| 0 التعليقات ]





من يتأمل في حركة التجديد والمراجعة والنقد الذاتي التي يشهدها الإنسان سواء كفرد أو كجماعة (تجمع بشري، تنظيم حزبي، حركة اجتماعية..)، فإنه سيخلُص إلى نتيجة واحدة وهي أن المتغير الأبرز والدافع الأكبر لهذا التغيُر الطارئ (في المواقف، في الوسائل، في الهياكل..) هو درجة استحضار الواقع الموضوعي. هكذا يبدو أن أخطاء الإنسان وسوء تقديراته مردها غالبا إلى ضعف إدراكه للواقع الذي يتعاطى معه أو إلى تغاضيه عن معادلاته (في حالة إدراكه).
وإذا فحصنا معظم "المواعظ" التي يلقيها الناس على بعضهم البعض فإن محورها الثابت هو: "كن واقعيا.."؛ "الواقع يتطلب كذا.."، "ينبغي أن تراعي مؤهلاتك وحدود إمكاناتك في الواقع..". حتى الشاب "المنحرف" (في عُرف المجتمع وليس بدلالاته السوسيولوجية)، أي الذي يدمن على المخدرات ويتهاون في دراسته ويُضيع أوقاته فيما لا يفيد، يكون مدخل النصح الموجه إليه هو أن الواقع مُر والحياة صعبة ومادام الإنسان لم يُشمر على ساعد الجد في شبابه فإنه لن يحصد سوى الأشواك والمآسي والعذابات في المراحل اللاحقة من عمره.
بل حتى التوجيه المقدم للمتهاونين في تفعيل مقتضيات الإيمان بالدين في سلوكهم لا يخرج عن هذا التصور. فالناصح ينطلق من رؤية تفيد أن "جهنم" أمر واقع لا محالة إذا تم الانفكاك عن عرى الإيمان وتم الابتعاد عن توجيهات الرحمان. ولهذا يدعو "الناصح" صاحبه إلى استحضار هذا الواقع "الأليم" في حال الاستمرار في معصية رب العالمين.
هنا، إذن، يتم استحضار الواقع لردع الإنسان (وسلبه حريته الطبيعية) لكي يخدم واقع "المجتمع" أو واقع "الدين".
لكن من جهة أخرى، أصحاب التصور الطبيعي لحياة الإنسان هم أيضا، وبلهجة أقوى، يلعبون على وتر الواقع الموضوعي للإنسان أي ما تنطق به طبيعته للدفاع عن حقه في المزيد من التحرر من القيود الموضوعة على رقبته.
فخط "الحداثة" (المدرسة الليبرالية) إنما جاء للمرافعة من أجل إنسان بفكر متحرر  وجسد منعتق. والمؤمنون بهذا الخط حينما ينكرون على الذين يُضيقون على حرية الإنسان إنما يشيرون أساسا إلى أن الوقوف ضد "واقع" الإنسان (أي طبيعته) لا ينتج حتما سوى الانفجار. وفي المسألة الجنسية، على سبيل المثال، يوردون نماذج تدل على حد تعبيرهم على أن الضغط على حرية الإنسان (ونزوعه الطبيعي والتلقائي) ينتهي باحتقان الوضع الاجتماعي؛ مثال السعودية وإيران حيث تعلو نسب الشذوذ وزنا المحارم في ظل مظاهر توحي بالحشمة والعفة والحياء.
ولهذا فأصحاب هذا الخط يدعون أساسا إلى الاعتراف أولا بطبيعة الإنسان (أي واقعه كما هو)، قبل الحديث عن شيء آخر. أو بتعبير آخر، قبل الكلام عما ينبغي أن يكون، لا بد من الانصراف إلى ما هو كائن.
