنه "التضخم"، أن تحصل على "النقط" الجيدة و"الدرجات" العلا و"الشهادات" العلمية، وأنت لا تستحق أي تقدير.

ومظاهرنا المادية من ألبسة وسيارات وهواتف وحواسيب وآليات... إلخ، كلها تهتف بأن حامليها ليسوا أهلا لها! لأنهم لم يعملوا لا بالثقافة التي صنعتها، وهي ثقافة الإنتاج وقيم إتقان العمل واحترام الواجبات، ولا اجتهدوا من أجل إنتاج ما يوازيها من قيم مضافة في مجالات أخرى. إنه التضخم، أن تلبس لباسا ثمينا وتقود سيارة فارهة وتحمل هاتفا ذكيا، وأنت سجين ثقافة الاستهلاك وبعيد كل البعد عن قيم المعرفة والجدية والإنتاج.

إن التضخم ليس ظاهرة اقتصادية مدمرة فحسب، وإنما ظاهرة اجتماعية مميتة تخترق الأفراد والمجتمع (=التنظيمات) والدولة. إن معناه العميق هو أن يركن الفرد/التنظيم/الدولة لوعي زائف يوهمه بأنه في حالة من الصحة والعافية وهو في الحقيقة أسير علل كثيرة، فيلجأ لوسائل ظاهرها "الذكاء" و"البراعة في الحيل" وباطنها "الغباء" و"ضيق النظر". ولعل "الغش" عند الطلاب والتلاميذ و"التزوير" عند المهنيين و"الفساد" عند السياسيين و"الريع" عند المُضاربين و"المباهاة" عند عموم المستهلكين؛ أبرز عناوين ظاهرة "التضخم" في حياتنا الاجتماعية.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






العمل التطوعي هو عمل يقوم به الفرد أو مجموعة أفراد لصالح البقية بدون مقابل. هو عمل يتخذ عدة ألوان منها؛ اللون الاجتماعي حينما يعمل الفرد (بمعية المجموعة التي تشتغل معه على نفس الأهداف) على اقتطاع جزء من راتبه وجمع أقساط أخرى من رواتب المتبرعين وتنظيم عملية توزيع هذه الأموال سواء في شكلها العيني أو بعد بتوظيفها في شراء بعض حاجيات الفئات المستهدفة (الفقراء، الأرامل، اليتامى، الطلاب...إلخ).

وقد يتخذ العمل التطوعي لونا ثقافيا؛ حيث يقتطع الفرد من ماله ووقته لينشر أفكارا ومعارف في أوساط الناس، سواء كانت الأفكار إنتاجا أصيلا أو كانت إنتاجا للغير، عبر مختلف قنوات النشر (المحاضرات، المقالات، الكتب، المجلات، صفحات أو مدونات الكترونية... إلخ).

وقد يرتسم العمل التطوعي في قالب حقوقي؛ حيث يقتطع الفرد (بمعية المجموعة التي يشتغل في إطارها)  جزءا من ماله ووقته وجهده لملاحقة القضايا الحقوقية ورصد ملفاتها وكشف تفاصيلها وفضح المتورطين فيها والنضال من أجل عدالة مسار متابعة الضحايا.

وقد يتلون العمل التطوعي بلون بيئي؛ حيث يجتهد الفرد من داخل إطاره الجمعوي في إثارة قضايا البيئة العالمية والوطنية والمحلية (من ثقب الأوزون، إلى نظافة الحي)، ويضحي بوقته وصحته وماله من أجل ذلك داعما ومحرضا ومناضلا ومنددا.

وقد يكون العمل التطوعي جامعا بين كل هذه الألوان في حركة اجتماعية أو في عمل طلابي جاد.

باختصار؛ يعد العمل التطوعي، بالمقاييس المادية الملموسة،  بمثابة خسارة فادحة للفرد على كل المستويات من حيث هو: تبديد للمال، تضييع للوقت، هدر للطاقة وإهلاك للصحة. ولكن ما دلالة العمل التطوعي؟ ولماذا يُحارب؟

العمل التطوعي يرمز إلى انتصار "العمل" على "رأس المال". إنه بذلك يدل على أن الناس يمكن أن ينتجوا وأن يتحركوا بدون "رأس المال". ما يعني انهيار منظومة كاملة تسجن الفرد/المجتمع في معتقل لا يملك منه الفكاك إلا ب"القروض" (أي بالدخول إلى سجون أخرى).

