| 0 التعليقات ]



في نقاشات متعددة مع رجالات: القاسم المشترك فيما بينهم؛ هو التضحية، هو البذل، هو النضال، هو الإيمان بفكرة ندية ذات أيام، هو نكران الذات في ليال وأيام مديدة، هو الانسياق وراء توجهات وقيادات بإخلاص، هو التألق الذهني/الفكري بالمقارنة مع نظائرهم وأقرانهم، هو الوفاء بلا حدود للمعاني الجليلة المحيطة بفكرة خلت ولكن مازالت تراود الذهن والمخيلة بدون إذن.
في هذه النقاشات تأكدتُ أن الموت السريري لحركة هو جاري المفعول في صمت. تيقنتُ أننا إزاء مرحلة فاصلة بكل المقاييس. استوعبتُ جيدا أن "الموت" يأبى في هذه المرحلة إلا أن يسلب جميع الأرواح: موت الأفكار، موت الضمائر، موت أرواح الأشخاص، موت الحركية، موت الجاهزية، موت الإيمان، موت القيم العظمى النفيسة، موت الروح الجامعة.
لا أخفي أنني أعي جيدا (من قال هلك الناس فهو أهلكهم)، ولا أخفي أنني غير مصدوم على الإطلاق مما يقع لأنني منذ عام 2016 كتبتُ مقالات عدة (بعضهما منشور في كتاب "تأملات": لهذا أصلا اخترتُ أن أنشُر "تأملات" وعيا مني بأنها تدوين للحظة المخاض العسير)؛ ومن أهم أفكارها:
1-  في المرحلة الثالثة من عمر الحركة الاجتماعية (التي يشيع فيها الإدراك: إدراك كنه الأفكار والحقائق والظواهر والعلاقات والأشخاص... إلخ) تغيب الحركة ويخفت الفعل وتتناقص الحرارة ويُفتقد الدفء وتترهل النضالية وتجمد الفاعلية وتتشلل الإرادة.
2- إذا تزامنت المرحلة الثالثة من عمر الحركة الاجتماعية مع حلول "العيد" وتجسُد "المثال"، فإن لحظة المسخ والابتذال والانقلاب والمأتم قادمة بسرعة تَفُوق كل التوقعات وبأسلوب يفاجئ كل الانتظارات.
في الواقع، تفاجأتُ بشيء واحد هو السرعة القياسية التي تم بها الوصول إلى مرحلة "الموت السريري" (التي يسود فيها توهُم الحياة، واستمرار الهياكل) إلى درجة أن ارتدادات الموت بلغت أصداؤها الغالبية العظمى من المناضلين (خاصة القاطنين في مدن الهوامش).
ولكن دعُونا نقف على عجل (أما المسألة فتحتاج إلى كتاب بل كتب للتفصيل والتدقيق) على أهم العوامل التي أدت إلى وصول حركة آوت العديد من أبناء الوطن البررة إلى مرحلة "الموت السريري".

-          على مستوى المناخ الثقافي الدولي الموضوعي:
لا شك أن كتابات/تحليلات رصينة رصدت الجو الفكري والاجتماعي الموبوء للمرحلة في العالم الراهن، وخلصت إلى وسم المرحلة بسمات بإمكان أي مواطن يقظ وحاد الإدراك أن ينتبه لها. هي مرحلة "السيولة" وطغيان "الاستهلاكية" الجارفة وإخضاع كل شيء لمنطق "العرض" و"الطلب" وحساب "الكلفة" و"الفائدة". هي مرحلة بنيتها التحتية هي "الرأسمالية المتوحشة" وبنيتها الفوقية هي "توجهات ما بعد الحداثة"؛ حيث تتعدد الآلهة وتتنوع وسائل تفكيك المرجعيات المعيارية السابقة من الإله إلى العقل إلى الإنسان. هي مرحلة الشرود الأقصى والدوران حول المصالح الشخصية القصوى (المال والجنس والسلط العلمية والسياسية والاقتصادية والدينية والجمالية).

