| 0 التعليقات ]




يثار نقاش محتدم وغير مسبوق، إثر المستجدات السياسية الأخيرة، داخل حزب العدالة والتنمية. يمكن تكثيف مضامين هذا النقاش في تباين "المقاييس" التي يقيس عليها كل فرد نجاح أو فشل المسار الجديد. هذه المقاييس يطلق عليها في المعجم الحزبي ب: "المنهج".
لا يمكن فهم السلوك السياسي لحزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة من دون الانتباه إلى التفاعل القائم والدينامية المتجاذبة بين منهجين. المنهج الأول هو الأصيل يعود إلى انتساب الحزب إلى الحركة الإسلامية؛ فكرة ونشأة ومشروعا. المنهج الثاني هو الطارئ، لعل بداياته النظرية ترجع إلى سنة 2008 وتطبيقاته العملية تتصل بسنة 2011، ويرتبط بارتباط الحزب بالحركة الديمقراطية؛ ممارسة وأهدافا وأفقا.
ومن الجدير بالإشارة، أن خصوم الحزب سواء على المستوى الأفقي [=الخصومة الإيديولوجية] أو على المستوى العمودي [=الخصومة السياسية] غالبا ما يثيرون الزوابع والتوابع الإعلامية على "خطيئة النشأة" الخاصة بالحزب بصفته منحدرا من رحم الحركة الإسلامية. والحال أن انتساب الحزب إلى منهج حركة إسلامية [=حركة التوحيد والإصلاح] لا يضر هؤلاء الخصوم في شيء.
فهذا المنهج يقوم على جملة من القواعد المسكوكة: "المشاركة لا المغالبة" و"التعاون لا التنازع" و"التدرج وكسب الثقة" و"دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة"... إلخ. وهي قواعد متفرعة عن التصور العام الذي كان يؤطر المشاركة السياسية للحركة الإسلامية وهو تحصين "المكاسب التربوية" وصيانة جهود "إقامة الدين في المجتمع".
بعبارة أخرى؛ يعتبر العمل السياسي، حسب هذا المنهج، مجرد باب من أبواب "إقامة الدين وإصلاح المجتمع". ولكنه باب مهم يشكل حصانة للجهود "التربوية والثقافية" الهادفة لبناء الإنسان الصالح المصلح. على سبيل المثال: تنهض الحركة بأعباء التأطير التربوي والثقافي لفائدة التلاميذ [=بهدف إشاعة قيم العفة والحياء وزرع الحاجز النفسي ضد الصهيونية ... إلخ]، ولكن التلفزة المغربية تقوم من جهتها بتأطير مضاد [=لا تنشغل بالبعد الأخلاقي في المنتج الفني السينمائي، لا تكترث لقضية "التطبيع" مع العدو الصهيوني ... إلخ]. الحصيلة: أن جهود الحركة تصبح في مهب الريح. الحل: هو اقتحام العمل السياسي بهدف التمكن من امتلاك القرار الذي يقف وراء الخيارات الثقافية والقيمية لمنابر التأطير العام التي في حوزة الدولة مثل الإعلام العمومي والأنشطة الثقافية التي تحظى بالدعم العمومي.
من المفيد في هذا السياق التذكير بأن استهداف منابع القرار السياسي ليس نابعا من قناعة تؤمن بالتنميط والاستبداد وصناعة المواطنين على المقاس. بل هو راجع إلى الإيمان بأن وسائل الإعلام العمومي ـمثلاـ هي التي تكرس وتروج لنموذج أحادي وبالتالي فتلقيحها وإمدادها بعروض ثقافية وقيمية متنوعة يخفف على الأقل من حدة التناقض بين القيم الدينية والثقافية التي تريد الحركة [=جزء من المجتمع] أن تشيع في أوساط المواطنين وبين القيم الرائجة في وسائل التعبئة والبناء الثقافي التي تمتلكها الدولة [=المدرسة، والإعلام].
يتبين من خلال هذا التوضيح البسيط أن منهج الحركة الإسلامية ودوافعها الأولى للمشاركة السياسية هي بسيطة. ولا شك أن "الدولة"، على الرغم من حاجتها إلى هذا "التوأم" لتعميق شرعيتها الدينية وتعزيز تقدير المواطنين لها، طالما أظهرت حساسية مفرطة من مرامي المشاركة السياسية للحركة الإسلامية. صحيح أن "الدولة" تروج لنموذج آخر من التدين هو المتصل بالطرق الصوفية. ولكن الحقيقة هي أن "الدولة" لا يهمها مضمون أي تدين وليس لديها "مشروع متدين مغربي"، إنما الذي يهمها بالدرجة الأولى هو أن يكون هذا "المتدين" خارج السياق وغائبا عن التاريخ والجغرافيا وبعيدا عن نقاش الثروة والديمقراطية.
والواقع أن "الدولة" تسلط الأضواء على بعض الثغرات والهفوات الكائنة في خطاب وممارسة الحركة الإسلامية المشاركة في العمل السياسي، عبر وسائلها الإعلامية المأجورة [الأحداث المغربية، الأخبار، هسبريس ... إلخ]، لاستفزاز خصوم الحزب على المستوى السياسي والإيديولوجي بهدف تعميق التناقضات الزائفة على المستوى الأفقي. والحال أن الحركة الإسلامية، تجربة بشرية، تعبر في الأصل عن احتجاج جزء من المجتمع على "مشروع التدين" الذي تفرضه الدولة قسرا بوسائلها القوية.
