| 0 التعليقات ]








بمناسبة إصلاح الباكالوريا الذي أعلن عنه، والإصلاح المقرر بخصوص شروط القبول في المؤسسات الجامعية؛ يتعين أن نطرح بجدية مشكلة تنظيم الدراسات العليا.

أولا، هناك بعض الحقائق:  

1.       باستثناء أولئك الذين  يتوفر آباؤهم على رأسمال مالي أو ثقافي عالي؛ غالبية شباب اليوم لا يعرفون كيف يختارون المهنة التي ستناسبهم بشكل أفضل.

2.      جزء هام من المهن الموجودة اليوم ستختفي حينما يلج سوق العمل الشباب الذين يدرسون اليوم في الثانويات أو الدراسات الجامعية.

3.      باستثناء قلة قليلة، معظم الشباب الذين يستفيدون من رصيد عائلتهم (سواء على المستوى المالي أو الثقافي) يتوجهون نحو المسار الانتقائي للمدارس الكبرى خوفا من المسار المفتوح الذي يطبع الجامعات.

4.      حينما يفشل المرء في إيجاد مساره الدراسي، من الصعب عليه عمليا الاستدراك في سن متقدمة: في فرنسا، الفشل ليس وسيلة للتعلم، بل هو عنوان نهاية مسار.  

5.      التكوين المستمر(بعد التوظيف)، رغم تناميه في فرنسا، إلا أنه خاضع للمؤسسات الخاصة، ويتسم بفقدانه لأي شرعية أكاديمية، ولأي تحقق جدي للفعالية؛ ومن ثَم فهو لا يساعد على استدراك فشل الدراسات الأولى (=الثانوية أو الجامعية).

ثانيا، يترتب عن هذه الحقائق ما يلي:

1.      التكوين العالي (في الجامعة) لا ينبغي التفكير فيه باعتباره المفتاح الوحيد للولوج إلى الحياة المهنية وضمان الوضع الاجتماعي.

2.      التعلم والتناوب، ينبغي أن يشكلا أنماط التكوين العالي الطبيعي، إلى حدود الدكتوراه.

3.      يجب على  الجامعات  أن تواكب بشكل دائم المسار المهني لطلابها القدامى؛ للتعرف على التعديلات التي لحقت مناهج عملهم، ولكي تصبح، كما هو الحال لبعض المدارس الكبرى، فضاءات للتكوين المستمر حيث يعود الطلاب بشكل منتظم لاكتساب مهارات وكفايات جديدة.

هذا يفترض  إجراء تعديلات جوهرية في الطريقة التي نفكر بها في نظام التعليم العالي:

1.      أولا من الناحية المالية: يجب على الجامعة المطالبة بحصة كبيرة من موارد التعلم مدى الحياة واكتساب المهارات اللازمة لتقديم هذه الخدمات الجديدة.

2.      ثانيا من الناحية اللوجستيكية:  لتقديم هذه الخدمات الجديدة يلزم فتح الجامعات والخزانات والمقاصف وفضاءات التواصل بين الطلاب والأساتذة 16 ساعة في اليوم وعلى مدار السنة.

3.      أخيرا، يجب أن تعتمد مهنة الأستاذ (عند التقويم) على قدرته على تعليم الشباب والطلاب وكبار الموظفين، أكثر من قدرته على إجراء الأبحاث.

ستكون هذه التغييرات صعبة للغاية؛ بيد أن حكامة التعليم العالي والتدريب المهني والتكوين المستمر هي رهانات مترابطة. إذا نجحنا فيها سنعطي لفرنسا في نهاية المطاف وسائل طموحاتها.

* هذه المقالة القصيرة عبارة عن ترجمة (شخصية) لمقالة المفكر الفرنسي جاك أطالي (A quoi servent-ils encore les universités)؟ المنشورة على مدونته الالكترونية  29 يناير 2018 بمناسبة الإعلان عن إصلاح منظومة التعليم في فرنسا.





