| 0 التعليقات ]





مخطئ من لا يرى في الصراع المحتدم في المغرب حول السلطة والثروة سواء المادية أو الرمزية (=السياسة)، انعكاسات التناقض التاريخي القائم بين "إدارة الدولة" و"المجتمع". فطالما ظلت إدارة الدولة غير منتخبة وغير محاسبة، فهي تبقى غير مجسدة لإرادة المجتمع الذي تتصدى لإدارة شؤونه، وبالتالي فهي تستمر في استدامة واقع العلاقة المتنافرة معه (رغم كل المساحيق التي تحاول إظهار العكس).

ولهذا، نجد المجتمع -أمام هيمنة إدارة الدولة- لا يقف مكتوف الأيدي. وتختزن تجربته التاريخية في مقاومة عسف إدارة الدولة رصيدا معتبرا تجسد في إبداع العديد من الأفكار والتنظيمات (والاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى في المقاومة).

لننتقل من التجريد إلى التشخيص.

 اليوم نشهد -مع كامل الأسف- على انهيار تدريجي لكافة عناصر مناعة المجتمع  قبل أن يتم استكمال البناء الديمقراطي (حيث تصبح إدارة الدولة، مسؤولة منتخبة، في إطار ملكية برلمانية).

إذا كانت النقابة من أهم آليات المقاومة التي توسلها المجتمع ليدافع عن مصالحه (إذ بها يعبئ ويضغط ويرافع وينتزع الحقوق)، والتي نظم بها تجمعات جماهيرية كبيرة، وأمسك بفضلها بميزان القوى حتى لا يختل لصالح إدارة الدولة؛ في واقع لم يعرف إصلاحا زراعيا ولا سياسة تصنيعية. فإن حال النقابات اليوم ينبئ بما لا يدع مجالا للشك أنها واهنة وغير قادرة على لعب أدوار طلائعية من طينة قيادة دينامية مقاومة المجتمع والنضال الديمقراطي.

 لعبت الحركات الاجتماعية (الوطنية، اليسارية، الإسلامية، الأمازيغية) دورا هاما في توفير مشاتل مغايرة للمدارس/الجامعات، قامت بتشكيل عقول نقدية تجاه ما هو سائد من رؤى تزكي الوضع المختل القائم (طبعا بجرعات إيديولوجية متفاوتة في التطرف، ولكنها عموما عقول تختلف عن غالبية الجماهير المُؤَطرة عبر المدرسة والإعلام الرسميين فقط).

للأسف، ماتت هذه الحركات وبقيت هياكلها وأسماؤها ولن تظهر الانعكاسات الخطيرة لهذه الوفاة (التي يغطيها وجود بعض أجيال المؤسسين والمحيطين بهم في الواجهة) إلا بعد تصدُر الجيل الحالي للمشاهد السياسية والثقافية. وتم الانتقال إلى توليد جمعيات المجتمع المدني التي احتلت مكان الحركات الاجتماعية في التأطير.

تدور أنشطة جمعيات المجتمع المدني حول: بناء المهارات (كيف تتواصل، كيف تضع خريطة إدراكية، كيف تقرأ بسرعة، كيف تنجح في الامتحان، كيف تجتاز مباراة، كيف تدير فريق ... إلخ)، والتحسيس ضد بعض الظواهر (الإدمان على المخدرات، الإدمان الالكتروني، الغش في الامتحانات، تلوث البيئة، مخالفة قوانين السير... إلخ)، والاحتفاء ببعض القضايا والمناسبات (الذكريات الوطنية: الاستقلال، المسيرة الخضراء.. ، المولد النبوي، القضية الفلسطينية... إلخ).

طبعا، هذه الأنشطة مفيدة وتقلص الخسائر. لكنها لا ترقى (سواء من حيث الشكل أو المضمون أو الأفق) إلى وزن الحواضن البانية للوعي النقدي المفارق للطراز المذعن الذي تريده إدارة الدولة لقتل السياسة وتأجيل الديمقراطية الحقة. قد يقول قائل؛ اليوم باتت مراكز الأبحاث هي التي تقوم بهذا الدور. صحيح، بيد أن جمهور مراكز الأبحاث نخبوي ومحدود جدا فضلا عن أن أنشطة هذه المراكز لا تتعدى الحواضر الكبرى (الرباط، الدار البيضاء، فاس، مكناس، طنجة، وجدة، مراكش، أكادير)، أضف إلى هذا انخراط إدارة الدولة في توجيه خط بعض المراكز المؤثرة (غير مراكز الدولة الرسمية).

