| 0 التعليقات ]





حسن البنا، رجل لا يمكن ذكر القرن العشرين بدونه، داعية لا يمكن لكل من خالطه إلا أن يحبه، أحيى سنة حميدة في العمل الإسلامي هي العمل الجماعي المنظم. كُتبت عنه صفحات عديدة، فما الداعي للكتابة عنه في ذكراه السادسة و الستين؟
هي دروس منسية من تراثه الدعوي الثري، فيها نَفَس التجديد بحاجة لاستذكارها لإضاءة  العمل الإسلامي من جديد. فوائد عظيمة ذات صلة  بالرفق بالناس و سعة النظر و الالتفات للوسائل الحيوية لخدمة الرسالة  (الفن) علاوة على إدمان القراءة في العلوم الإنسانية لتجويد العمل و الارتقاء بالوسيلة.

1.سعة النظر و الرفق بالناس:

" ذهب الأستاذ البنا إلى مديرية البحيرة (بمصر) في إحدى رحلاته المتواصلة و استضافه أحد الأثرياء في تلك المديرية و أحد وجهائها، و ما كان له به سابق علم. فلما جلس إليه و استمع منه، قال: إن ما تحدثني به شيء جميل و إني لرجل خير، أحسن إلى الفقير و أساعد المحتاج و أصلي و أصوم و لكن فيَ عيب كبير أظن أنني لا أستطيع الإقلاع عنه.
قال الأستاذ: و ما هو العيب الذي لا تستطيع الإقلاع عنه؟
قال الثري: إني أشرب الخمر أحيانا، و هذا ما يمنعني من الانضمام إلى الجماعة.
قال له الأستاذ: تعال إلينا، إننا نقبلك بحالتك. فذُهل الرجل.
ليس معنى هذا أن الإمام الشهيد يقر الرجل على شرب الخمر، كلا و لكنه كان ينظر إلى بعيد. لو ترك الرجل على حاله لاستمر في شرب الخمر و استمرأه. و لكنه إذا انضم إلى الجماعة و خالط أفرادها رأى نكر ما يفعل، فالبيئة الصالحة و الكلمة الحسنة و النصيحة الهادفة الهادئة، كفيلة بأن يقلع الرجل عن ذلك. و هذا ما حدث.(عمر التلمساني، ذكريات.. لا مذكرات. ص:274)
إنه الموقف الرزين، الذي على الدعاة و عموم المسلمين أن يقفوه في كل عصر و حين، يُذَكر بالمشاهد الجليلة التي تعامل فيها رسولنا الكريم بالحكمة و الموعظة الحسنة مع المتعثرين في تفعيل مقتضيات الإسلام في سلوكهم و من ذلك الصحابي (مدمن الخمر)  الذي شهد له المصطفى أمام الصحابة بأنه يحب الله و رسوله. إنها الرحمة بالضعف البشري مع الحرص على عدم فقدان أي منتسب لدائرة هذا الدين.
هذه المعاني الموحية بحقيقة سمت هذا الدين هي التي تُغيظ "داعش" و أمثالها و لا يريد لها المستفيدون من تشويه صورة الإسلام بتسليط الأضواء على "جرائم إسلام داعش" أن تُعرف و تُذاع خصوصا هواة الإقصاء و الاستئصال؛ لأنها تعبر عن الإسلام الحق الذي أنزل الله و جاء به محمد صلى الله عليه و سلم.

2. الفن في خدمة الرسالة:

