| 0 التعليقات ]





كنت جالسا وصديقي الأثير أمام الحديقة بعد صلاة العشاء في "القامرة" بالعاصمة. لم ننتبه هذه المرة إلى أن المكان الذي نقتعده هو ملجأ أهل الدعارة. كنا نعلم أنه كذلك إلا أن انتباهنا –آنذاك- لهذا الأمر تأخر. فجأة بدت تلك التي ألفناها، تترنح بجانبنا وحولنا من شدة السكر. في الحقيقة امتعضنا لوجودها لأنها أفسدت علينا اللحظة وقد كنا نتغيى الاستمتاع بالجو الصيفي في هذا الفضاء الحيوي. لكنها طلبت منا "درهما" بأدب واعتذرت  عما صدر منها من إزعاج!
هي أم عازبة (وطالما كنت أُثرب على مستعملي هذا التعبير أيام مرحلة الثانوي –نسأل الله المغفرة- لكوني أعتقد أنهم يخلطون الأوراق ولا يودون تسمية الأمور بمسمياتها: داعرة، عاهرة... غفر الله لنا اندفاعنا وقسوتنا غير المفهومة)، شهدنا وعايننا، في السنة الماضية، الأيام التي كانت فيها حبلى بابنتها الثانية.
بعدما أفسدت علينا صاحبتنا اللحظة بهذيانها وكلامها الساقط وبعدما أخذ منها الخمر مأخذا عظيما، هممنا بمغادرة مجلسنا. فوجئنا بعد هنيهة بكونها  تستعيد أنفاسها وتحاول أن تسترد هدوءها لتجلس بجوارنا (فوقع مكان جلوسها بيني وبين شاب آخر يُرجح أنه بائع مخدرات).
أخذت هذه المسكينة تحكي ضميرها وتستنطق حالها، فدعُونا نستمع لها:
" أنا.. تعذبتُ كثيرا بل احترقتُ بالعذابات. لم أعش طفولة تُذكر ولا حياة تُشكر. يا الله. لو انبعث والديَ الآن لقبلتُ أظافرهما. كان الحرمان سيد الموقف طيلة حياتي.
أنا.. نعم تعذبتُ وحرمتُ من الحياة الكريمة. نعم أنا الآن سكيرة ومخمورة. لكن ثقوا أني لن أترك ابنتاي تكرران نفس السيناريو. أنا حُرمتُ من الدراسة لكني أدَرسُ ابنتي. لن تعيش ابنتي ما عشت من عذابات. سأُضحي من أجل ابنتاي بأعز ما أملك.
الآن ابنتي طريحة الفراش في المستشفى، عمرها 15 ربيعا: سأموت كي تحيا ابنتي أياما جديرة باسم "الحياة". في جيبي 6 (ستة) دراهم (أخذت  تداعب بأصابعها دراهمها المعدودة)؛ هي كل رأسمالي، سأجوع كي لا تجوع ابنتي.
تشردتُ منذ أن كان عمري 11 سنة. 24 سنة من التشرد والحرمان والبؤس. في هذه الأيام سأطفئ شمعتي 35 بمرارة وقد أصبح عمري 35 ربيعا".   
.. (تدخل الشاب الذي يُرجح أنه بائع مخدرات) ملوحا بوجهه تجاهي، طالبا شهادة مني تعزز كلامه: كلنا سنموت ("ياك أخُويا")، كلنا سائرون، كلنا إلى زوال. الجميع سيرحل من هنا.
عادت المسكينة التعيسة: الأيام تتكرر لكن الصحة تتبدد. السنة تدور لكن رأسمال الصحة يبور.
"آه كم تعذبتُ.. لكن عزائي في ابنتاي أن أربيهما وأدرسهما لتكونا صالحتين عسى ربي يكتب لهما "ولد الناس" زوجا.
تلظيتُ بلظى الحرمان والبؤس والتشرد و"الصعلكة" والضياع.. لكن اللهم لك الحمد (وأخذت تضغط بسنها على الحمد)".
"لا أحد يعرف معنى الوالدين إلا من فقدهما. لا أحد يعرف معنى الأمومة إلا من عاش تجربتها. أنا تماهيتُ مع وظيفة الأمومة. الأم هي منبع الحنان هي التي تحس بالإنسان. أما الرجل (الأب) فلا اهتمام يبديه ولا شوق يحرقه تجاه مستقبل أبنائه! ".
بينما كنا جلوس وكأن على رؤوسنا الطير لا نلوي على شيء نُصغي باهتمام للمرافعة البليغة التي قدمتها هذه المسكينة؛ أخذ التأثر لحالها يغشانا وأخذ الامتعاض من سابق حكمنا عليها يتملكُنا، خاصة وأنها تحكي وكأنها حمل وديع ترسل دموعها وتتنهد المرة تلو الأخرى.
لم يجد صديقي بُدا من أن يقول: إن هذه المحرومة تُلقننا دروسا في علوم التربية، لو تيسر لها أن تكتب تأملاتها لنافست "جان جاك روسو" على ما سطره في كتابه الكلاسيكي "إميل".
"هل هذه المسكينة ستُعيد تجربة الجحيم في الآخرة؟ إن الجحيم في أبهى حلة هو ما عاشت فيه طوال حياتها".
"هل رأيت كيف أنها موصولة بالمولى وتجدد حمده وتعيد شكره رغم أن وضعها يحمل في طياته عوامل إشعال فتيل التمرد والتمزق والرفض والجحود والكفر والإنكار؟"
" .. لا نزكيها على الله.. لعلها تستحق أن تكون في الفردوس الأعلى !".

يكفينا درسا أننا تعلمنا في مجلسنا مدى ضآلة إنسانيتنا ودرجة انطماس بصيرتنا وفتور علاقتنا بالمولى جل وعلا. يكفينا درسا أنه ينبغي أن نتواضع لأن هناك من هم أنبل منا ومن هم أكثر إنسانية منا ومن هم أقوى صلة بالله جل في علاه منا، طالما حسبنا أنفسنا في صفوف متقدمة على صفوفهم !


0 التعليقات

إرسال تعليق