إذن، حسب المنهج المعمول به منذ البداية في الحركة الإسلامية، والذي سبق أن وضحنا باختصار بعض قواعده، حزب العدالة والتنمية في المسار الجديد ليس شاردا على المستوى الشكلي على الأقل. بمعنى أن السياسة مازالت مجالا من مجالات الإصلاح، يشارك فيها الحزب بدون مغالبة، مازال مستمرا في "التدرج" [رغم أن جل المراقبين يتحدثون عن انكسار وتراجع!]، يقود 200 جماعة ويحتفظ ب12 حقيبة.
ولكن، الإشكال القائم هنا هو أن استحضار المنهج يكون على المستوى الشكلي [المسطري] فقط. أما المضمون، أي تحصين الجهود التربوية والثقافية، فأكيد أن الحديث غاب بصددها منذ سنوات. لماذا غاب؟
باختصار، لأنه ظهر مضمون جديد للممارسة السياسية أفرز بدوره منهجا مغايرا وليس بالضرورة مناقضا للمنهج الأول. المضمون الجديد، متداول على كل الألسنة، هو محاربة الفساد والاستبداد، أي استهداف الإسهام الجاد في تشييد أركان جديدة لمسار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. والمنهج المعمول به في هذا الإطار مع تبلور المضمون الجديد هو منهج نابع من أدبيات الحركة الديمقراطية، خاصة منها الاتحادية الأصيلة، أي النضال الديمقراطي والشراكة مع كل القوى الوطنية الديمقراطية في البناء الديمقراطي.
ما هو منهج الحركة الديمقراطية؟ أولا، المرافعة من أجل إصلاح دستوري قوي وعميق يكون قوامه ربط المسؤولية بالمحاسبة. وثانيا، الانحياز الدائم للتأويل الديمقراطي للدستور والحرص على تنزيل مضامينه ومقتضياته بشكل أفضل في كل الممارسات السياسية، والاستنارة بالمبدأ الجامع: ربط المسؤولية بالمحاسبة. هذا المنهج يقتضي الكفاح المستمر والمصابرة والاستعداد لأداء الضرائب الغالية. 
للتذكير، حزب العدالة والتنمية كان حريصا على ما سماه رشيد نيني في أحد مقالاته الأخيرة قبل اعتقال أبريل 2011 على المرافعة من أجل ضخ الدستور المعدل ب"إشراقات ديمقراطية". ورغم كل ما يسجله المراقبون على دستور2011 المؤطر في بنيته بازدواجية غير خافية، إلا أن تنزيله كما هو كان أمرا عسيرا على واضعيه. وهنا خاض حزب العدالة والتنمية، معركة بالرموز ضد الّذين يعملون في الظلام والخفاء وينتجون ممارسة سياسية خارج إطار الدستور.
طبعا، حسب هذا المنهج ما وقع منذ منتصف مارس ردة سياسية مكشوفة ونكوص في المسار وانزياح عن منهج النضال الديمقراطي بقبول إملاءات فوقية. 
لعل هذا المسار الجديد، الذي بدأ الحزب ينحته عبر منهج يغرف من إرث الحركة الديمقراطية شكلا ومضمونا، هو الذي يزعج ويرهق "الدولة" خاصة بعد أن تحول الحزب بفضله إلى "حالة جماهيرية". ولهذا عمدت "الدولة" عبر وسائلها الحزبية والإعلامية إلى محاولة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء وتذكير خصوم الماضي بالهموم "الإيديولوجية" التي كان يحملها الحزب في بداياته والتي انتهت صلاحيتها بعد أن كانت مبررا لميلاد الحزب. كما اتجهت "الدولة" لتعميق التناقضات الأفقية بين الأحزاب والنقابات والحركات النابعة من رحم المجتمع والتي تنشد نفس الآفاق الديمقراطية في محاولة ناجحة للإلهاء. حينما يتحدث بعض الفضلاء، من الغيورين على شق صف المجتمع، عن أن المرحلة تقتضي ترك الخلافات الإيديولوجية جانبا والانتباه إلى معركة الديمقراطية. من المهم التنبيه إلى أن الهموم الإيديولوجية، على المستوى السياسي، لم يعد لها وجود أصلا حتى تترك جانبا [أما على المستوى المجتمعي، فمازالت الحاجة ماسة إلى صناعة تدين حي مفيد في الدنيا والآخرة].
الخلاصة: يستدعي بعض قادة حزب العدالة والتنمية اليوم المنهج المعمول به منذ المرة الأولى على المستوى الشكلي لتبرير مضامين مغايرة. ويراد الاستمرار في مضمون "المنهج الجديد" بدون شكل المنهج وهو: المصابرة على محاربة الفساد والاستبداد والكفاح من أجل ربط المسؤولية بالمحاسبة [الذي يستشرف كأفق "الملكية البرلمانية"] والاستعداد لأداء الضريبة مهما كانت غالية.