وللأسف فالمال مهما كان نوعه ذهبا أو فضة، كان وسيلة لاختزان العمل حتى يعود لصاحبه في حاجات أخرى أو في أيام صعبة، وهو بذلك يمثل فائض العمل عن حاجات البيت. وبقدر ما تراكمت وتجمعت الأموال، في منشآت المصارف تحول أولا طابعها الاجتماعي، وأصبحت تمثل شيئا جديدا هو (رأس مال)، ثم تحولت طبيعة الصلة بين المال والعمل، فبعد أن كان مجرد خزان للعمل أصبح سجانا له، السجان الذي لا يعترف لسجينه بحق سوى العمل في مصلحته.

واليوم بعد أن تنوسي دور المال بوصفه مجرد خزينة يودع فيها فائض العمل، لتعيده لصاحبه عند الحاجة، أصبحت أذهاننا لا تستطيع أن تفكر في مشروع اقتصادي، دون أن تقعده على شروط مالية، كأن العمل أصبح فعلا سجينا لا يتحرك إلا بإذن صاحب السجن أي الرأسمال. *

لهذا، فنجاح العمل التطوعي بمعانيه العميقة أي تضحية الفرد بعمله أي بوقته وصحته وجهده في سبيل إنتاج قيمة اجتماعية مضافة هو بمثابة إعلان حرب ناعمة على بنية النظام الاقتصادي العالمي الجائر. ولهذا من الطبيعي جدا أن يحارب أو على الأقل أن يُميَع.

قد يقول قائل: في الغرب نفسه نجد منظمات تطوعية كبيرة تشتغل في عدة قضايا، فلماذا مازالت مستمرة ومتألقة وهي تعيش تحت رحمة نظام من المفترض أنه متناقض مع بنيتها؟

إن نظرة بسيطة إلى دينامية المجتمع الغربي في العقود الثلاثة الأخيرة، خاصة بعد انهيار الكتلة الشرقية، تكشف أن حصارا كبيرا تم فرضه على الحركات الاجتماعية (ذات الهوي اليساري) التي لا تساير النغمة السائدة، وبالمقابل تم تشجيع العمل التطوعي الخيري (=الاجتماعي) ورعايته من طرف مؤسسات مختلفة (منها الكنائس) بل ودفعه لإطلاق مشاريع "إحسانية" في بوادي دول العالم الثالث. كل هذا أفقد العمل التطوعي السائد في الغرب، بصيغته الحالية، بريقه التحرري ونزعته المقاومة لأنه تميع وصار يشتغل تحت رحمة "راس المال".
 


(1) مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1987، ص:69 .
.
...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






تعد فكرة "التخصص" إحدى أهم الأفكار التي أحدثت تحولات مفصلية في تاريخ البشرية. فبعد أن كان اتجاه المتعلمين يميل إلى "الموسوعية" والنهل من كل المعارف، صار الاكتفاء بتخصص دقيق ديدن غالبية النخب بله أفراد المجتمع.

لعل أصول فكرة "التخصص" تعود إلى الرغبة في "تقسيم العمل"؛ بمعنى أن التخصص في "عمل" ما مدعاة إلى التخصص في "التكوين" الذي يؤهل إلى أدائه على أحسن وجه. ومن المعلوم أن التوجه الاقتصادي نحو "تقسيم العمل" لم يتأتَ سوى مع "آدم سميث" في كتابه الأشهر (ثروة الأمم) المنشور عام 1776. ولم يتعمق سوى مع ظهور بذور علم التدبير مع "تايلور" ومدرسته في مستهل القرن العشرين.

إذا انطلقنا من الوصف الذي أطلقه وليم جيمس على العقل البشري بأنه "انتقائي ومتحيز"، نكون قد أغلقنا سر النجاحات التي يقف وراءها التخصص في التكوين العلمي والدقة في الوظيفة العملية. فمفاد هذا الوصف، الصائب جدا، هو أن استيعابنا العميق لمسألة من المسائل رهين بالتركيز عليها والتحيز لها وتدشين مسلسل "التراكم" في التعاطي معها.

بالفعل، قادت فكرة التخصص في التكوين، وقبلها نزعة تقسيم العمل، إلى ظهور نتائج باهرة على مختلف الصعد التقنية والصناعية والعلمية. فقد بات واضحا لكل من يقوم بأدنى مقارنة أن الفعالية الناجمة عن التخصص في إتقان جزئية معينة تكون عالية جدا، كما أن المردودية المصاحبة لها تكون أعلى. وكل الفتوحات الحضارية للبشرية، التي لو صُورت لمن يعيش في الماضي الغابر لاعتبرها صورة عما في الجنة الموعودة، تعد دليلا دامغا على نجاعة هذه الآلية الفعالة المسماة ب"التخصص".