...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





مخطئ من لا يرى في الصراع المحتدم في المغرب حول السلطة والثروة سواء المادية أو الرمزية (=السياسة)، انعكاسات التناقض التاريخي القائم بين "إدارة الدولة" و"المجتمع". فطالما ظلت إدارة الدولة غير منتخبة وغير محاسبة، فهي تبقى غير مجسدة لإرادة المجتمع الذي تتصدى لإدارة شؤونه، وبالتالي فهي تستمر في استدامة واقع العلاقة المتنافرة معه (رغم كل المساحيق التي تحاول إظهار العكس).

ولهذا، نجد المجتمع -أمام هيمنة إدارة الدولة- لا يقف مكتوف الأيدي. وتختزن تجربته التاريخية في مقاومة عسف إدارة الدولة رصيدا معتبرا تجسد في إبداع العديد من الأفكار والتنظيمات (والاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى في المقاومة).

لننتقل من التجريد إلى التشخيص.

 اليوم نشهد -مع كامل الأسف- على انهيار تدريجي لكافة عناصر مناعة المجتمع  قبل أن يتم استكمال البناء الديمقراطي (حيث تصبح إدارة الدولة، مسؤولة منتخبة، في إطار ملكية برلمانية).

إذا كانت النقابة من أهم آليات المقاومة التي توسلها المجتمع ليدافع عن مصالحه (إذ بها يعبئ ويضغط ويرافع وينتزع الحقوق)، والتي نظم بها تجمعات جماهيرية كبيرة، وأمسك بفضلها بميزان القوى حتى لا يختل لصالح إدارة الدولة؛ في واقع لم يعرف إصلاحا زراعيا ولا سياسة تصنيعية. فإن حال النقابات اليوم ينبئ بما لا يدع مجالا للشك أنها واهنة وغير قادرة على لعب أدوار طلائعية من طينة قيادة دينامية مقاومة المجتمع والنضال الديمقراطي.

 لعبت الحركات الاجتماعية (الوطنية، اليسارية، الإسلامية، الأمازيغية) دورا هاما في توفير مشاتل مغايرة للمدارس/الجامعات، قامت بتشكيل عقول نقدية تجاه ما هو سائد من رؤى تزكي الوضع المختل القائم (طبعا بجرعات إيديولوجية متفاوتة في التطرف، ولكنها عموما عقول تختلف عن غالبية الجماهير المُؤَطرة عبر المدرسة والإعلام الرسميين فقط).

للأسف، ماتت هذه الحركات وبقيت هياكلها وأسماؤها ولن تظهر الانعكاسات الخطيرة لهذه الوفاة (التي يغطيها وجود بعض أجيال المؤسسين والمحيطين بهم في الواجهة) إلا بعد تصدُر الجيل الحالي للمشاهد السياسية والثقافية. وتم الانتقال إلى توليد جمعيات المجتمع المدني التي احتلت مكان الحركات الاجتماعية في التأطير.

تدور أنشطة جمعيات المجتمع المدني حول: بناء المهارات (كيف تتواصل، كيف تضع خريطة إدراكية، كيف تقرأ بسرعة، كيف تنجح في الامتحان، كيف تجتاز مباراة، كيف تدير فريق ... إلخ)، والتحسيس ضد بعض الظواهر (الإدمان على المخدرات، الإدمان الالكتروني، الغش في الامتحانات، تلوث البيئة، مخالفة قوانين السير... إلخ)، والاحتفاء ببعض القضايا والمناسبات (الذكريات الوطنية: الاستقلال، المسيرة الخضراء.. ، المولد النبوي، القضية الفلسطينية... إلخ).

طبعا، هذه الأنشطة مفيدة وتقلص الخسائر. لكنها لا ترقى (سواء من حيث الشكل أو المضمون أو الأفق) إلى وزن الحواضن البانية للوعي النقدي المفارق للطراز المذعن الذي تريده إدارة الدولة لقتل السياسة وتأجيل الديمقراطية الحقة. قد يقول قائل؛ اليوم باتت مراكز الأبحاث هي التي تقوم بهذا الدور. صحيح، بيد أن جمهور مراكز الأبحاث نخبوي ومحدود جدا فضلا عن أن أنشطة هذه المراكز لا تتعدى الحواضر الكبرى (الرباط، الدار البيضاء، فاس، مكناس، طنجة، وجدة، مراكش، أكادير)، أضف إلى هذا انخراط إدارة الدولة في توجيه خط بعض المراكز المؤثرة (غير مراكز الدولة الرسمية).