إننا أمام منهج قديم على المستوى الشكلي ومنهج جديد من ناحية المضمون. ولا يستقيمان!  


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]








 في المقال السابق خلصنا إلى التحسر على الحالة الراهنة: "للأسف أمام مشهد مازالت فيه "الدولة "غنيمة" و"أداة قمعية" عوض أن تكون وسيلة حاضنة لفكرة العقد الاجتماعي. تصير الأحزاب المنبثقة من "الدولة" هي الحاضرة شبه الوحيدة في المشهد. وتصبح "الحركات الاجتماعية" غارقة في معارك وهمية بينية تستغرق جهدها وتستنزف طاقتها، ومن ثَم تكون بعيدة عن رهان صياغة نموج مفارق لما تريده الدولة النازعة نحو الاستبلاد والإلهاء.

كان "التوافق" يفيد إيجاد أرضية بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين أي برنامج أفقي مشترك لمواجهة من يعمل على الاستفراد بخيرات البلاد وافتراس خيال العباد (=الدولة بصيغتها الحالية). أما الآن ف"التوافق" يُعنى به التواصل العمودي بين "الدولة" و"القوى الحية في المجتمع" من أجل المصلحة العليا!".

السؤال المطروح منذ البداية: من يتحمل المسؤولية؟

من أكبر عوائق التطور الديمقراطي والاجتماعي والثقافي في مجالنا هو: تحميل المسؤولية ل"السارق". إن ما يتم فعله شبيه ببيت تهاون بعض أفراده في إحكام إغلاق أبوابه ومداخله؛ فتعرض للسرقة؛ فلما خاض أهل البيت في حوار داخلي حول المسؤول عما جرى تم الإلقاء بالمسؤولية على "السارق"! إن السارق ينهض بدوره في مسرح الحياة؛ فلو لم يشتغل على السرقة لما كان للنقاش مبرر وجود من الأصل. إن المعني بالمساءلة هو الذي تهاون في سد الثغرات التي من خلالها تمكن "السارق" من الدخول.