يحكي الدكتور محمود عساف: في يوم من أيام صيف عام 1945، ذهبتُ إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم.. قال لي: قم بنا نذهب إلى البنك العربي لنفتح حسابا للإخوان هناك. إذ لم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتى ذلك الوقت.
توجهنا إلى مكتب رئيس البنك و كان يتبع سياسة الباب المفتوح للعملاء، و يستطيع أي عميل أن يدخل إليه بغير استئذان، دخلنا و ألقينا السلام، و جلسنا على أريكة مواجهة للمكتب، و كان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب و ظهره منحرف نحونا، و كان يتحدث مع رئيس البنك و في انتظارنا صامتين إلى أن تنتهي تلك المقابلة، فاجأنا رئيس البنك بقوله: "أهلا و سهلا" بصوت عال جعل الجالس إلى مكتبه ينظر نحونا، و إذ بذلك الجالس ينتفض واقفا و يهتف: حسن بك؟ أهلا و سهلا يا حسن بك، ثم تقدم نحونا مصافحا الإمام ثم إياي. ثم جلس على مقعد مجاور للإمام و قال:" أنا أنور وجدي.. المشخصاتي.. يعني الممثل.. طبعا أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم، في حين أني و الله أقرأ القرآن و أصلي كلما كان ذلك مستطاعا".
قال له الأستاذ البنا: "يا أخ أنور أنتم لستم كفرة و لا عصاة بحكم عملكم، فالتمثيل ليس حراما في حد ذاته، و لكنه حرام إذا كان موضوعه حراما. و أنت و إخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام و مسرحيات تدعو إلى مكارم الأخلاق، بل إنكم تكونون أكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من الوعاظ و أئمة المساجد. إني أرحب بك و آمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة و الدعوة إلى الله".
عندما سمع أنور وجدي هذا الرد الجميل من الأستاذ البنا بكى و قبَل يده و رأسه. بعدها رأينا لأنور وجدي "ليلى بنت الفقراء". (عصام تليمة، حسن البنا و تجربة الفن، مكتبة وهبة. الطبعة الأولى: 2008. ص: 39-40).
حسن البنا لم يقف عند حدود ربط علاقات طيبة مع الفنانين بل حرص على اقتحام هذا المجال الحيوي (الفن) و إنشاء مجموعة من فرق المسرح منذ الثلاثينات التي نشطت و قدمت عددا من المسرحيات للناس، منها ما هو تاريخي، و منها ما هو خلقي، و معظمها كان من اللون الفكاهي النظيف الراقي. (نفس المرجع. ص: 7).
اليوم، بعدما بات واضحا المقدار الذي يساهم به الفن في تشكيل وجدان الإنسان و أحلامه و اختياراته، يمكن الجزم بأن العمل الإسلامي لا يمكنه بلوغ مراميه إلا باقتحام الساحة الفنية و الانخراط  في عملية إيجاد البدائل لما هو موجود من منتجات فنية رديئة المبنى و المعنى.

3. إدمان القراءة في العلوم الإنسانية:

 المجددون – عادة - لا يكتفون بتخصص واحد (العلوم الشرعية) بل يغرفون من كل العلوم قدر المستطاع للاستفادة من الحكمة البشرية و بالخصوص في العلوم الإنسانية قصد تجويد الخطاب الدعوي و تجديده باستمرار. و الأستاذ حسن البنا، باعتباره من أبرز حملة لواء التجديد في القرن العشرين، لم يشذ عن ديدن المجددين.
ألمح الأستاذ أبوزيد المقرئ الإدريسي في محاضرة (منشورة على اليوتوب) حول الخطاب الدعوي عندما تناول أهمية البعد التجديدي فيه، إلى أن أول رسالة جامعية (الماجستير) كُتبت عن الأستاذ حسن البنا سنة 1952 من طرف الباحث يحيى حقي جاء فيها أن الأستاذ البنا كان يواظب على التردد باستمرار على المكتبة لتلقف جديد المترجمات إلى العربية  في العلوم الإنسانية  (لأنه كان يتقن لغة واحدة هي اللغة العربية) و كان يلتهم ما يجده ليلتها.  
حرصُ الأستاذ البنا على قراءة ما تصل إليه يده من كتابات في العلوم الإنسانية (علم النفس، علم الاجتماع..) يعكس إيمانه القوي بأهمية توظيف معطيات هذه العلوم في فهم أعمق للمجتمع و نفسيات أفراده و الآليات المُمَكنة من النفاذ إلى أعماقه أي الاستفادة من إضاءاتها المتعلقة بكيفية التعامل مع الناس قصد التأثير فيهم إيجابا. و في هذا درس بليغ للدعاة المعاصرين يؤكد أن لا نجاح للخطاب الدعوي اليوم إلا بعد القيام بتجديده و تجويده  و أن ذلك لن يتأتى ذلك إلا بالاستفادة من الخبرة البشرية  في مجال العلوم الإنسانية طبعا دون إغفال المرجعية القرآنية و الهدي النبوي.