مع ذلك، يمكن تسجيل العديد من الملاحظات التي تصاحب عملية تنزيل فكرة "التخصص":
 أولا، العلاقة "الأبوية" بين الكفاءة في الوظيفة العملية والتخصص في التكوين العلمي، باعتبار الفكرة الثانية ابنة للفكرة الأولى؛ تقود إلى استنتاج هام يفيد أن مجال "التخصص" متصل أساسا بالمعارف العَمَلية أي بالتكوينات العلمية ذات الأبعاد التقنية والصناعية والطبية. من هنا، يتعين العمل على الحيلولة دون امتداد هذه الفكرة إلى خارج مجالها الأصلي.

ثانيا، التخصص في المعارف النظرية (فلسفة القانون، الاقتصاد السياسي، علم المنطق، الفلسفة الأخلاقية، الفلسفة السياسية، تاريخ الأديان... إلخ)، أي ذات الصلة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، ينبغي أن تتقلص فيه هوامش الحدود ما أمكن، لأن هذه الحقول بطبيعتها متداخلة. والإحاطة بمختلف هذه المعارف من شأنه تعميق الفهم وتخصيب الخيال ودفع التفكير إلى الأمام.

ثالثا، يكون الإنتاج عميقا في "المعارف النظرية" في حالة التركيب بين أنساقها المختلفة، بينما تكون الثمرة جيدة في "المعارف العَمَلية" في حالة التركيز على الجزئية التي يتم الاشتغال عليها.

رابعا، التخصص لا ينبغي أن يكون مدعاة لإقامة جزر منفصلة بين أصحاب "المعارف النظرية" وأصحاب "المعارف العملية"؛ لأن الأوائل سيحلقون في السماء والآخرين سيلتصقون بالأرض، في حين أن المطلوب هو النموذج الذي يعيش على الأرض ولكن يتطلع دوما إلى آفاق رحبة (السماء). طبعا، نقر بصعوبة تنزيل هذا التركيب ولكن لا ينبغي أن نقتل هذا الرهان.

خامسا، يقف على رأس المحاذير المحيطة بتنزيل فكرة "التخصص" محذر الانزلاق إلى استغلال الفكرة لأغراض سياسية دنيئة؛ حيث يتم توظيف هذه الفكرة لتنميط الطلاب وتزييف وعيهم واستثمار جهلهم بمختلف الحقول المعرفية لتمرير المغالطات خاصة في التاريخ والمعارف الدينية والرؤى الفكرية.

وتُحكى بهذا الصدد نكتة طريفة عن أحد الحاصلين على شهادة الدكتوراه بامتياز في تخصص دقيق في البيولوجيا في وحدة "سُم الفئران"؛ إذ يعمد الدكتور إلى سياسة "إسقاط الطائرة" أثناء الحديث عن أنماط التدين، عن المستجدات السياسية، عن تاريخ الحضارة الفلانية، عن كرة القدم... إلخ، فلا ينسى استذكار "سم الفئران" في كل الموضوعات. المشكلة ليست في الاستذكار للإسهام في "النقاش" المفتوح، ولكن في تداعيات الانغلاق داخل التخصص على حرية الفرد الفكرية واختياراته الدينية والسياسية خاصة أمام السيل الجارف من المعلومات المنشورة في الفيسبوك!

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






إذا أردنا أن نكثف جوهر "المشروع الإسلامي" في صيغته النبوية، يمكن القول بأنه مشروع يراهن على "الوازع الداخلي" للفرد في انصلاح أوضاع المجتمع. ويرتكز هذا المشروع على الرقابة الذاتية التي يتمثلها كل فرد يؤمن بالله واليوم الآخر. في ظل هذا المشروع، كانت القيم تنبعث من سلوك الأفراد والجماعة لأن "الله" جل في علاه - عنوان هذه القيم المفارقة حاضر في الضمائر. 

كل الكتابات الحالمة باستعادة هذه التجربة كانت تستشهد بالقصص اللافتة التي تجد فيها المخطئ يندم ويطلب العقاب لنفسه، وتجد فيها "ابن الشعب" يقتص لنفسه من "ابن الحاكم"، وتجد فيها القضاء ينصف اليهودي ويُدين المسلم!