-          على مستوى المناخ الثقافي المحلي الذاتي:
من طبيعة التنظيمات بشكل عام أنها تجافي قلة "النظر" وتهوى كثرة "الحركة" و"العمل". تزداد هذه المجافاة عموما عند التنظيمات الإسلامية ولكن لعل الحركة المعنية ب"الموت السريري" هي أكثر هذه التنظيمات نضجا وتصالحا مع "النظر". ورغم ذلك فانكفاء البرامج التأطيرية على دورات التنمية الذاتية وارتكازها على محتويات تربوية ساكنة أدى إلى إفراز جيل بل أجيال مائلة إلى "السلبية" و"الفتور" (بالرغم من استفادتها من برامج كثيرة تدور حول "الإيجابية" و"كيف تكون قائدا؟" و"التحفيز" و"التخطيط" و"القراءة السريعة"... إلخ). تزامن هذا مع ندرة/غياب "قدوات ملهمة" حية تحرك الأجيال نحو المُثُل بتجردها وصدقها وعطائها ومستواها وجاذبيتها وقوة شخصيتها بدون الإكثار من الكلام (النماذج التي بإمكانها أن تضطلع بهذا الدور منخرطة في العمل السياسي وبدون عوائد ملموسة).

-          على مستوى رواج المعلومات وتعميم الإدراك بسبب الطفرة التقنية:
أدت الطفرة التقنية إلى وجود وسائط يسيرة الاستعمال تُمَكن من إشاعة المعارف والمعلومات حول النظريات/الأفكار والحقائق/الظواهر والعلاقات/مسارات الأشخاص.
نجم عن هذه الطفرة على المستوى الأول تراجع مهول عن الإقبال على المحاضرات والندوات ومعارض الكتب والجرائد والمجلات على اعتبار أن المعرفة شائعة في اليوتيوب والمواقع الالكترونية. مما أدى إلى تعرُض بعض الأفراد المنظمين للإحباط من جراء خفوت التفاعل مع الأنشطة الثقافية (=مما يدفع بعضهم إلى التوقف عن تنظيم أي شيء أمام عجزه عن التفكير في بدائل منسجمة مع الفكرة ومغرية للجمهور). هناك مبدأ مشهور في "الاقتصاد السياسي" هو مبدأ الندرة أي كلما كان العرض نادرا كلما ارتفع الطلب لأن الندرة دالة على النفاسة والقيمة الثمينة. ارتفاع وسائط عرض المعارف والنصائح والتوجيهات أدى إلى إفقاد النشاط الرئيس الذي تقوم به الحركة (نشاط التوجيه الديني والتأطير الثقافي) بريقه ولمعانه، ومن ذلك ضعف الطلب والإقبال عليه.
على المستوى الثاني وجود "الفيسبوك" و"الواتساب" أحدث تحولا في شبكة العلاقات الاجتماعية. أدى وجود هذه الوسائط إلى انكشاف العورات وبروز الثغرات وتجلية أسوء ما في الإنسان. كما أدى إلى إفقاد القيادة (الوطنية والمحلية على السواء) مكانتها الرمزية السابقة التي كانت تستمدها من احتفاظها بمعلومات "خاصة" تقوم بتقطيرها على المناطق في اللقاءات التواصلية. ومن المفيد التأكيد على أن طبيعة نظرة القواعد في أي تنظيم إلى قيادتهم المحلية أو الوطنية تلعب دورا هاما في قياس صحة التنظيم.

-          على مستوى الخط السياسي المعتمد:
ينتبه المناضلون البسطاء إلى أن الفكرة الأولى التي تقاسموها مع القيادات والرموز تحمل في طياتها آفاقا واعدة. ولكن سرعان ما يجدون الممارسة السياسية تقتصر على تدبير ما هو قائم بقيمة مضافة هي النزاهة ونظافة اليد ولكن في إطار نفس خطاب الحكامة والمؤسسات السياسية الرسمية. غاب في البداية الاختيار الحضاري تدريجيا واليوم يُراد للاختيار الديمقراطي أن يغيب عمليا. هذا المناخ ساهم في تشوش الصورة عند الأوفياء والمنتمين إلى الاختيارات الأولى.  مما أدى إلى الفتور والسلبية والمراجعة والعودة إلى الذات.  
للأسف، سيكون الموت محققا ولا وجود لأدنى المؤشرات الكفيلة بحلحلة الوضع (الموت ينتبه له من في الهامش أكثر من المتواجدين في المركز). قد يطول العمر في  ظل حالة الشلل وقد يستمر الموت السريري إلى حدود 10 سنوات. للأسف سيفقد الوطن تنظيما من المفترض أن يكون في جبهة الدفاع عن مصالح المجتمع الروحية والثقافية والسياسية. ومن الصعب بناء تنظيم جديد في هذا المناخ الموضوعي الضاغط الموبوء.

0 التعليقات

إرسال تعليق