| 0 التعليقات ]



رأس الأدواء التي تعتورنا كمجتمع، هو الشرود عن طبائع الأشياء الموضوعية والذهول عن قوانين الطبيعة وسنن النفس وقواعد الاجتماع. بعبارة بسيطة، مازالت "المعرفة" بعيدة أن تكون مرشدة خطواتنا وملهمة برامجنا، ومازال "العلم" بمختلف المسائل كما هي كائنة في الواقع بعيدا عن أخذ مواقع "الإيديولوجيا" حيث نتصور المسائل الاجتماعية كما يحلو لنا وكيفما اتفق.
 مازلنا نتصور التاريخ باعتباره ركاما من الوقائع والأشخاص والأحداث بلا خيط ناظم، ومازلنا نرى في العلاقات بين البشر انعكاسات لرغباتنا بلا التفات لمحركاتها البنيوية، ومازلنا نقرأ النفس البشرية على أساس خلفيات ساذجة. ولعل من الأجدى ومن باب تجديد الأمل الإشارة إلى أن تصوراتنا للمسائل الطبيعية (بخلاف الاجتماعية) قد انزاح عنها على العموم ما كان يُقيدها في السابق من نظرات أسطورية وخرافات لا تستقيم، ولم تبق إلا بعض القضايا المحدودة التي تمس نشأة الإنسان وانبثاق الكون.