إلى جانب النقابات والحركات الاجتماعية؛ أفرز المجتمع ليقاوم سياسات إدارة الدولة التي لا تناسبه عبر طليعته الشبيبية المتعلمة: "الحركة الطلابية". كانت الحركة الطلابية تعبر حقا عن فئات واسعة من الطلاب عبر قيادات ذات مصداقية مثقفة ومحيطة بطبيعة المعركة مع إدارة الدولة، ولهذا كانت تؤرق إدارة الدولة وتحرك الشارع وتدفع بعجلة التغيير.  

ماتت الحركة الطلابية كقوة جماهيرية قادرة على الضغط ومنجبة للمواهب والكفاءات والمثقفين والسياسيين والمبدعين. وفقد المجتمع مجددا أحد دعائم المقاومة وهامشا مهما للبناء والعطاء وترميم ما يخلفه تكوين الجامعة المنقوص.

 بقي للمجتمع قلعة أخيرة يحتمي بها هي الأحزاب السياسية النابعة من رحمه. تم إنهاك معظم الأحزاب الحاملة لأصوات المجتمع، بقي حزب كبير يتيم وأحزاب صغيرة. الأحزاب الصغيرة ذات النغمة اليسارية لم تصل بعد إلى مستوى التأثير في ميزان القوى. ولكن كل ديمقراطي متبصر، ينسى لحظة التفكير في الوطن نوع القماش الذي يرتديه، يعي جيدا أن الحزب اليتيم هو عنوان آخر قلعة، وكل المعارك الدائرة اليوم تدفع بالإطاحة بآخر القلاع ليبقى المجتمع عاريا من كل مقاومة.

من المفيد الإشارة إلى أن المجتمع يفقد قلاعه (النقابات، الحركات الاجتماعية، الحركة الطلابية، الأحزاب) بفعل عوامل: داخلية وخارجية. الأولى ذات صلة بالتناقضات الذاتية داخل الحزب، وترتبط أساسا بتحلل مناضليه من قيم النزاهة الأخلاقية أو بافتقادهم للكفاءة الواجبة أو للذكاء السياسي المطلوب. الثانية هي الحصار الذي تفرضه إدارة الدولة  (المخزن)عليه بشتى الوسائل ببث الفرقة فيه وتأليب الإعلام عليه والتنكيل بمناضليه ومنع تظاهراته وحرمانه من حقوقه السياسية وأنصبته المستحقة في المنازلات الانتخابية.
من الطبيعي أن تمارس إدارة الدولة (المخزن) ما مارست لأنها ستموت إذا تحقق ما يرمي إليه المجتمع عبر الهيئات التي يفرزها وضمنها الأحزاب الحقيقية، فحياتها هي في موت الأحزاب، وخصوبة الحياة السياسية للأحزاب الحقيقية في موت إدارة الدولة التقليدية (=رُسو البناء الديمقراطي في ظل ملكية برلمانية حيث تضطلع الأحزاب المنتخبة بسلطات تنفيذية وتشريعية حقيقية).

ولهذا فالاستغراب ينبغي أن ينصرف للتناقضات الذاتية الداخلية (خفوت: النزاهة، الكفاءة، الذكاء) التي تتكامل مع ما يضطلع به العامل الخارجي (إدارة الدولة) من إنهاك وإعطاب.

ولكن لا مناص من فضح هذه الممارسات الرجعية التي تقوم بها إدارة الدولة لإماتة الأحزاب، ولا مهرب من إعادة النظر في المنظومة الحزبية وترتيب بيتها الداخلي، ولا بد من إعادة تلاوة (قل هو من عند أنفسكم).

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





لا شك أن حزب العدالة والتنمية يعيش أصعب أيامه، رغم مرور قرابة شهر على نجاح مؤتمره الوطني. كان محور الجدل القائم لشهور مجسدا في ثنائية غير معبرة هي الشخص/المؤسسات. إذا عدنا إلى الجدل المثار قبيل تنظيم المؤتمر الوطني للحزب سنة 2008، والذي شكل بحسب العديد من المراقبين منعطفا مهما في مسار السلوك السياسي للحزب، يمكن أن نقترب من الخلفيات البعيدة للأزمة الراهنة.