حتى في خطاب المدرسة الأخرى (الاجتماعية-الاشتراكية) التي تُشكل طيفا بارزا من أطياف خط الحداثة؛ نجد أن الدعوة كلها تدور حول أهمية استحضار واقع الإنسان الموضوعي مع لفت الانتباه إلى الأضرار الاجتماعية الناجمة عن عدم الاكتراث بواقع الاستغلال والجوع والبؤس والفقر والحرمان (الصراع المكشوف، حرب أهلية، ثورة شعبية..).
حتى الصراع القديم والمتجدد، على مستوى الفكر الفلسفي، يدور كله حول "الواقع" ودرجات القرب منه ومقدار استحضار عناصره. وما "المثالية" سوى المذهب الذي يتغاضى عن الواقع ويحلق على سيرورته ويغفل عن صيرورته ويكتفي بالتجريد و"الفكر" والاعتقاد بأن (كل ما هو عقلي فهو واقعي، وكل ما هو واقعي فهو عقلي). وما "المادية" سوى الوقوع في الواقع والانطلاق من الطبيعة (طبيعة الإنسان والمجتمع؛ أي واقعهما الموضوعي) ورؤية العالم من خلال ما تنطق به.
بل ما مشكلة الإيديولوجيا –أصالة- سوى الغفلة عن الواقع والقفز على معطياته.
إن كل الدعوات "التنويرية" و"التجديدية" من أقصاها إلى أقصاها، من أعنفها في مواجهة التراث والماضي إلى أرحمها بالسلف، لا تتحرك سوى في درجة استحضار الواقع وزاوية النظر إليه.
 مثلا، لنأخذ فكرة فصل الدين عن السياسة؛ ما هو منطلقها (غير الإيديولوجي)؟ إنها فكرة منبعثة من أن استكناه الواقع والإنصات لنبضه يقول بأن الناس في ميدان السياسة يتصارعون على المصالح ولا يستصحبون معهم العقائد في هذا الصراع؛ لأن صراع المصالح هو قابل للتدبير بأدوات سلمية حضارية أما صراع العقائد فما مؤداه سوى العنف والاحتراب والتشظي والتمزق. لأن الإنسان من الصعب عليه أن يتخلى على عقيدته وأن يؤمن بعقيدة الآخر مهما بدت له سليمة لأن الاعتقاد تحكمه أمور نفسية عاطفية غير مُعللة رهينة بمحيط الإنسان وبيئة نشأته. في المقابل؛ الإنسان بإمكانه أن يدخل في مساومات وأنصاف الحلول لتبادل المصالح مع الأطراف الأخرى.
هكذا نَلفي كل الخطابات التي تحمل اسم "ثورة" أو "تجديد" أو "تنوير"، في أوساطنا، إنما هي داعية إلى الخروج من واقع التأخر التاريخي عبر بوابة "عدم القفز على الواقع". ومن ذلك أن الواقع يقول أن الغرب تقدم لأنه سلك هذا المسلك؛ فما علينا إن كنا نريد لنا موقعا بين الأمم سوى أن نستنهض الهمم لنقتدي بذات خطوات الغرب. فالواقع يقول هذا المقال!
ولهذا أيضا نجد جميع هذه الدعوات تخاصم "الإيديولوجيا" وتخصص مجهودات فكرية جبارة لتقريب هذا المفهوم من بني جلدتنا. لأن الإيديولوجيا، باختصار، تمَحُل صادر من الإنسان لفك التعارض بين ما يدور في واقعه الذهني وما يدور في العالم الخارجي (عبر آليات التفسير "المشوه" للتاريخ، تغييب حقائق وتضخيم أخرى...).