بعد مرور ستة و ستين سنة على اغتيال الأستاذ حسن البنا ( في 12  فبراير 1949 )، نثير من جديد هذه الإشارات اللطيفة من سيرته و مسيرته الدعوية خصوصا بعدما تميع المشهد الإسلامي بحركات استخباراتية إرهابية متطرفة تنسف المعمار الذي بناه الدعاة و المصلحون طيلة العقود الماضية و تشوه دعوة الإسلام السمحة، إشارات تؤكد كلها أن رسالة الحركة الإسلامية المعاصرة منذ المؤسس الأول (حسن البنا) أشرف و أنبل من أن تخوض  معارك وهمية و تستعدي كل الإنسانية.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




محور تجديد الوسائل في العمل الإسلامي يكمن في ذلك البحث الدائب عن كل جديد مفيد لبث الرسالة في أوساط أكبر عدد ممكن من الناس. و الدعاة الصادقون، الذين يغارون على الرسالة، يؤرقهم دائما سؤال تجديد الوسائل.
أحد هؤلاء، الشيخ راشد الغنوشي دائما ما يدعو الشباب الغيور على العمل الإسلامي إلى اقتحام شعب العلوم الإنسانية و الاجتماعية (علم النفس، علم الاجتماع، علم الاقتصاد) لاستخدام آلياتها المهمة في فهم أعمق و تحليل أدق لطبيعة مجتمعاتنا، لتوظيف هذه التحليلات في اختيار الوسائل الأنجع للتدسس بلطف إلى نفوس الناس و التأثير في حياتهم إيجابا. يقول الأستاذ راشد: "بعد انتهاء الحرب الباردة أصبح الاقتصاد يمثل أهم ميدان في الصراع الدولي، و هذا ما يجعل الشباب الإسلامي مدعًوا لأن يتجه إلى الميدان الاقتصادي الحر بتأسيس الشركات و التعاونيات، و أن يعتبر هذا الميدان من ميادين الجهاد الإسلامي المعاصر".( مسيرة الصحوة الإسلامية: نقد و تقويم. ص: 22. الطبعة الأولى. مركز الراية.  2005 ).
"من مظاهر القصور في استيعاب الواقع المحلي و الدولي ضعف تخصصات الإسلاميين في المجالات العلمية المتعلقة بتشخيص الظواهر الإنسانية كالاقتصاد و السياسة و الاجتماع و الصحافة و الفلسفة و التاريخ و الجغرافية و علم النفس و التربية و الأنتربولوجيا و السينما و الآداب و الفنون، مقابل إقبالهم على العلوم التطبيقية التي – على أهميتها – تغوص في الجزئيات و لا تسعف كثيرا في رسم الاستراتيجيات الكبرى". (ص:94)
"إنه لمكسب عظيم أن تربي –الحركة الإسلامية- الشباب الصالح في مجتمع يزخر بالإغراءات و لكن هذه التربية نفسها ينبغي ألا تكون معزولة عن استراتيجية الحركة الإسلامية في التغيير في المجتمع.(ص:196) خذ مثلا الطلبة المنتمين إليها، فهي لا توجههم إلى اختيارات و تخصصات محددة لخدمة خطتها. و آية ذلك ما ترى عليه الإسلاميين من إقبال على الكليات العلمية و التخصصات الطبية و الهندسية، لسبب واحد هو الإغراءات المالية التي تقدمها للخريجين و تضاءلت بذلك العناصر الإسلامية في الكليات الأدبية و التخصصات الإنسانية". (ص:197)
 واضح من كلام رئيس أكبر حركة إسلامية بتونس الشقيقة، أن  ضعف الاشتغال على الآليات الحديثة في العمل الإسلامي يشكل حجر عثرة يعيق وصول الرسالة إلى أفئدة أكبر فئة ممكنة من الناس. فالفتوحات المهمة التي شهدتها العلوم الإنسانية منذ القرن الأخير، كفيلة بتمتيع الحركة الإسلامية بنظرة أجود لطبيعة المشكلات الحقيقية التي تعاني منها مجتمعاتنا و من ثَم طبيعة الحلول المقترحة لمقاربة هذه المشاكل.