إن الحياة لو انتفى فيها الاستغلال والاستبداد والاستبلاد (الذي تقوم به جهة ما قدرنا هنا ان نتواضع على أن نطلق عليها "الدولة")، لما كان للنقاش والبحث والعلم (الاجتماعي) مبرر من الأصل. وبالتالي المعني بسؤال المسؤولية هو "المجتمع وتعبيراته الحية؛ من الأحزاب والحركات" أي الطرف المقابل للجهة المستبدة والمستغلة والمستبلدة.   

إن هذا التقدير في التحليل ينسجم مع الدرس القرآني (قل هو من عند أنفسكم)، ويدفع بالنقاش إلى الأمام لحلحة الإشكال: لأن المجتمع هو نحن وبالتالي إذا استوعبنا أن العطب فينا، فيمكن أن نسعى إلى علاجه. أما إذا كنا نراهن على الجهة المقابلة حتى تتغير بمفردها فذلك انخراط في مشاريع أحلام اليقظة.

إن التغيير في العصر الحديث رهين ب"الوازع الخارجي" (=القانون، المؤسسات ... إلخ)، أما في السابق فقد كان متصلا ب"الوازع الداخلي" للحاكم (صلاحه، زهده، عدله ... إلخ). إذا اجتمع الأمرين فستكون النتيجة مثمرة جدا، ولكن في انتظار تشكل "الوازع الداخلي" غير المضمون؛ من الهام الاشتغال على بناء "الوازع الداخلي". وهذا هو النضال الديمقراطي.

نعود إلى الإشكال لتوزيع المسؤوليات. حسب الفرضية التي تؤطر هذا النقاش، ومن المفيد التنبيه إلى أنه لا وجود لمطلقات في هذا النقاش حول القضايا الاجتماعية والإنسانية فالأمر يتعلق بفرضيات في نهاية المطاف، فإن الجهة الريعية والسلطوية تنهض بثلاثة أفعال:

-          الاستبداد، ومعناه الاستفراد بالقرار السياسي وقمع الحريات.

-          الاستغلال، ومعناه الاستفراد بالثروة الطبيعية أو المكدسة من الضرائب التي يسددها المجتمع.

-          الاستبلاد، ومعناه الاستفراد بالنموذج الثقافي وغالبا ما تنزع "الجهة" المقابلة لتحرر المجتمع إلى إشاعة نموذج الخواء والتفاهة والبلادة.  

من هذا المنطلق، يتبين أن "القوى الحية للمجتمع" تتحمل المسؤولية في الكفاح على ثلاث جبهات باستماتة واستبصار:

-          النضال الديمقراطي، على المستوى السياسي.

-          النضال الديمقراطي، على المستوى الاجتماعي.

-          النضال الديمقراطي، على المستوى الثقافي.

أكيد أن الاحزاب والنقابات من المفترض أن تنشغل بالجبهتين؛ النضال السياسي والاجتماعي. اما الحركات الاجتماعية فينبغي أن تناضل، كل من زاويتها، باعتبارها مدارس موازية من أجل افتكاك الإنسان من الفقر الفكري والبلادة الثقافية اللذين تضطلع المدرسة والإعلام بإشاعة بذورهما.

صحيح أنه لا يمكن للحركة الاجتماعية صناعة وعي متحرر إذا كان الواقع مغلق وضيق. ولكن لا يمكن كذلك صناعة واقع متحرر (من الاستبداد والاستغلال) إلا إذا كان هناك قدر من التحرر من الاستبلاد على مستوى الوعي.

يبدو أن الجميع يتحمل المسؤولية من داخل المجتمع. فمهام النضال الديمقراطي ومواجهة الريع والتنوير الثقافي واجبات ثلاثة؛ مازال التهاون ساريا تجاهها. مازال البعض ينفخ في الخلافات الإيديولوجية الزائفة ومازال تخوين المناضلين الشرفاء متبادلا ومستمرا. ومازال الجميع شاردا عن أن هذا "الجميع" نفسه يجسد صفا واحدا في مقابل الجهة التي تستبد وتستغل وتستبلد.