حقا! إنه مشروع "فائق الإنسانية"، ولكنه حلم مستحيل وتجربة تاريخية غير قابلة للإعادة. فبمجرد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ببضعة سنين، ضمُر حضور "الوازع الداخلي"، وصار بعض الناس لا يجدون غضاضة في المجاهرة بالخطأ (بعدما كان الندم يلحق الخطأ مباشرة في التجربة الأولى) والتشهير بالأعراض وقتل عيال الله واحتكار الثروة وتكميم الأفواه وتبذير الأموال. 

فعلا، مشروع بهذه المواصفات هو غاية في الجاذبية والإغراء. إذ تنطمس فيه النوازع السلبية للأفراد وتتهذب غرائزهم المنحدرة، ويعيش المجتمع في ظله في أمان وسلام بدون شرطة، ويعيش الأفراد في أجوائه حريتهم الحقيقية، إذ يتحررون من كل المخاوف ومن كل الأوهام بل ويتحررون من أنفسهم ومن أجسادهم!

لهذا حينما نقرأ القصص المثيرة عن البطولات الاستثنائية التي قادها أبطال تحرروا من كل شيء؛ تحرروا من أجسادهم فتحملوا الصخور على بطونهم في الشمس الحارقة، وتحرروا من رغباتهم فتقاسموا بيوتهم بل وأزواجهم مع إخوانهم... إلخ. نقرأ، ومن فرط اندهاشنا وانشداهنا، نتساءل: هل كل هذه البطولات يقف وراءها "الوازع الداخلي" فقط؟

نعم، إنه  "الوازع الداخلي" الذي يحيل على معان سامقة: الله، القيم، الضمير. إذا استحكم سلطانه في الفرد، طغى على غرائزه فهذبها، فصار بذلك في مأمن من التحلي بصفات ذميمة (الكذب، الخيانة، الأنانية) وفي منأى عن القيام بأفعال شريرة (القتل، العنف، السرقة، الظلم).   

في المقابل، نجد مشروعا عالميا يقوم على "الوازع الخارجي".

يرتكز هذا المشروع على تراكم معرفي كبير انطلق من تشخيص الطبيعة البشرية ونوازعها، وخلُص إلى أنها قائمة على الاستعداد للصراع والميلان للعدوان، فاستخلص أن الحل يكمن في ضرورة إيجاد "الدولة" وبناء "القانون"، أي "الوازع الخارجي". هكذا تكلم "هوبز" في (اللفيثان) وهكذا تكلم "ميكيافيلي" في (الأمير).

 إذن، أفضت الملاحظات/التأملات التي طالت طبيعة البشر إلى أن انصلاحهم مستحيل بدون ردعهم أو تخويفهم بواسطة وازع خارجي (القانون) في إطار الدولة، حيث تُفرض عقوبات متفاوتة على الذين طغت طبيعتهم البشرية فاعتدوا (بالعنف، أو بالسرقة، أو بالقذف أو بالظلم) وتجاوزوا الحد.

في هذا المشروع، يمكن للفرد أن يطلق لغرائزه العنان شريطة أن لا يثير النظام العام الساري في الدولة. في هذا المشروع، لا ثقة في أخلاق الفرد ولا رهان على وازعه الداخلي، ولهذا تُحدث مختلف القوانين التي تضبط بدقة كل حركاته. في هذا المشروع، لا ثقة في قيم الحاكم الداخلية (بمعنى ضميره وعقائده)، ولهذا تُحدث كل آليات الردع والضبط الخارجية (الدستور، المؤسسات التشريعية والقضائية والإعلامية... إلخ). 

في هذا المشروع قد يكون الأفراد أحرارا، بمعنى أنهم قد يتواجدون خارج "السجن"، ولكن غالبيتهم قد يتواجدون في معتقل "الغرائز" (الطمع في المال، أو الجنس، أو الجاه)، لأن في ظله لا أحد يدعو إلى تقوية رصيد القيم الداخلية التي تُحرر الفرد من غرائزه وإنما الجميع يدندن حول السلوك الخارجي الذي يطلق عليه السلوك المدني: احترام القانون، احترام الوقت، احترام البيئة، احترام الآخر، احترام العمل.

على كل حال هو مشروع ناجح يتمدد باستمرار، ومن يدري قد يكون فعلا هو نذير نهاية التاريخ!

إذا كان مشروع تثبيت "الوازع الخارجي" (القانون) هو ديدن الدولة الحديثة التي لا يمكن الفكاك منها، فيتعين علينا العمل على تنمية "الوازع الداخلي" (القيم) في المجتمع باعتبارنا مجتمع مدني أو مثقفين.  




