أثارتني الأسطر التي
كتبها الأستاذ عصيد بل استفزني عنوانها ( عشاق الحرية الجدد ) و ما يعني العنوان،
وحده، من أن أولئك العشاق الجدد كانوا يحبون العبودية إلى درجة الهيام و أصبحوا
حاليا عشاقا للحرية ! و صادف نشر ذلك
المقال، أن كنت مستغرقا في قراءة كتب –أحد شهداء الدعوة الإسلامية في الفرن العشرين –
المعلم سيد قطب .فوجدت فيها، أن المعلم، كان سابقا لزمانه، كان سابقا لصحوة
الجماهير المسلمة تجاه الحريات في الربيع الديمقراطي! بل استوقفتني كتاباته طويلا و جعلتني أقول : إن الحياة معركة من أجل الحرية.
ربما ما أعلمه أن
الإسلام – و الذين يعتبرهم الكاتب عشاقا جددا للحرية ما هم إلا دعاة إلى الإسلام (1)- هو الذي جاء بأول ثورة تحريرية امتدت
آثارها و نسائمها إلى قرننا هذا ؛ حرر
العقول من الشبهات حول الحقيقة الإلهية و حرر النفوس من الشهوات الهابطة بالكينونة
الإنسانية و حرر الأجساد و الأبدان من الرق و العبودية. و أطلق صيحة مدوية حينما
أقر بمبدأ لا إكراه في الدين – الذي لم تصل إليه بعد الأطراف الدولية ! – ( لأن الدم المسلم مازال رخيصا يستبيحه القاصي و الداني بل يعبث
به أشقاء القردة الخنازير ! ) . و ترك للمرء حرية الاختيار في أخطر شيء مخير فيه و هي
عقيدته .قال تعالى : [ و من شاء فليؤمن و من
شاء فليكفر ] . لكن الأمر الذي يلتبس على كثير من الناس اليوم هو أن ما تثيره
الشبهات الرائجة من لدن الأسواق العَلمانية حول حرية الدعوة؛ حيث تعتبر ذلك كبتا
منذ البداية للحرية . و لماذا ذلك ؟ لأنه ببساطة ، حين ينعدم القصف الإعلامي الممنهج
ضد شريعة الإسلام و توضح للناس حقيقة الإسلام و أنه عقيدة ينبثق منها نظام اجتماعي
، لم تعرف البشرية أعدل منه ( ليس هذا كلاما إنشائيا ناتج عن عاطفة جياشة تجاه
منهاج الرحمان في الحياة بل هو ناتج هن قناعة راسخة نتيجة قراءات و تأملات ذاتية في الموضوع ) . و
أن في ظلاله الحرية الحقيقية التي يلهث وراءها الجميع و العزة الإنسانية لبني آدم
و الكرامة الإنسانية للخلق . و حلاوة الإيمان التي يذوقها من كان الله و رسوله أحب
إليه مما سواهما . أكيد أن هذا
النداء الرباني سيتدسس بلطف إلى خفايا نفس المدعو و إلى حنايا ضميره ( خصوصا إذا
كان على اطلاع على باقي المذاهب الوضعية و قارنها بالإسلام ).
الحرية قبل أن يدعو
إليها الأستاذ قطب ، دعا إليها القرآن قبل قرون و قرون [ و ما أنت عليهم
بمسيطر ] و جعلها أساس التكليف، و جسدها
المصطفى صلى الله عليه و سلم في الواقع و سيرته حافلة بالمواقف التي ترك فيها
العبد يختار عقيدته حتى في اللحظات التي يكون فيها على استطاعة " استعمال
الحديد و النار بدل الإقناع و الحوار" ، بل
حتى في الحدود الشرعية التي تثير أعداء الإسلام
و التي يقيمون الدنيا و يقعدونها من أجل تأكيد ماضوية و تاريخانية هذه
الأحكام التي جاءت فيها نصوص قاطعة تنذر " و لا تأخذكم بهما رأفة في دين
الله" .حتى هذه الحدود لم يطبقها المصطفى صلى الله عليه و سلم إلا بعد
الاقتناع الكامل لمرتكب أو مرتكبة الجريمة بشناعة هذه الكبيرة .( قصة الغامدية و
مالك بن ماعز) .يعني أن الحرية مرة أخرى مبدأ أصيل في طبيعة هذا الدين، يعني كذلك
أن الحرية مقترنة بالمسئولية ؛ فمالك بن ماعز و الغامدية لهما كامل الحرية و لكن
عليهما تحمل مسئولية و تبعات أعمالهما .في قصة المخلفون الثلاثة عن غزوة تبوك عبر
و عظات في تعامل المصطفى مع حرية الإنسان ..
