| 0 التعليقات ]




على مائدة الغداء، تجاذبتُ أطراف الحديث مع والدي حول مواقف ووقائع تؤشر على أن القضية الأمازيغية مازالت بحاجة إلى من يُجدد بطاقة تعريفها بشكل جيد في زمن الرداءة وسيادة طاحونة الطائفية والحسابات التقنوقراطية الضيقة.
كان الموقف الأول ما عبر عنه أحد أقاربي بعدما سألته عن سبب إصراره على الحديث مع صغيره –الذي سلخ سنة وشهرين من عمره- بالدارجة المغربية وهو الأمازيغي الذي يخاطب زوجته بالأمازيغية إلى جانب أهله وذويه. كان رده عجيبا: "اذكر لي فائدة واحدة من فوائد "تشلحيت" أو الأمازيغية". لم أرد في الحقيقة أن أدخل معه في "البوليميك" الفارغ  غير أني وقفت عند سؤال استنكاري لم أجد مهربا من طرحه: إذا تعاملنا مع الخيرات الرمزية التي تشكل لُحمة وسدى المجتمع بهكذا منطق براغماتي مادي نفعي لاهث وراء الفائدة المادية الملموسة المرئية، فإننا سنسقط العديد من الأمور الأخرى.. وآنذاك سنتسلم شهادة الانخراط بامتياز في حزب الرياح؟!
كانت الواقعة الثانية قد جرت في يونيو-رمضان المنصرم أمام إحدى المدارس الابتدائية بالرباط. بينما كان أب يرافق صغيرته إلى المدرسة صاحت الابنة بعدما اقتربت من صديقاتها منبهة والدها إلى ضرورة ذهابه عاجلا، فلم يكن من الوالد – مستغربا- إلا أن قال (بعدما تأكد أن ليس هناك داع حقيقي لهذا التوتر الذي برز على وجه صغيرته): هل خفت يا ابنتي أن يعلموا أنك "تاشلحيت" (أمازيغية)؟...
كانت الصغيرة المسكينة تخاطب والدها طيلة الطريق إلى المدرسة بلغة أمها (الأمازيغية) بشكل تلقائي وعفوي دونما عقدة نقص. لكن بعدما رأت زميلاتها راودها شعور يفيد اغتراب الأمازيغية عن ذاك الفضاء فقدرت ورجحت أن تكون محاسن وفضائل التستر عن هويتها أمام زميلاتها أقوى وأفضل من إبراز لسانها وعمقها الأمازيغي بشكل عفوي..
ما إن تلفظتُ بكلام الصغيرة حتى قفزت جدتي من مكانها قائلة: "إسراسبين أكايو: هل سيُقطعون لها رأسها إن أعلنت أنها أمازيغية"، مضيفة: "حتي الأصل أيكا يان: الأصل هو الأصل".
لم يجد والدي بُدا من أن يصفق بحرارة لجدتي قائلا: "حتى الأصل أيكا يان أيمي..: نعم، الأصل هو الأصل يا أمي".
لا شك أن الموقف الأول هو موقف أي رجل تقني، تقنوقراطي، إداري قصير النظر وضيق الأفق يحسب الحياة معادلات وحسابات وأرقام وفوائد وأرباح فقط ويعتقد أن الصراع اقتصادي-تقني بحت.
ولا ريب أن الواقعة الثانية دلالة على فشل جزء من استراتيجية بعض الأطياف المنضوية تحت لواء الحركة الامازيغية القائمة على تدويل القضية والاستقواء بالعدو (الصهيوني) وخوض معارك زائفة غير مفيدة للأمازيغية عوض العمل الميداني الذي ينبغي أن يتقصد المجتمع (لأن الحركة اجتماعية أساسا وإن كانت بصبغة ثقافية وبرهانات سياسية) وأن ينظف النفايات التي تركتها سياسات متراكمة لعقود في وعي المواطنين كرست إقصاء الامازيغية وجعلت الانتساب إليها تهمة وعارا ودونية. فلا عيب أكبر من أن نجد طفلة أمازيغية في زهرة الحياة تستبطن وعيا مفاده أن من العار الحديث بالأمازيغية في مؤسسة عمومية في مغرب 2016 وفي عاصمة دولة إحدى لغاتها الرسمية اللغة الأمازيغية. 
إن أكبر خطأ يسقط فيه المراقبون الغيورون على أوضاع مجتمعنا المختلفة هو التمسك برؤية تقتصر على إدانة الدولة ومؤسساتها الفوقية. إن من يحمي الخيرات الرمزية ويرعى قضايا القيم والهوية هو المجتمع بالدرجة الأولى وما الحماية القانونية والدستورية التي توفرها الدولة سوى دعامة إلى جانب دعامات تخص المجتمع بقصد صون الوجود والكينونة. وما المجتمع سوى قواه الحية وحركاته النشطة العاملة من أجل قضاياه الحيوية.
هكذا، فالانتفاض ضد الانتقاص من مكونات الهوية من مهام المجتمع وهو فعل تلقائي دال على درجة حرارة فكرة الأصالة فيه. إذ إن هذه الفكرة تظهر في المجتمعات البشرية كلما ظهر الوعي أو الإحساس بأن هناك شيئا يطوف حول هذا المجتمع للنيل من هويته الفكرية والحضارية، فترتفع أصوات الوعي من داخل المجتمع وكأنها صيحات إنذار أو إفرازات واقية قصد حماية هذا المجتمع من أن يلحق به هذا السوء. (1) 
إن قضية الاعتزاز بالأبعاد المعنوية والرمزية لمجتمعنا مدخل هام لتعزيز التماسك الاجتماعي وتقوية الالتحام بهذه الأرض فلا ينبغي أن تكون مجالا للمزايدة أو التوظيف المغرض أو الحسابات التقنية.
إن الأصل هو الأصل يا سادة. ولا يمكن لمجتمعنا أن يعطس بين المجتمعات بأنف شامخ إذا اختار أن ينضم إلى حزب الرياح حيث لا جذور ولا طعم ولا رائحة ولا رأس ولا رجلين.. لوجوده!

(1)  إبراهيم أخياط، الأمازيغية: هويتنا الوطنية، الطبعة الأولى 2007، ص:11.

0 التعليقات

إرسال تعليق