إلى جانب النقابات والحركات الاجتماعية؛ أفرز المجتمع ليقاوم سياسات إدارة الدولة التي لا تناسبه عبر طليعته الشبيبية المتعلمة: "الحركة الطلابية". كانت الحركة الطلابية تعبر حقا عن فئات واسعة من الطلاب عبر قيادات ذات مصداقية مثقفة ومحيطة بطبيعة المعركة مع إدارة الدولة، ولهذا كانت تؤرق إدارة الدولة وتحرك الشارع وتدفع بعجلة التغيير.  

ماتت الحركة الطلابية كقوة جماهيرية قادرة على الضغط ومنجبة للمواهب والكفاءات والمثقفين والسياسيين والمبدعين. وفقد المجتمع مجددا أحد دعائم المقاومة وهامشا مهما للبناء والعطاء وترميم ما يخلفه تكوين الجامعة المنقوص.

 بقي للمجتمع قلعة أخيرة يحتمي بها هي الأحزاب السياسية النابعة من رحمه. تم إنهاك معظم الأحزاب الحاملة لأصوات المجتمع، بقي حزب كبير يتيم وأحزاب صغيرة. الأحزاب الصغيرة ذات النغمة اليسارية لم تصل بعد إلى مستوى التأثير في ميزان القوى. ولكن كل ديمقراطي متبصر، ينسى لحظة التفكير في الوطن نوع القماش الذي يرتديه، يعي جيدا أن الحزب اليتيم هو عنوان آخر قلعة، وكل المعارك الدائرة اليوم تدفع بالإطاحة بآخر القلاع ليبقى المجتمع عاريا من كل مقاومة.

من المفيد الإشارة إلى أن المجتمع يفقد قلاعه (النقابات، الحركات الاجتماعية، الحركة الطلابية، الأحزاب) بفعل عوامل: داخلية وخارجية. الأولى ذات صلة بالتناقضات الذاتية داخل الحزب، وترتبط أساسا بتحلل مناضليه من قيم النزاهة الأخلاقية أو بافتقادهم للكفاءة الواجبة أو للذكاء السياسي المطلوب. الثانية هي الحصار الذي تفرضه إدارة الدولة  (المخزن)عليه بشتى الوسائل ببث الفرقة فيه وتأليب الإعلام عليه والتنكيل بمناضليه ومنع تظاهراته وحرمانه من حقوقه السياسية وأنصبته المستحقة في المنازلات الانتخابية.
من الطبيعي أن تمارس إدارة الدولة (المخزن) ما مارست لأنها ستموت إذا تحقق ما يرمي إليه المجتمع عبر الهيئات التي يفرزها وضمنها الأحزاب الحقيقية، فحياتها هي في موت الأحزاب، وخصوبة الحياة السياسية للأحزاب الحقيقية في موت إدارة الدولة التقليدية (=رُسو البناء الديمقراطي في ظل ملكية برلمانية حيث تضطلع الأحزاب المنتخبة بسلطات تنفيذية وتشريعية حقيقية).

ولهذا فالاستغراب ينبغي أن ينصرف للتناقضات الذاتية الداخلية (خفوت: النزاهة، الكفاءة، الذكاء) التي تتكامل مع ما يضطلع به العامل الخارجي (إدارة الدولة) من إنهاك وإعطاب.

ولكن لا مناص من فضح هذه الممارسات الرجعية التي تقوم بها إدارة الدولة لإماتة الأحزاب، ولا مهرب من إعادة النظر في المنظومة الحزبية وترتيب بيتها الداخلي، ولا بد من إعادة تلاوة (قل هو من عند أنفسكم).

0 التعليقات

إرسال تعليق