? أيوب بوغضن
| 1 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 25 التعليقات ]





يفرح الظالمون عادة بالانتصارات الصغيرة، ويتوهمون أن الدنيا كلها طوع بنانهم، ويتوهمون أن حيازة السلط (التنفيذية، التشريعية والقضائية، والإعلامية، والاقتصادية) من شأنه أن يغير الحقائق ويقلب الموازين ويعدل سلم القيم ويتلاعب بالمقاييس.
نعم، قد ينجح الظالمون في توظيف سلطهم بطريقة بشعة، في ممارسة التعذيب النفسي والإيذاء الوجداني، ودفع الناس إلى الإحباط والياس. ومع ذلك، لن يفلحوا في إعدام من يحمل شارة "النصر"، ويؤمن بأن الانتصار على الظلم مسألة وقت.
نعم، قد ينجح الظالمون في إشاعة الخوف وفي تكميم الأفواه وفي كتم الأصوات وفي خنق الأنفاس وفي تزييف النقاش وفي تسييد البهتان وفي تسميم بعض العقول وفي تمييع بعض الحقول (الحزبية، والنقابية، المدنية، والإعلامية). غير أنهم لن ينجحوا مطلقا في تعديل طبائع الأشياء، وتغيير منطق الحياة، وتوجيه مسارات التاريخ.
يراهن الظالمون على جانب "بشري" في الإنسان، موصول بهويته "الطينية"، مجبول على الخوف وعلى الجبن وعلى الحرص على سقط المتاع وعلى الفتات وعلى الأنا وعلى الحسابات الصغيرة. وهو جانب طاغ وقوي، يشد الإنسان بثقله، ويدفعه للإخلاد إلى الأرض.  
لكنهم، ينسون أن في الإنسان جانب "آخر"، يسكنه رغما عنه، وينتظر بشوق لحظة الإعلان عن نفسه، يهمس في داخله بنداء واثق: تَجاوز ذاتك، حلق بعيدا عن مخاوفك، ترَفَع قليلا عن مصالحك، حاول الانسجام مع إنسانيتك، تمسك بمبادئك، كن وفيا لقيمك...
وقصة البشر، دائما وأبدا، هي قصة صراع بين من يستثمرون في جانب الإنسانية "المظلم" المنكفئ على الأنانيات، وبين من يستثمرون في جانبها "المشرق" المعانق لقضايا التحرر الحقيقية.
ولعل إرادة الله جل في علاه، شاءت أن يكون منطق الدنيا نازعا نحو توفير الأجواء والمناخات لغلبة الجانب "المظلم" طوال تاريخ البشرية. غير أن الأفق والوجهة والمسار، مهما طال ليل الانتصارات الصغيرة للظالمين المراهنين على الجانب المظلم، يشق طريقه بثبات نحو تغليب الجانب المشرق.
نعم، منطق الدنيا، الذي جُعل للاختبار ولإنجاز تمرين الاستخلاف، يُسعف كثيرا الظالمين المراهنين على الجانب المظلم في الطبيعة البشرية؛ إذ يُسهل مأمورية المكر والتضليل والخداع ونشر الأكاذيب وتزييف المعارك وتغذية الأهواء والميل إلى الذات وتغليف عملية إدارة الظهر للقيم بالكلمات الجوفاء.
ولكن، القصة لا تكتمل إلا بوجود نداء دفين قابع بأعماق الضمير يُوجع الظالمين والمتواطئين معهم، كما أن القصة لا يمكن موضوعيا أن تنتهي إلا بإبراز بعض الانكسارات الجزئية لمعسكر الظالمين. على أن المعركة طويلة الأمد، والانتصار الرمزي النهائي للمعسكر الثاني من الصعب أن يحُل قريبا وإلا ستنعدم أسباب قصة الاستخلاف على الأرض.
الجميل، في قصتنا، أن التناقضات تشق كل الصفوف وكل المعسكرات لأنها نتاج لتناقض جوهري بين طبيعة نازعة نحو الالتذاذ بالوجود عبر الانقياد للأنانيات الضيقة من دون اكتراث بالآخر (اجتماعيا، أو بيئيا...)، وطبيعة مُحلقة مائلة نحو الامتثال لمقتضيات  كنه الوجود –بعد استفراغ الجهد المناسب في إدراكها- عبر التحرر  والتخفف من أثقال الأنانيات المرهقة.
الأجمل، في قصة الاستخلاف، أن منطق الدنيا وعالم الشهادة ينتصر نسبيا للجناح السلبي في الطبيعة البشرية، إذ يُمكنه من تغليف وإخفاء حقيقة مراميه تحت ثياب جذابة وبكلمات براقة. بيد أن، الله جل في علاه، يُظلل بحضوره القدسي الجناح الإيجابي للطبيعة البشرية ويسندها وفق مشيئته في المعارك الحاسمة.
انظروا كيف (يخرج الحي من الميت) بدلالتها الرمزية: كيف يُخرج مشجعي الكرة، الذين أريد لهم أن يُعتقلوا في عالم بعيد عن معارك الحياة الحقيقية، لكي يثيروا القضايا (العدالة الاجتماعية، توزيع الثروة والسلطة، القضية الفلسطينية وخيار المقاومة وتخاذل الأنظمة) التي باتت الهيئات المدنية والحزبية والنقابية تعجز عن إثارتها في زمن يراد فيه تغليب الجناح السلبي في الطبيعة البشرية بآلة الحديد والنار.
هل كان يتوقع من كان يشتغل على تسميم الحقل الحزبي والنقابي والمدني، بعد أن اطمأن إلى الإمساك بالمجتمع، أن يخرج "الحي" من "الميت" الذي ظُن أنه سادر في ما يلهيه؟ 
المعركة مستمرة، بين الجناحين داخل كل فرد، وبين الصفين اللَذين يتغير ممثلوهما داخل الوطن، وبين المعسكرَين اللَذين يبقى الكيان الصهيوني طوال القرن الأخير عضوا محوريا ثابتا في أحدهما في العالم.               