...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






يبدو أن فصول العنف الجامعي في المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم تبرز حقيقة أكيدة مفادها أن الطالب "العادي"، أي غير المُسَيس، لن ينجر إلى العنف؛ والتاريخ أمامنا يؤكد أن كل المتورطين في أحداث العنف كانوا أصحاب انتماء سياسي. هذه المقدمة أو هذا المنطلق يقتضي حينما ننقب عن عوامل انفجار العنف الجامعي أن ننطلق من التاريخ، ومن الواقع التاريخي. وللأسف الشديد، نجد بعض من يتصدى لنقاش قضية العنف، سواء من الطلبة أو من الباحثين، ينزاح نحو تحليلات "مثالية" تهمش "الواقع" وتفترض أن "المحتوى الذهني" للطلاب هو المسؤول الحاسم عن اندلاع "أحداث عنف".

يمكن القول إن أولى محطات العنف التي ظهرت في الجامعة المغربية تبلورت بعدما لجأ الطلبة "الاستقلاليون" إلى إنشاء منظمة طلابية خارج (أوطم) هي "الاتحاد العام لطلبة المغرب" يوم 17 أكتوبر 1962. والسبب في ذلك يعود إلى كون الطلبة "الاتحاديون" يتهمون الطلبة "الاستقلاليون" بالعمالة لفائدة الراغبين في إضعاف النقابة الطلابية عبر تمزيقها.

بينما يرجع الصراع الثاني العنيف إلى نهاية الستينات ومطلع السبعينات بين الطلبة "الجبهويون" (المنتمون إلى خط الماركسية اللينينية) والطلبة "الاتحاديون". وتمتد أسباب هذا العنف إلى عدة عوامل: من جهة إحساس الطلبة "الاتحاديون" بفقدان مكانتهم المعهودة في أوساط الجماهير الطلابية لفائدة خط اليسار الجديد. ومن جهة ثانية، نجد الطلبة "الجبهويون" يؤمنون بشعار مفاده "مواجهة كل ما يمكن في أفق المواجهة الشاملة" ولهذا فهم يعتبرون الفصيل "الاتحادي" مكون إصلاحي انتظاري ينبغي مواجهته مرحليا قبل مواجهة "النظام".

ويمكن اعتبار المحطة الثالثة من محطات العنف الجامعي لصيقة بدخول "الوافد الجديد" إلى الجامعة المغربية وهم الطلبة الإسلاميين بعد منتصف الثمانينات. كان الطلبة "القاعديون" (وهم ورثة إحدى مكونات فصيل الطلبة "الجبهويون"، بالتحديد "إلى الأمام") يهيمنون على الساحة الجامعية آنذاك. ولهذا حرصوا على عدم السماح للطلبة الإسلاميين بأي تحرك أو نشاط مخافة أن ينازعوهم سلطانهم على الساحة الجامعية وهيمنتهم على الطلاب. كما اعتبر القاعديون المكون الطلابي الإسلامي دخيلا على الجامعة لكونه يروج لأفكار رجعية تخدم شرعية "النظام". ومن ثَم رأى الطلبة القاعديون أن معركتهم هي مواجهة هذا الخط الظلامي الرجعي حتى لا يتغلغل في الجامعة.

من جهتهم، قام الإسلاميون (الطلبة التجديديون، طلبة العدل والإحسان) بردود أفعال لإيجاد موطئ قدم لأفكارهم داخل الجامعة. كما انبعثت من داخلهم أصوات تنطلق من التفسيرات الدينية للصراع مع القاعديين معتبرة إياهم مكون ناشر للإلحاد ومن ثَم ينبغي أن يُواجه بكل حزم. هكذا كانت إحدى فصول العنف الجامعي التي سقط فيها الشهداء المعطي بومليل سنة 1991 وبنعيسى أيت الجيد سنة 1993. 