عرف الحزب آنذاك جدلا بين ما أطلق عليه إعلاميا "أتباع الرميد" و"أتباع بنكيران"، وكان توجه الخطين يتمايز على الشكل التالي:

ــ خط الرميد، يجسد الدعوة إلى تصليب الخط السياسي للحزب وتمحيض هويته الديمقراطية والنضال من أجل تعميق الإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي بما يعزز من رصيد الاقتراب من "الملكية البرلمانية" حيث لقاعدة "ربط المسؤولية بالمحاسبة" معنى.

ــ خط بنكيران، يرى بأن الحزب تراجعت انعكاسات مرجعيته الإسلامية على خطابه/سلوكه السياسي في فترة العثماني، لكون الأخير "تطرف" في تمييزه بين الديني والسياسي ونزع نحو منحى يجعل خدمة قضايا "الهوية" يُمر فقط عبر قناة النجاح في "التدبير".

كل التوقعات التي سبقت المؤتمر كانت تشير إلى أن العثماني سيفوز بولاية ثانية، ليس لأنه نجح فقط في تجاوز أزمة تداعيات 16 ماي 2003، ولكن لأنه بحسب متتبعين كان هو "العاصم" من الاستقطاب الداخلي (وإن لم يكن حادا كما هو عليه الحال اليوم)، أي بعبارة أخرى كان يمثل:

ــ خطا ثالثا (بدون أتباع)، يمسك العصا من "الوسط" بين أطروحة "الهوية أولا" (=بنكيران) وأطروحة "الديمقراطية أولا" (=الرميد). وحسب بعض التحليلات الصحفية لمنتمين إلى الحزب والتي نُشرت آنذاك قبل المؤتمر، لم يكن العثماني صاحب أطروحة في العمل السياسي؛ فهو فعلا قام بتأصيل جيد للتمييز بين الديني والسياسي خلاصته أن في السياسة ننشغل بأمور الشأن العام ونشتغل بأدوات السياسة، ولكن ــ يتساءل أولئك المتتبعين من الداخل ــ بأي مضمون سنشتغل في العمل السياسي في واقع مغربي منحدر وبعيد عن مرحلة "استقرار الحياة الديمقراطية"؛ هل سنناضل من أجل المزيد من الدمقرطة أم سنُدبر فقط ما هو قائم (كسائر الموظفين المأجورين)؟

كانت التحليلات الإعلامية السائدة (من داخل البيت الحزبي) تعتبر أن العثماني صاحب موقف غامض ومتردد وبراغماتي (في الوقت الذي يتحيز الخطان الآخران لقضايا مبدئية من قبيل "الهوية" و"الديمقراطية")، لذا فهو يقترب من نموذج "التدبير" بلا قلق وبلا إزعاج، وهي أطروحة مناسبة لمرحلة اكتمال ورش البناء الديمقراطي، وليس لمرحلة "الانتقال إلى الديمقراطية". على كل حال، المؤتمر الوطني حسم خيار الحزب  بتبني  أطروحة "النضال الديمقراطي"، التي كان خط "الرميد" (الذي تنازل في مؤتمر يوليوز 2008 عن منافسات الأمانة العامة) ينفرد بالدعوة إليها علانية.

لكن، في النهاية بعد سنتين ونصف في (20 فبراير 2011) وجدنا العثماني (مع بعض داعميه) والرميد (مع بعض المنسجمين مع خطه) جنبا إلى جنب في المسيرات التي "تحسم" موقفها في أنه "لا ديمقراطية بدون ملكية برلمانية".

بينما بنكيران الذي كان منذ سنة 2000 ينخرط في معارك كبيرة ضد قضايا "الميوعة" و"العلمانية" ويعتبر بأن الحركة الإسلامية جاءت لترسخ "التدين في مؤسسات الدولة"؛ توجه منذ 2008 نحو الانخراط في معارك جديدة ضد "التحكم" الذي أصبح العدو الجديد الذي يوظف العلمانية والفساد بواسطة الاستبداد للإبقاء على الأمور كما هي وحرمان العدالة والتنمية من حصصه السياسية المشروعة.