 من الدعاة الموفقين -كذلك- الذين يحملون هَمَ التجديد في الخطاب الدعوي، الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد الذي طالما نادى بدوره إلى توظيف البدائل الجديدة في خدمة واجب تذكير الناس بربهم.
"أجمع الفقهاء في أسلوب انتقادهم في منابر الوعظ، على الحديث عن فساد الزمان و الحديث عن كل الحركات الباطلة و المبطلة، التي تقوم هنا و هناك، فتجد الفقيه على منبره مرة يرد على هذه الصحيفة الاشتراكية، و مرة يواجه هذه الاستمارة النسوية، و مرة يرد على هذا المذيع التلفزيوني، و مرة ينبه الناس إلى كتاب ظهر لسلمان رشدي أو لغيره.. طبعا هذا شيء من المدافعة المطلوبة شرعا، و هذا باب من أبواب الجهاد عظيم. و لكن متى يفكر الداعية التقليدي قبل أن يكتب سلمان رشدي رواية فاجرة و يقوم هو بلعنها على المنبر و تحريم قراءتها على المسلمين، متى يفكر أن يفكر أن ينشئ ناديا فكريا، و أن يحتضن فيه شباب الأدب و هم مازالوا مراهقين عندما يكون عند الشباب الاستعداد المفتوح لأن يحتضن من أي منبر، ثم ينظم ندوات أدبية، ثم يتعاون بالمال الذي يجمعه لإنشاء مطبعة، ثم يقوم بطباعة هذه الأعمال الأدبية، ثم يراعي هؤلاء الشباب حتى يصبحوا عندما يصلون إلى سن اشتداد العود و نضج التجربة الأدبية مبدعين يكتبون الروايات، يملؤون بها الساحة و يقدمون بها البديل؟ و الشاب الذي لا بد له أن يقرأ الرواية، و الفتاة المراهقة التي لا بد لها أن تقرأ الرواية، لا بد لهما  من شيء من الخيال و الهيمان، لا يستطيعان أن يقرآ كتابا فكريا جادا، فيجدان  هذه الرواية، يستغنيان بها عن أمثال سلمان رشدي". (المقرئ الإدريسي أبوزيد، "الحركة الإسلامية بين الفكر و الواقع"، ص:23).
دعوة الأستاذ أبي زيد الدعاة و المصلحين إلى طرح البديل و استخدام الأدب و كتابة الروايات، دعوة جد معقولة؛ خصوصا و أن أي حركة اجتماعية تحمل هَما إصلاحيا و مشروعا مجتمعيا و تطمح إلى تأطير وجدان الناس و توجيههم نحو القيم التي تؤمن بها لا بد لها من مناشير أدبية و ثقافية تُلهم أحلام الناس و تداعب خيال الأطفال و تغذي فكر الكبار و ترسم خيوط حياة الإنسان المنشود. فأوروبا لم تنجز ثورة قيمية و لا ثورة صناعية و لا ثورة تقنية معلوماتية أي باختصار لم تًنَزل مشروع الحداثة على الأرض إلا بعد أن رست معالم المشروع الثقافي و النموذج الحضاري المُراد في العديد من الإنتاجات الأدبية و الفكرية لكبار الأدباء و المفكرين الأوروبيين.
قيم العدل و العفة و الطهارة الأخلاقية و الإحسان في العمل و المعاملة و الارتباط بالصلاة و الدار الآخرة و غيرها من العناوين التي تُبشر بها الحركة الإسلامية لا يمكن- إذن- أن تنتشر و تنتصر في أوساط المجتمع إلا بعد أن تُترجم في منتجات فنية و أدبية و فكرية ليصل صداها إلى المهووس بالسماع للأغنية و محب مشاهدة الفيلم و المسرحية و قارئ القصة و الرواية و المتلقف للكتب الفكرية.
إن الدعوة إلى الاهتمام بالعلوم الإنسانية و استخدام الوسائل الفنية و الأدبية في خدمة الدعوة و المشروع و الرسالة جديرة بأن تُحتضن بقوة من طرف أبناء الحركة الإسلامية  خصوصا في المرحلة الراهنة.



...تابع القراءة