جاءت المحطة الرابعة من محطات العنف الجامعي مع تكتل الطلبة الصحراويين في إطارات معينة ومع اتساع قاعدة الحركة الثقافية الأمازيغية. وتعود أسباب هذا العنف إلى استمرار قيم البداوة في ذهنيات مجموعة من الطلاب الذين يتمركزون حول انتماءهم القبَلي والجغرافي والعرقي بتطرف وعنصرية وعصبية بعيدة عن روح العصر. هكذا سقط الشهيد عمر الخالق ضحية المنطق الذي يفرق الناس على أساس طائفي وقبلي وعرقي في مطلع سنة 2016. وتجدر الإشارة إلى أن انتعاش الانتماء الطائفي على أساس القبيلة والجغرافيا مرده إلى شيوع مناخ عام في زمن ما بعد الإيديولوجيا (بعد 1990) حيث تقلص هامش الإيمان بالفكرة والإيديولوجيا.

أما المرحلة الخامسة، فهي استمرار أحد مكونات الطلبة القاعديين وهو فصيل البرنامج المرحلي في تدشين مسلسل عنف موجه ضد الإسلاميين (سقوط الشهيد عبد الرحيم الحسناوي في أبريل 2014) وضد الأساتذة والموظفين والأعوان (حادثة حلق شعر النادلة شيماء بجامعة مكناس) وضد المكونات اليسارية "الإصلاحية" في تقدير ذلك الفصيل (على سبيل المثال اضطهاده لفصيل "اليسار التقدمي" بوجدة على الرغم من تعاطفه مع أطروحة جذرية في التغيير تنتمي لحزب النهج الديمقراطي)، وأخيرا وليس آخرا نعاين أيضا العنف الممارس ضد الأجنحة القاعدية التي ترى بأن التحالف الموضوعي الذي يربط بين "البرنامج المرحلي" وأحد الأحزاب السياسية هو ردة ونكوص عن الخيارات الثورية المرسومة (على سبيل المثال، حادث أكادير يوم الاثنين 12 فبراير 2017).

إذن؛ أسباب العنف كما رأينا راجعة بالأساس إلى انطلاق الطالب المُسيس من تصنيف غيره في زمرة الخصوم بناء على تخوينه واتهامه بالعمالة أو اعتباره حجر عثرة أمام نجاح مشروعه السياسي (الثورة). كما أنها تعود إلى غلبة قيم البداوة وتضخيم الانتماءات القَبَلية والعشائرية والطائفية والعرقية واللسانية على حساب الانتماء إلى الوطن الكبير وإلى الإنسانية جمعاء.

يتساءل العديد من الباحثين والمراقبين عن السبب في كون ضحايا "العنف الجامعي" من المناطق المهمشة والبوادي أي من نفس الطبقة (إذا وظفنا المفاهيم الماركسية) المسحوقة. من الواضح أن الذي يذهب إلى الجامعة اليوم هم بالأساس أبناء الفئات الأقل من المتوسطة والفقيرة. اما الفئات الميسورة فغالبا ما تتجه إلى المعاهد الخاصة أو إلى استكمال الدراسة خارج الوطن، حتى الطلاب المنحدرين من هذه الفئة والذين يدرسون في الجامعة فهم يأتون بالسيارات ويعودون حالما ينتهي الدرس، ولهذا فهم خارج النقاش السياسي والفكري والهوياتي الذي يُقلق الطلاب الآخرين.

الطالب الذي ينحدر من الهوامش والبوادي هو الذي يتلظى بلظى الحرمان ويحترق بالفقر والبؤس ولهذا فهو الذي يطرح أسئلة عدالة توزيع الثروة والسلطة المادية والرمزية (اللغة والثقافة). وبالتالي، فانحدار ضحايا العنف من الهوامش والبوادي أمر مفهوم، ولهذا ليس منتظرا ان نجد أبناء الفئات الميسورة من هؤلاء الضحايا، بل ليس منتظرا أن نجد "الجلاد" ضمن هذه الفئة. إن تشي غيفارا جديد (الذي ترك الثراء وعانق هموم الكادحين) هو صعب البروز في هذا السياق الذي يشهد موت النقاش الفكري وانحسار الانتماء الإيديولوجي.