من هنا نقول ، بأن مفرق
الطرق بين الإسلام و مناهج البشر هو كون الإسلام يترك للإنسان كامل حرية و بعد أن
يقع في خطأ نتيجة النسيان أو التعثر أو عدم التوازن بين مطالب الجسد و الروح، يجند
الإسلام كامل قدراته التواصلية لإقناع المخطئ بخطئه و آنئذ يقتنع من تلقاء نفسه
بجرمه و يعود تائبا ضارعا إلى المولى جل و على يطلب أن يُقام عليه الحد عن قناعة و اختيار
بعدما تبين له أن قطع اليد أو الجلد أو الرجم..في هذه الدنيا " التي لا تساوي
جناح بعوضة "و الآيلة إلى الزوال و الفناء أهون بكثير من عذاب جهنم أبد الآبدين
و العياذ بالله. أما مناهج البشر فهي تخضع لأهوائهم لا تعلي قيمة عليا تحلق بهم و
تستعلي بهم أمام نوازع الجسد و شهواته ( البطن و الفرج : لأنها غالبا أصل كل جريمة
؛ فمن السرقة اليدوية إلى نهب أموال
الدولة بالتزوير و الصفقات المشبوهة ..و كذلك المسكرات ..بالإضافة إلى الزنا و
مقدماته و الشذوذ ما هي إلا عبودية للغريزة الجنسية ) ، فهي إن أخطأ الإنسان لا
تحاول تصحيح خطئه بل تباركه و تشجعه لأنه يخدم مشروعها المجتمعي ..و تدعي أنها
تشيع الحرية بتركها الجرم يمر دون مساءلة. و لا تستيقظ هذه الأنظمة الوضعية إلا
بعد كارثة إنسانية ناتجة عن عدم التوقف
عند الجرائم و محاولة لإصلاحها ( فهي لا تعتبرها جريمة !! ) مثلا : لا يتم التوقف عند المسكرات بشتى أصنافها ( الخمور ، المخدرات
و السجائر ..) إلا بعد ظهور سرطانات يستعصي معها العلاج و أوبئة قاتلة آنذاك يستيقظ
النظام الوضعي ليعي ليحافظ على البقية الباقية من الحياة ، لأن المنتسب لهذه
المذاهب الوضعية ، و إن كان يعتقد بالدار الآخرة و البعث و النشور فهي أمور لا
تستحق كل هذا الاعتبار و بالتالي لا يأمل كثيرا في الحياة الأخرى فيكتفي بهذه
الحياة التي يظللها فجأة شبح الموت ( بسبب المسكرات ). بخلاف الإسلام ، فقد أعلنها
صيحة مدوية منذ خمسة عشر قرنا ( كل مسكر خمر و كل خمر حرام ) ( و لا تقتلوا أنفسكم
إن الله كان بكم رحيما ) إنه نظام لا يحابي أحدا بل يحابي فقط فطرة الإنسان التي
لا يعلمها إلا خالقها( ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير ) . و قصة نبذ الصحابة
للخمر - المعروفة - تستحق أن يدرسها
الباحثون في القانون الجنائي ، قصة يتأصل فيها مرة أخرى مفهوم الحرية في الإسلام ؛
أنه دين سلاحه الإقناع بالحكمة و الموعظة الحسنة، دين يأبى الله عز و جل إلا أن
يجعل فترته الذهبية التي ترجم فيها إلى نظام اجتماعي مستقى من القرآن مع محدودية
زمنها و مكانها خالدة تُعلم البشرية ، حتى التي فتت الذرة و اقتحمت المجرة،
البشرية التي حاولت في أمريكا سنة 1929 منع الخمر استجابة لنداء الفطرة فغلبت
أهواء البشر و تراجعت عن منعها. يعلمها القرآن بعد خمسة عشر قرنا أن المنع لا يكون
إلا عن اقتناع بعد أن يتمتع الجميع بحريته.المشكلة إن المذاهب الوضعية لا تعتبر من
سنن الأحداث و التاريخ ، فها هي في موضوع السيدا مرة أخرى تحاول أن تلتقي في نصف
الطريق مع هذا الوباء ، استجابة مرة أخرى للهوى و حيوانية الشهوة الهابطة ابتكرت
حلا وسطا هو " العازل الطبي و ما يدور في فلكه " تاركة حلا واضحا كل
الوضوح ، أعلن عنه مرة أخرى قبل خمسة عشر سنة ، و هو ( و لا تقربوا الزنا
إنه كان فاحشة و ساء سبيلا) ، إن الله تعالى عندما يختار الألفاظ ليس من دواعي
الإطناب بل إن كلامه تعالى يحمل حكما بليغة و أسرارا عميقة يجب التوقف عندها.