إن "المؤسسات" (البرلمان، الحكومة، المجالس المنتخبة، الحزب، النقابة... إلخ) و"المفاهيم" (الدولة، الحرية، العدالة، الديمقراطية التمثيلية، الديمقراطية التشاركية، الملكية الدستورية، الملكية البرلمانية... إلخ) ليست "مقتنيات" تنتقى في المحلات التجارية، وإنما هي نتاج لسيرورة تاريخية بل وصيرورة من التحولات الاجتماعية العميقة. ولهذا لا يجوز أن نتعامل معها بمنطق "المشتري" الذي ينتقي ما يريد في "اللحظة" التي يريد وفي "المحل" الذي يريد. 
إن الحقيقة التي لم تصبح بعدُ ثقافة راسخة في بنياتنا الذهنية، هي أن الحياة بكل حذافيرها (طبيعة النفس البشرية، طبيعة العلاقات الاجتماعية، طبيعة الكون الفيزيائية) لا تسير وفق ما نشتهي ولا تتساوق مع رغباتنا. فالحياة تهتدي بمنطق موضوعي خارج إرادتنا، وتبعا لمنطلقاتنا الإيمانية فإن الله جل في علاه هو الذي قال لذات المنطق "كن" ف"كان".
إن دورنا في هذا الإطار هو أن نبحث وأن نكتشف المنطق الذي يحكم الأشياء والحقائق والطبائع كما هي كائنة في الواقع. فاكتشاف منطق الطبيعة الفيزيائية مدعاة لتسخيرها لتحسين معاش المجتمع. وأما معرفة طبائع النفس والاجتماع البشريين، فهو أمر جدير – في المنطلق – بالدلالة على أرشد السبل لتنزيل "القيم" و"الغايات" و"رغباتنا المثالية" و"ما نريد أن يكون" على الاجتماع البشري (سياسة، قانونا، اقتصادا... إلخ). إذن، قبل الخوض فيما نريد لا بد أن نفهم الأمور كما تجري في الواقع، وإذ ذاك لا ضير في أن نعود إلى خبرتنا الدينية والفلسفية حتى ندقق القيم التي نتغيا أن تسود في حياتنا وعلاقاتنا وهياكلنا الاجتماعية والاقتصادية.
تعد "التنظيمات" إحدى الوحدات الاجتماعية التي كانت من ثمار الثورة البرجوازية في أوروبا. فبعد أن كان الأفراد ينتظمون في "قبائل" و"زوايا" وطوائف" في العهد الإقطاعي، صارت "التنظيمات" ملاذهم الجديد في العصر الحديث. هكذا، صارت الأحزاب والجمعيات والنقابات أبرز الأشكال التنظيمية التي صاحبت بالدرجة الأولى مرحلة امتداد "الرأسمالية الصناعية".
لعبت التنظيمات طيلة مسيرتها أدوارا طلائعية استكملت فيها المجتمعات التي نعمت بوجودها مسار التحرر من كل أشكال التخلف الاجتماعي السائدة من قبل. اليوم، تعاني التنظيمات من شبح الانقراض وهي معاناة موضوعية مفهومة لأنها متصلة بانتقال هياكل العالم - الذي أفرز "التنظيمات" - من مرحلة سيادة "الرأسمال الصناعي" إلى مرحلة سيادة "الرأسمال المالي".  
إن مرحلة "الرأسمال المالي أو الخدماتي" حيث يهيمن الاقتصاد الافتراضي، ألقت بظلالها الكثيفة على كينونة "التنظيمات" التي صار وجودها وتأثيرها على المحك. ولا يمكن استيعاب التحول الذي أحدثته "التنظيمات الافتراضية" في شبكات التواصل الاجتماعي إلا في هذا الإطار. بل وما التأثير الذي قادته لإشعال احتجاجات ميدانية، إلا دليل واحد من جملة الأدلة القائمة على أن "التنظيمات الافتراضية البديلة" تفرض نفسها بقوة.  بالمقابل، تتراجع "التنظيمات الكلاسيكية"، ومنها على سبيل المثال "النقابات"، حيث نجد نسبة التنقيب في مختلف دول العالم دالة للغاية.
ولكن ثمة مزلق نظري كبير وجب التنبيه إلى ضرورة الحذر من تبعاته. نعم، إن المرحلة الرأسمالية الصناعية التي أوجدت "التنظيمات الكلاسيكية" انتهت أو على وشك الانتهاء. ولكن، مهلا! إن هذه المرحلة انتهت فقط بالنسبة للعالم الغربي الرأسمالي الذي أفرزها وفق صيرورة موضوعية.
أما فيما يخصنا كمجتمع نامي، فمرحلة الرأسمالية التجارية أصلا كان مرورنا منها قسريا وعابرا، إذ كنا فيها مرتبطين بالسوق الأجنبية الخارجية أكثر من ارتباطنا بتنشيط السوق الداخلية، في النصف الثاني من القرن 19. وأما مرحلة التصنيع فمن الواضح أننا مازلنا نخطو فيها خطوات محدودة للغاية بسبب عوامل موضوعية (موازين القوى التي ليست مطلقا في صالحنا) وبسبب عوامل ذاتية (رخاوة عزيمتنا وهو ما يتجلى في ميلنا إلى انتظار الآخر للاستهلاك عوض المبادرة إلى الإنتاج، علاوة على استمرار الطابع الريعي لاقتصادنا).
إذن، فكما أن استنفاد عالم "الشمال" لبرنامج "الحداثة" على الصعيدين الفلسفي والقيمي وانشداده إلى "ما بعد الحداثة" لا يعني أن واجب الوقت هو أن نحذو حذوه. فكذلك، تفجُر تناقضات الرأسمالية الصناعية وانبثاقها في صيغة رأسمالية مالية مضارباتية لا يعني أن ندير الظهر لبرنامج التصنيع الوطني المستقل (طبعا، بعد استدماج الأفق الجديد للصناعة المعاصرة: النانوتكنولوجيا..). وكذلك، اتجاه السياسات العمومية نحو الارتكاز على "الديمقراطية التشاركية" في الغرب الرأسمالي لا يعني أن نغلق قوس السعي والوعي ب"الديمقراطية التمثيلية" بدعوى أنها متجاوزة.   
على هذا الأساس، لا يجوز لنا أن نتجاوز "المؤسسات" الاجتماعية التي ارتبطت بعصر "الحداثة" الفكري ومرحلة "التصنيع" الاقتصادي. وتنقسم هذه المؤسسات إلى قسمين؛ مؤسسات الدولة: الحكومة، البرلمان، جماعات ترابية... إلخ، ومؤسسات المجتمع: الأحزاب، الجمعيات، النقابات.
طبعا، المسألة ليست إرادوية بل فيها قدر كبير من الموضوعية. فثورة الاتصالات جعلت بالفعل العالم قرية صغيرة ذات مناخ فكري واحد وذات اقتصاد تبادلي عابر للحدود. مما يعني أن المجتمع الذي أمامنا هو الذي يهرب من "التنظيمات" تأثرا بالمناخ العالمي وبالانقلابات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الرأسمالية المعولمة.   
نحن أمام تناقض موضوعي: من جهة، حاجتنا إلى "التنظيمات" (الأحزاب والنقابات بدرجة أولى) هي حاجة موضوعية لتحقيق الانتقال الديمقراطي وتحصين وضعية الطبقة الوسطى. ومن جهة أخرى، التوجه نحو "التنظيمات الافتراضية" باعتبارها بدائل هو تيار موضوعي عالمي يجرف ما هو محلي.
للأسف، نؤدي اليوم ضريبة تراكمات التأخر (وكلما تباطأنا كلما صار الاستدراك صعبا). ولهذا نعيش وضعا يتميز بهجانة لا حدود لها. على الصعيد الفكري: نعاني من رواسب التقليد الراكد، ومن النزوعات الما بعد حداثية الشاردة الوافدة (في حين أن حاجاتنا الموضوعية الراهنة في الفكر غير هذه ولا تلك). على الصعيد الاقتصادي: نعاني من بنيات ريعية تقليدية، ومن نزوعات رأسمالية خدماتية ومضارباتية غير منتجة (في حين أن حاجاتنا الموضوعية الراهنة  في الاقتصاد غير هذه ولا تلك). على الصعيد السياسي: نعاني من عزوف عن السياسة يتغذى على الجهل والتقليد، ومن رسوبنا في امتحان "الديمقراطية التمثيلية" واستعاضتنا عنها رسميا بالحديث عن محاسن "الديمقراطية التشاركية" وآفاقها الواعدة بالنسبة لجمعيات المجتمع المدني (في حين أن حاجاتنا الموضوعية الراهنة في السياسة لا يمكن أن تتحقق  لا بهذه ولا بتلك). على الصعيد الاجتماعي: نعاني من استمرار البنيات الذهنية المنغلقة والعشائرية والقبلية، ومن كفر بالتنظيمات الاجتماعية الحديثة يقابله إقبال قياسي على "التنظيمات الافتراضية" في شبكات التواصل الاجتماعي (في حين أن حاجاتنا الموضوعية في الاجتماع لا يمكن أن يتحقق لا بهذه ولا بتلك).
إنها وضعية مضطربة تنفلت أمام كل تحليل نمطي ميكانيكي. هي محصلة صيرورة تاريخية لعب الأجانب فيها دورا لا بأس به منذ واقعة تطوان عام 1859-1860. وتبعا لذلك، موازين القوى الحالية لا تسمح لنا بنشدان تغييرات استراتيجية. ولكن ما نتحمل فيه المسؤولية ويقع تحت أيدينا يبدأ  أولا بالخطوة العاجلة المتمثلة في ضرورة الحسم مع معركة إدراك الطابع الموضوعي للأشياء (التنظيمات كانت مثالا في هذا المقال) من حولنا حتى نتصرف تصرفات مفيدة تسمح لنا بالانعتاق من هذه الحفر المظلمة.

0 التعليقات

إرسال تعليق