إذن، دفع سياق 2011 الخطوط الثلاثة إلى تحولات معتبرة، يمكن رصدها فيما يلي:

ــ خط بنكيران؛ أي خط مناهضة "خصوم الهوية" وترسيخ المرجعية الإسلامية في مؤسسات الدولة، تحول إلى مناهضة "التحكم في طبعته الأولى من 2007 إلى 2012" ومناكفة "خصوم مشاركة العدالة والتنمية في الحكومة"؛ قبل أن ينتقل لاحقا، بعد نجاح العدالة والتنمية في انتزاع رئاسة الحكومة في سياق معروف، إلى محاربة خصوم "الحياة الديمقراطية السليمة"  (=التحكم في طبعته الثانية ابتداء من 2013). توازى هذا الموقف السياسي مع نضوج الموقف الفكري بخصوص المرجعية الإسلامية، حيث صار (بنكيران) يعتبر أن المقصود بها انطلاق الأفراد من قيم (الصدق، الأمانة، التجرد، النزاهة... إلخ) وليس "تديين" المؤسسات كما كان يؤمن في السابق. وهو نفس الموقف الفكري السابق للعثماني والمشروح في مقال كُتب عام 2005 ونُشر في كتاب (الدين والسياسة: تمييز لا فصل) عام 2008 (عكس ما ذهب إليه مصطفى الفن في إحدى مقالاته).

ــ خط الرميد، وجد السياق منسجما مع اطروحته فانتهز الفرصة ليقبل على بطولات جسدت انسجامه مع موقفه السياسي تجلى أبرزها في احتجاجه بصراحة وعلانية على موقف الأمانة العامة، وتأطيره لمحاضرات عديدة يعلن فيها أن موعد "الديمقراطية=الملكية البرلمانية" قد حان.

ــ خط العثماني؛ أكد عبر هذه المحطة أن اختزاله في أطروحة "التدبير" غير صحيح. ولهذا اقترب سياسيا من موقف الرميد.

المفاجأة ستقع في 2017، هذه الخطوط الثلاثة ستعرف انقلابات "على الرأس": 
ــ خط الرميد وخط العثماني؛ تحالفا سياسيا في أطروحة مواصلة "التدبير" الحكومي وحماية "التدبير" المحلي بدون أفق ديمقراطي. مع تسجيل اختلافهما الفكري؛ فالرميد معروف بتشدده في فهم المرجعية الإسلامية بخلاف العثماني.

ــ خط بنكيران؛ تبنى نسبيا من الناحية السياسية أطروحة الرميد الأولى التي نادى بها قبل 2008 (أي المطالبة بالإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي بجرعات معتبرة)، وفكريا أطروحة العثماني المتمثلة في أن المرجعية الإسلامية لا شأن أن لها والخطاب السياسي للحزب أو السلوك السياسي للحكومة/الجماعات وإنما تهُمُ البناء القيمي للفرد لكي يكون محصنا ضد أهواء الجاه والمال.

لنستجمع ما تقدم من رصد في جداول تجميعية مكثفة:



الرميد
الموقف السياسي
الموقف الفكري
قبل 2008
الديمقراطية أولا
=إصلاح سياسي ودستوري ومؤسساتي
المرجعية الإسلامية
= محاربة الفساد السياسي والفساد الأخلاقي (الخمارات، العري... إلخ).
في 2011
لا ديمقراطية بدون ملكية برلمانية
المرجعية الإسلامية
= محاربة الفساد السياسي والفساد الأخلاقي (الخمارات، العري... إلخ).
في 2017
التدبير أولا
= تدبير الشأن الحكومي والمحلي في إطار المتاح وتحقيق إنجازات رقمية قدر المستطاع.
المرجعية الإسلامية
= محاربة الفساد السياسي والفساد الأخلاقي (الخمارات، العري... إلخ).