ومن المفيد الإشارة، في هذا السياق، إلى كون الحركة الإسلامية وما تعيشه من مخاض المراجعات راجع إلى ارتقاء درجة ارتباطها ومعالجتها للواقع. وهنا تكمن إضافة مالك بن نبي (ورواد مدرسته: جودت سعيد، خالص جلبي..) للفكر الإسلامي المعاصر والتجربة الحركية في مختلف الأقطار التي اهتمت بفكره. فقد أضاف مالك بن نبي –يقول راشد الغنوشي- بُعدا آخر إلى تكويننا هو البعد التاريخي الاجتماعي، أو البعد التحليلي للظاهرة الاجتماعية والسياسية والتاريخية، فلم نعد نتعامل مع نظريات إسلامية، مثل المرأة في الإسلام أو الاقتصاد في الإسلام أو الحكومة في الإسلام كما هو سائد  في الأدبيات الإسلامية، وإنما أصبحنا نتعامل مع واقع المسلمين سواء الواقع القائم الآن أم الواقع التاريخي، على ضوء مفهوم الحضارة والتخلف والعدل والظلم والديمقراطية والديكتاتورية وليس فقط على ضوء الإيمان والكفر. (راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، الطبعة الأولى، 2001، ص:75)
لكن؛ ما هي حدود فكرة عدم القفز على الواقع؟
سيكون من العبث الوقوف ضد فكرة "عدم القفز على الواقع"؛ لأن كل فرد تثبت تجربته بأنه بمقدار ما يزيد من درجة الاستجابة -الإيجابية والجادة- للواقع الذي رصده من حوله وفي محيطه بقدر ما يرتقي في سلوكه وتعامله وحياته.
لكن ثمة ملاحظة جديرة بالانتباه. أين التحدي؟ إذا كان الإنسان لا ينبغي أن يتمرد على غرائزه ولا ينبغي أن ينكر اتجاه أحاسيسه ولا ينبغي أن يصادم واقعه؛ فالنتيجة أن الحياة تبدو سهلة مُيَسرة وأن علامات الترهل في طريقها لغزو إدراك الإنسان واحتلال قواه.
فالإنسان، تقول طبيعته وينطق واقعه برغبته في راحة مستديمة. إنه لا يميل إلى التعب والمعاناة وبذل الوسع وإفراغ الجهد؛ فإذا خُير بين العمل براتب والراحة براتب لاختار حتما الراحة (قد يقول قائل العكس. لكن دعك من التفكير والوعي والتعقل، واستنطق طبيعتك (أي واقعك) فقط: إلى أي جهة سيميل؟).
أمام هذا الوضع؛ لن نجد العاملون في مكاتبهم والغاطسون بين الكتب والصفحات والمُنقبون في الأفكار المفيدة الكفيلة بتطوير حياة الإنسان. كما أننا لن نجد العاكفون في مختبراتهم المعتكفون على فهم خلية من الخلايا أو حشرة من الحشرات أملا في استخلاص مضاد حيوي يُقوي مناعة الإنسان. كما أننا لن ننظر إلى مخترع عازم على السهر الليالي الطوال من أجل الإتيان بما يُرفه حياة الإنسان.
إن الاستكانة للواقع هنا تكمن خطورتها. لأن ما نغفل عنه دائما وما ننساه في كل لحظة؛ هو أننا في مرحلة تاريخية تقتضي التعب والبناء والكدح لتوفير الحاجيات وتحقيق الاكتفاء الذاتي قبل التفكير في الكماليات والمُرفهات. الغرب قد يكون معذورا في رفع شعار "الاستكانة للواقع" (رغم ما له من تداعيات على المدى المتوسط والبعيد خاصة على مستوى ضرورة تجديد وسائل الحياة والترفيه لأن الإنسان يمَلُ بسرعة وينجذب نحو الجديد) فهو قد أغلق قوس  مرحلة البناء منذ زمن.

إننا ينبغي أن نكون ضد نزعة "القفز على الواقع" والاكتفاء بالتحليق في عالم المُثل لأن ذلك يمنعنا من أن نبدأ البداية الصحيحة ويحول بيننا وبين الوجهة السليمة القاصدة. وبالقدر نفسه، ينبغي أن نقف ضد السعي نحو "الوقوع في الواقع" والبقاء في أسره. وتلزمنا كما يقول المقرئ أبوزيد –نقلا عن ابن خلدون- الاستماتة لأننا في مرحلة نهوض.. لكن باستبصار !


0 التعليقات

إرسال تعليق