إن الفكرة التي تؤطر العديد من الفاعلين سواء من قدماء "القاعديين" أو من بعض "الإسلاميين" هي واحدة جوهرها مفادها أن "الواقع الذهني ينعكس على مستوى الواقع المادي بصرامة وبدقة متناهية":

-        القاعديون (وأحيانا يتم التعميم والحديث عن اليسار بإطلاق) ينهلون من تراث يؤمن ب"ديكتاتورية البروليتاريا" و"العنف الثوري" ... إلخ، وبالتالي فما المنتظر من أي حامل لهذا المحتوى الذهني سوى الانخراط في أعمال عنف لتصفية الرجعية وكل العناصر المعطلة للثورة والمخدرة للجماهير بخطابات عاطفية مثالية (دينية)، علاوة على نشر "الإلحاد" و"الباطل".

-        الإسلاميون يغرفون من تراث يُشرع لإعدام المرتد وإقامة الحدود ومجافاة العصاة الخارجين عن دائرة "الشرع" ... إلخ، وبالتالي أكيد أن هؤلاء "الناس" هم من يقف وراء العنف بغرض إشاعة الظلام ووقف زحف "الأنوار التي يوقدها الرفاق في أرجاء الجامعة" وتطبيق أحكام الشرع في جناة في حق الدين والملة.

إن التحليل "العلمي" يسعى أمام أي ظاهرة موضوعية في "الواقع" لتقليص هامش "اللاعقل" و"المثالية". بعبارة أخرى: يتفادى "الفكر العلمي" ابتداء النزوع نحو: أولا؛ أسطرة أو تمجيد أو تقديس غير مبرر لفكرة/شخص/شيء/حدث ... إلخ. ثانيا؛ السقوط في تخوين وشيطنة لفكرة/انتماء/تيار/تنظيم ... إلخ، لا لشيء إلا لمحتواه الذهني الداخلي الذي لم يكن مسؤولا عن تسطير جزء كبير من معالمه وملامحه، بل كان نتاج الظروف والتجارب التاريخية التي شاءت الأقدار أن يجتازها في مرحلة مؤسسة وحاسمة في حياته الفكرية.

إن الصراع السياسي والاجتماعي الكائن هنا في المغرب يصعب اعتباره صراعا طبقيا بالمعنى الذي توصل إليه "ماركس" نتيجة تطبيق "المنهج الجدلي المادي" على التاريخ الأوروبي. إن الصراع عندنا، في ظل غياب "دولة" تجسد فكرة العقد الاجتماعي، قائم بين "دولة" (=تجمع مصالح فئوية) ريعية وسلطوية تريد استدامة مصالح من يمثلها من أشخاص وتشكيلات وبين "مجتمع" تراوده أحلام التحرر من قبضة التنميط والضبط والاستغلال الذي تمارسه الدولة. هذا المجتمع يلوح له أحيانا أن مدخل الاحتجاج على الوضع هو إثارة المسألة الاجتماعية وإيقاظ الوعي الاجتماعي للناس، وأحيانا أخرى قد ينجذب نحو الدفاع عن الخيرات "الرمزية" (اللغة والثقافة والهوية) لكي تكون قنطرة لاستعادة الحق في الاستفادة من الخيرات المادية. وقد يرى في "الدين" الحل والهُدى والعزاء والمدخل لإثارة وعي الناس وتحميسهم للإصلاح (=العمل على التقليص التدريجي من مقادير استغلال الدولة واستفرادها بالثروة واستبدادها بالقرار السياسي من دون المجتمع).

انطلاقا من هذه الفرضية، إذ لا توجد مسائل محسومة في القضايا الاجتماعية والإنسانية، يبدو أن "الدولة" لم يكن في صالحها في يوم من الأيام أن تتواجد في الجامعة "حركة طلابية" فاعلة وقائمة بأدوارها الأصيلة لأن من شأن ذلك إعداد أجيال من الشباب سيشكلون "مجتمع الغد" لمواجهة "الدولة" باستماتة واستبصار. ولهذا عمدت الدولة منذ فجر الاستقلال إلى خلق صراعات بينية منهكة للشرود والغفلة عن المهام الطلائعية المطلوبة. هكذا، وجدت الدولة نفسها معفية من عملية وقف النمو الفكري للطلبة الاستقلاليين، لأن الطلبة الاتحاديين يقومون بهذه المهمة وهم يتوهمون أنهم يحاربون مكون عميل ل"الدولة" نفسها. ففي النهاية، الطلبة الاستقلاليون رغم ما يمكن تسجيله على فكرهم وخطابهم من "محافظة" و"رخاوة"؛ هم تعبير عن جزء من مطامح المجتمع ضد ريعية "الدولة" وسلطويتها ولكن بأدوات ووسائل قد تبدو للبعض بطيئة أو حتى غير مجدية.