العثماني
الموقف السياسي
الموقف الفكري
قبل 2008
التدبير أولا
= تدبير الشأن الحكومي والمحلي في إطار المتاح وتحقيق إنجازات رقمية قدر المتاح والمستطاع.
المرجعية الإسلامية = اتصاف الأفراد بخصال الأمانة والنزاهة والصدق وحسن النية خوفا من الله والدار الآخرة.
في 2011
الديمقراطية أولا
=إصلاح سياسي ودستوري ومؤسساتي
المرجعية الإسلامية = اتصاف الأفراد بخصال الأمانة والنزاهة والصدق وحسن النية خوفا من الله والدار الآخرة.
في 2017
التدبير أولا
= تدبير الشأن الحكومي والمحلي في إطار المتاح وتحقيق إنجازات رقمية قدر المتاح والمستطاع.
المرجعية الإسلامية = اتصاف الأفراد بخصال الأمانة والنزاهة والصدق وحسن النية خوفا من الله والدار الآخرة.



بنكيران
الموقف السياسي
الموقف الفكري
قبل 2008
الهوية أولا
المرجعية الإسلامية = محاربة الفساد الأخلاقي: العري والمهرجانات والربا والخمر والقمار... إلخ.
في 2011
الديمقراطية = مشاركة العدالة والتنمية في الحكومة
المرجعية الإسلامية = محاربة الفساد السياسي.
. توظيف الدين في الخطاب السياسي (الله هو الرازق، الجنة عند الله... إلخ).
في 2017
الديمقراطية أولا
= عدم التراجع عن الإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي

المرجعية الإسلامية = اتصاف الأفراد بخصال الأمانة والنزاهة والصدق وحسن النية خوفا من الله والدار الآخرة.



يبدو أن الخط  الذي عرف انقلابا غير مسبوق  في موقفه السياسي هو الرميد. أما العثماني فقد عُرف دائما، كما يقول العديد من المراقبين من داخل الحزب، بغموضه و"تردده" و"براغماتيته". بينما بنكيران استخلص أجود ما لدى الاثنين واستثمره بطريقته الخاصة: الموقف الفكري للعثماني بخصوص مفهوم المرجعية الإسلامية، كما استفاد من زبدة الموقف السياسي لغريمه الرميد المتمثل في العض بالنواجذ على الإصلاح (السياسي والمؤسساتي، بل والدستوري كما جاء في خطابه في ملتقى الشبيبة 2017 في فاس) بدون أن يرقى إلى الإيمان بالملكية البرلمانية. ولكن الدرس الكبير الذي نتلقفه هنا هو أن المواقع (رأس الأمانة العامة، راس الحكومة، رأس وزارة هامة) لها تأثير كبير على المواقف.

...تابع القراءة

| 1 التعليقات ]





يثبت بن نبي في كل مرة أنه فلتة، فهو يناقش جوانب في محيط علم الاقتصاد في كتاب (المسلم في عالم الاقتصاد)، ويطرق باب علم الاجتماع إذ يتناول سنن انحلال شبكة العلاقات الاجتماعية في كتاب (ميلاد مجتمع)، ويلامس ميادين علم النفس في سياق معالجته ل(مشكلة الثقافة)، وهو قبل كل هذا مهندس كهربائي وصحفي في جريدة (لوموند) الفرنسية.

انشغل في كتاب (ميلاد مجتمع) بمسألة في غاية الأهمية تتصل بتحولات العلاقات الاجتماعية. استدعى في ذلك التجربة الإسلامية التاريخية للتوضيح والعبرة، فكانت تلك التجربة أحسن بيان.

العلاقات الاجتماعية السليمة هي تلك التي تكون فيها الأفكار فاعلة ومؤطرة وجامعة لعلاقات الأشخاص مما يمنحهم قدرة على إنتاج الأشياء التي تتطلبها معارك الحياة اليومية. هي التي تكون فيها العلاقات بين الأشخاص مبنية على أهداف مشتركة وسامية.

أما العلاقات الاجتماعية الفاسدة فهي التي تصاب  فيها الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبا أو مستحيلا، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين، يقول بن نبي: "في حالة الصحة يكون تناول المشكلات من أجل علاجها هي، أما في الحالة المرضية فإن تناولها يصبح فرصة لتورم (الذات) وانتفاشها، وحينئذ يكون حلها مستحيلا، لا للفقر في الأفكار أو في الأشياء، ولكن لأن شبكة العلاقات لم تعد أمورها تجري على طبيعتها".