مشكلة الانتحار و الاكتئاب ذاع صيتها في الآونة الأخيرة ، تحاول مرة أخرى النظم
الوضعية أن تعالجها بالمسكنات و المهدئات غافلة عن حل لا حل غيره : ( ألا بذكر
الله تطمئن القلوب) ( ففروا إلى الله ) .كيف يمكن أن نفسر الانتحار في الدول
الاسكندلافية التي فيها قمة رغد العيش ، فيها الديمقراطية ، فيها الحرية المجنونة
، فيها المطالب المادية بوفرة .. إلى ماذا يسعى الإنسان في هذه الحياة ؟ البشرية
جمعاء إلا من رحم ربي يعتبر أن الغاية هي هذه المتوفرات في الدول الاسكندلافية ،
فهل حققت نسائم الحرية المجنونة و الأموال الطائلة و السيارات الفارهة سعادة
الإنسان .سؤال يطرح نفسه بقوة : لماذا يرتفع نسبة معدلات الانتحار في هذه الدول و
الدول السائرة في نفس الطريق ؟ لماذا الحياة التي أغلى ما يملكه الإنسان و يكدح من
أجلها ينتهي منها بهذه البساطة ؟
إن الحرية التي لا
تحقق للإنسان ذاته و سعادته لا طائل من ورائها ، بل ليست حرية أصلا و إنما مجرد
وهم ..إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الحرية لا يفترقان ؛ فالمسلم الحر هو
الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر لأنه إنسان أحس بأنه تحرر من كل العبوديات
الزائفة فأراد أن يتمتع إخوانه بنفس الحرية فراح يدعوهم إليها . بكلمة، إن الحرية
شعور نفسي داخلي قبل أن تكون ممارسة ، و هذا ما يرميه الإسلام من الإنسان أن يحس
بأنه حر من كل سلطان و كل طاغوت و كل شهوة و ينطلق في رحابة العبودية لله تعالى .
* كتبت الديباجات الأولى لهذا المقال منذ 10 أشهر تقريبا بعد ان نشر ذ.أحمد عصيد مقاله الموسوم ب:" عشاق الحرية الجدد" في 25 ماي 2012 بهسبريس.
(1) أذكر هذا لأن عصيد في مقاله ذكر الأستاذ مصطفى الرميد بالاسم كنموذج " عاشق جديد للحرية !" و المطلع على كتاب ذ.التليدي " ذاكرة الحركة الإسلامية المغربية " سيرى أن الأستاذ مصطفى في معرج حديثه عن بداياته في الدعوة و التربية و نضال ذكر كتابين للشهيد سيد قطب : " دراسات إسلامية" و " معالم في الطريق" فضلا عن تفسير " الظلال" كمواد أساسية مبرمجة في مجالسهم التربوية .و المتأمل في فكر الشهيد سيد قطب سيرى أن فكرة " العبيد" هي المركزية فيه و مقابلها الحر و هو المسلم الذي فهم حقيقة الألوهية حقيقة الفهم .من مقالات كتاب " دراسات إسلامية" التي تشير إلى ذلك : "العبيد ..." ، " ضريبة الذل" .. . إن يسر الله سننشر دراسات مستقبلا عن فكر الشهيد .
0 التعليقات
إرسال تعليق