تدخلت "الدولة" بشكل مباشر ومارست اعمال عنف في حق الطلاب أدت إلى سقوط شهداء. ولكن يبدو أن هذه العملية، أي العنف المباشر، قد تشوش على الصورة الرمزية للدولة أمام شيوع "موجة حقوق الإنسان" و"الارتهان لنظرة الخارج إلى الوضع الداخلي". مما دفع "الدولة" إلى اختراق مكونات طلابية تشتغل في ظل وضعية تنظيمية غامضة وسرية تُيسر مسألة الاختراق (فصائل القاعديين)، هكذا أفلحت الدولة في الترويج لصورة نمطية حول صراع مقدس بين الإخوان/الرفاق أملا في وقف قوة الإسلاميين المتنامية من جهة، ورغبة في الاغتيال المعنوي للمناضلين الشرفاء في الصف الآخر حتى يسود صوت "الغوغاء" وصوت "الذين يقدمون خدمات بالوكالة للدولة".

وبنفس الاستراتيجية عملت الدولة على اختراق مكونات "الطلبة الصحراويين" ولا يستبعد أن تُخترق حتى "الحركة الثقافية الأمازيغية"؛ لأن كل هذه المكونات تشتغل بدون هيكلة تنظيمية دقيقة وبدون قيادة منتخبة ومضبوطة وبدون مؤسسات داخلية للفحص والتمحيص. وإذا كان الصراع الأول قد طُبع بطابع ديني، فإن الصراع الثاني تم بصدده النفخ في الانتماءات الجغرافية والإثنية والعرقية والثقافية، وهي للإشارة كلها أمور تتجاوز الإنسان، أي أنه لم يخترها.

وبالتالي؛ أصول العنف الجامعي –في إطار فرضيتنا- متصلة بالصراع الدائر بين المجتمع المغربي (الحركة الطلابية إحدى تعبيراته) وبين الدولة التي مازالت تعتبر تكتلا ريعيا وسلطويا لم ينخرط بعد –رغم كل المكتسبات غير المنكورة- في تجسيد فكرة العقد الاجتماعي. ومنه، فالجواب عن سؤال: من الذي أدخل العنف على الجامعة؟ هو من خلال هذه الفرضية وهذا التحليل؛ "الدولة"، لكن عبر استثمار ذكي لسذاجة وسطحية واندفاع بعض عناصر المكونات الطلابية التي انغمرت في "التناقضات الوهمية" المصطنعة أو الهامشية. ولهذا لا غرابة في أن نجد "الجهاز الأمني" للدولة يقف مكتوف الأيدي أمام جماعات "إرهابية" تتقمص شخصية "الطلاب" وتتحرك بالأسلحة البيضاء، في الوقت الذي يعلن فيه ذات الجهاز بشكل دوري تفكيكه لخلايا نائمة.

يبقى السؤال المؤرق؛ ما هو الحل وما هو العلاج؟ ينبغي تشخيص السبب الحقيقي للداء قبل البحث عن الدواء. وفي تقديري، العناصر الغيورة والنبيهة في المكونات الطلابية ينبغي أن تلتفت إلى أن التناقض الحقيقي هو ما يلي:("الدولة"/المجتمع: الظلم/العدل، الاستبداد/الديمقراطية، اغتيال العقل/العقل، الاستفراد بالثروة/عدالة توزيع الثروة، الفوضى والتمزق/الهوية الراسخة والمنفتحة ... إلخ). أما التناقض الموهوم والزائف: رفاق/إخوان، الماركسية/الإسلام، الأمازيغ/العرب ... إلخ، فهو منهك للذات ومؤَبد للاستبداد والاستغلال.



...تابع القراءة