عندما تفسد شبكة العلاقات الاجتماعية ويكون المجتمع مريضا، لا يهتم أحد بالمشكلات الواقعية، بل يكون الاهتمام منصبا على قضايا تجريدية خيالية، كما كان الوضع في عهد الانحطاط وفي كل عهود الانقباض، فعوض أن يطرح نخبة المجتمع (الفقهاء) آنذاك مشاكل الاستبداد السياسي والاجتهاد الفكري الفقهي وغير ذلك راحت تلك "النخبة" تطرح مشكلات من قبيل التساؤل حول "جنس الملائكة" أو "حكم التوضؤ بعد وطء البهيمة"... إلخ.

وفي محاولة منه لتوظيف البرهان بالخلف، يقول بن نبي: بوسعنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يحدث ــ في مجتمع مريض ــ لو أن خليفة من طراز عمر بن الخطاب أراد أن يعزل رجلا كخالد بن الوليد من قيادة جيش الشام !! إن محاولة كهذه كفيلة بزلزلة العالم الإسلامي لو أنها حدثت بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون فحسب. ولكن (الأنا) الإسلامية كانت في العهد الأول سليمة سوية، فكان (فعل) عمر دون عقدة، وكان (رد فعل) خالد دون عقدة ايضا. لأن علاقاتهما كانت سوية منزهة".

إذا فسد عالم الأشخاص في مرحلة ما، فالأفكار لا تقوم بدورها والأشياء تفقد فعاليتها الاجتماعية. فمنذ القرون الغابرة، اكتشف عالم مسلم "الدورة الدموية" واكتشف عالم آخر "سنن العمران"؛ ولكن كل الاكتشافات العلمية التي تحتضن أفكارا جديدة وتنتج أشياء بديعة لم يكن لها صدى آنذاك في المجتمع لأن بنية الاستقبال كانت متردية. وفي المقابل، نجد -على سبيل المثال- أن بعد "ابن خلدون" تقريبا بقرن،  جاء  "ميكيافيل" وردد خلاصات شبيهة ل"المقدمة" في كتاب "الأمير"، ولكن لما توفرت له بنية استقبال جيدة تضم حاضنة اجتماعية تتقوى شبكة علاقاتها الاجتماعية صار اسم "ميكيافيل" محلقا في سماء العلوم السياسية مع الانقلابات العميقة التي أحدثها فكره في ذهنية المجتمع الأوروبي.

لن نفهم جيدا ما يقوله بن نبي في هذا الكتاب إلا باستحضار التنظيمات الاجتماعية (حركات، أحزاب، نقابات، جمعيات كبيرة) فهي مجتمعات مصغرة تعتريها سنن نمو شبكة العلاقات الاجتماعية. 

فعندما يلتئم أبناء التنظيم الاجتماعي حول فكرة مفارقة مؤطرة لأهدافهم المشتركة يكون العمل منتجا ومفيدا للمجتمع وتكون المردودية مرتفعة. أما حينما تتضخم ذوات بعض الأشخاص وتغلب نزعاتهم ومصالحهم الشخصية المصلحة العليا (=مضمون الفكرة الجامعة) التي من أجلها بُنيَ التنظيم أصلا، تبدأ شبكة العلاقات الاجتماعية المشكلة له في الانحلال، وتكون محطة الوصول إلى نهاية التنظيم قريبة (نهايته كفكرة، أما الهيكل فيبقى). آنذاك المبادرات الفردية اللامعة التي تبشر بأفكار جديدة أو إسهامات رائقة لن يكون لها أي صدى لأن بنية الاستقبال (داخل التنظيم) للأفكار الجديدة صارت في عداد الموتى!

قرأ بن نبي منذ نعومة أظافره، منذ أن كان عمره 16 سنة، ابن خلدون وشغف به. فراح يتأمل في الواقع سنن وفاة مجتمع، تماما كما تأمل ابن خلدون سنن وفاة دولة، ولكن حري بنا نحن لنستفيد أن نستخلص الدرس الكبير لنمنع وفاة (روح) التنظيمات (وليس هياكلها) فهي أس المجتمعات المعاصرة. ولكن هيهات أن يقع الإنقاذ إذا فات الأوان!  

...تابع القراءة