...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






يلعب "العلم" أساسا دور الكشف عن الحقائق الكائنة في الواقع الموضوعي (في الطبيعة أو المجتمع). يصف العلم هذه الحقائق كما هي، سواء وافقت رغباتنا أو خالفتها. لا تثير العلوم الطبيعية والفيزيائية، فضلا عن رديفتها الرياضيات، أي إشكال. بيد أن العلوم الاجتماعية والإنسانية قد تكشف عن حقائق لا نوافق عليها، لأن موضوعها هو "نحن"، هو الإنسان.

قد يخلص أي حقل فرعي من هذه العلوم -بتنسيب- إلى أن الفرد؛ ابن بيئته، كائن مندفع، خاضع لعوالم اللاشعور، محدود بحدود عالم طفولته، متحيز لذاته وعشيرته، مستعد للصراع من أجل لقمة العيش، لاهث وراء مصلحته القريبة، ميال إلى الظهور والأضواء،  فيه خصال كثيرة شبيهة بما في الحيوان... إلخ.

تنطلق نزعة الرفض تجاه هذه النتائج. يخاف الإنسان من نتائج هذه "العلوم"، رغم أنه قد يلوك صباح مساء شعارات تدور حول أهمية طلب العلم، وتعتبر (العلم) خارطة طريق التقدم والرقي. يجد مخرجا في حكاية "التحيز"، فيعتبر هذه العلوم نتاجا لنموذج معرفي متحيز غير قابل للتعميم. 

حينما تقترب العلوم الطبيعية من موضوعات تمس الإنسان، يبدأ الإشكال أيضا ويتم استحضار تناول النصوص الدينية لذات الموضوعات لإغلاق النقاش والقول بأن الحقيقة قيلت في القرآن أو في الكتاب المقدس. وتستعر الحرب خاصة حينما تصل نتائج تلك العلوم، على نسبيتها، إلى طَرق باب التشابه بين الإنسان والحيوان.

لا يفهم كثير من الناس أن "العلم" لا يحابي الرغبات ولا يتبع الأماني. حقا، قد يخطئ لأنه بصدد بناء حقائق وتاريخ العلم هو تاريخ الأخطاء، وقد يكون وثوقيا أكثر من اللازم خاصة في ميدان الإنسان والمجتمع، ولكن لا بد أن تكون لإشاراته الكبرى مصداقية ولا بد أن تمنح إشاراته الإنسان بصيص أمل لفهم نفسه والعالم من حوله. 

في الجهة المقابلة للعلم، تقف القيم، ليس بمعنى وجود التقابل بينهما، أو انفصال العلم عن القيم. كلا! للعلم قيمه الخاصة ينبغي لأهله أن يتحلوا بها منها الجدية والدقة والأمانة والنزاهة والتأني... إلخ.

القيم هي عنوان المُثُل التي ينبغي أن تشغل الإنسان في كل حركاته، هي الأحلام التي لا حياة بدونها، هي الأفق الذي نرنو إليه جميعا فرادى وجماعات. القيم هي التي تضع المسافة بين تصرف الإنسان وتصرف الحيوان. فحين يصف العلم، ولا يهمه أن يكون الموصوف جميلا أو قبيحا، لا تتنازل القيم عن الجمال!

القيم كلها تقول ينبغي أن نتصرف وفق قواعد الإنسان (الرحمة، الإيثار، الصدق، التواضع، العفة، العدل)، في الوقت الذي قد يشير فيه العلم إلى أن الفرد مشدود إلى عالم الحيوان (الفظاظة، العنف، الأنانية، الاستئساد، الإباحية، الظلم). العلم يدفع الإنسان إلى استثمار خيرات العالم ليرتاح ماديا، بينما القيم تنشغل بمعنى الاستثمار وأسئلة العدالة.

تصدر القيم عن الدين وعن الخبرات التي راكمها الإنسان على مدار ملايين السنين.

أين يتموقع الفكر في هذه المعادلة؟ بينما يشير "العلم" إلى ارتباط الإنسان بترسبات عديدة تحُد من إشراق إنسانيته. يتعين على "الفكر" أن يهتم بالسبل الكفيلة بتقريب الناس من القيم، علاوة على بذل الجهد في التفكير في سبل تفعيل مضمونها في مختلف مناحي الحياة (السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، البيئية، الرياضية، والمهنية).




...تابع القراءة