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 1 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 1 التعليقات ]





من الأجوبة الرائجة التي تقدم كمقتربات لعلاج أدواء المرحلة الدقيقة التي يعيشها الحزب: التمسك ب"المنهج" والاعتصام ب"المؤسسات" (التي تقدم على أساس أنها "تصيب وإن أخطأت"!) والحرص على خط "التدرج" و"الشراكة" و"التوافق" و"الترجيح بين المفاسد والمصالح" و"جعل مصلحة الوطن فوق مصلحة الحزب".
طبعا، كل هذه الأدوية جيدة وصحية ومفيدة، إذا فكرنا فيها بشكل مجرد وبمعزل عن الواقع والسياق والغرض، ولكن: هل بإمكان هذه الأدوية علاج الأدواء المزمنة التي تفتك بجسم اجتماعي عليل؟ وهل بإمكانها إيقاف النزيف وجعل المنحنى الانحداري مستقرا؟
مادامت هذه الأجوبة مناسبة وهذه الأدوية صحية، فالمشكل يكمن في مكان آخر: في عدم الإدراك الجيد للسؤال المطروح، وفي عدم التشخيص الدقيق للأدواء التي تخترق الجسم.  
مشكلة هذه الأجوبة أنها تنطلق من فرضية خاطئة مفادها أن الحزب له مشروع قائم يسير إلى الأمام بخطى ثابتة، وما يعرقل نجاحه هو مناضليه المندفعين الذين لم يتشربوا منهج "التدرج" و"الترجيح"، أو بعض رموزه المشوشين الذين تمردوا على المؤسسات وأداروا الظهر لخط "الشراكة" و"التوافق".
والواقع أن أزمة الحزب ذات صلة بأمر آخر جعل منحنى بنيته يقترب من مرحلة الانحدار.
من يستقرئ تاريخنا القريب أو البعيد (منذ فترة ما بعد النبوة) سيلحظ أن ثمة سُنة موضوعية سارية على التشكيلات الاجتماعية والكيانات السياسية التي تعتمل في مسرحه. إنها استيفاء الفكرة "المثالية" المحركة لتضحيات الأفراد لدورها ولوظيفتها التاريخية في سرعة قياسية، وحلول محركات أخرى محلها تقوم بمهمة دفع عجلة التاريخ.
والمحركات الجديدة لا علاقة لها بمبرر وجود الجسم الاجتماعي، بل هي تتناقض –أحيانا- مع ما يطلق عليه بشكل مجرد "المشروع" الجامع أو "الفكرة" المؤطرة، أو بشكل مُشَخص "الاستقلال" أو "ألاشتراكية" أو "الديمقراطية" أو "الدعوة" أو "الإصلاح"... إلخ.
إن مرحلة "إشراقة" الفكرة وانسحاب أشعتها على سلوك "الصحابة" دامت أقل من 30 سنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لتترك مكانها لمحركات أخرى تجذب السلوك الفردي وتؤطر الاجتماع البشري، تَقَلص فيها تدريجيا الموضوع الذي شكل مبرر وجود الاجتماع الأول (وهو التفاني من أجل توطيد رسالة مثالية تستهدف خلخلة النظام الاجتماعي بلطف من خلال منظومة قيم مفارقة لأفق المرحلة التاريخية ولطاقة المجال الجغرافي). وسرعان ما انتهى مفعول "العقيدة" التي كانت تطل برأسها على السلوك ليترك مكانه لمفعول "الغنيمة" ومفاعيل شبيهة.
في مرحلة صعود المنحنى يكون منطق "العقيدة" متوثبا، وفي مرحلة استقرار المنحنى يكون المنطقين في صراع، وفي مرحلة انحدار المنحنى يكون منطق "الغريزة" (سواء كانت "غنيمة" مادية، أو شهوة سلطة، أو تقدير محيط اجتماعي، أو توازن نفسي... إلخ).
بمقاييس الموضوع (=الرسالة والمشروع)؛ في مرحلة صعود المنحنى تنتصر "الفكرة" المثالية وتكتسح مساحات غير مسبوقة، وينعكس انتصار الفكرة على حَمَلتها (الذات) وقد يتمتعون بتقدير اجتماعي أو نفوذ معنوي أو جاه أو امتياز.
الثمار المجنية في مرحلة صعود المنحنى تدفع باتجاه مضاعفة الجهد المبذول من أجل انتصار الإطار الحامل للفكرة بدعوى حماية الفكرة، فتبدأ الفكرة في الاختفاء تدريجيا وتظهر علامات الانقلاب، ولكن رواسب المرحلة الأولى تظل عالقة ولهذا يستمر الصراع بين منطق "العقيدة" ومنطق "الغريزة" في الاحتدام.    
بمقاييس الذات الحاملة للموضوع، تعد مرحلة استقرار المنحنى أهم مرحلة حيث تنتصر الذات وتنتشي ب"الفتوحات" في الوقت الذي يتنامى فيه الانقلاب.
أما المرحلة الأخيرة، حيث انحدار المنحنى، فهي حاضنة لهزيمة نكراء للذات الحاملة وللموضوع المحمول وانتصار كبير ل"المسخ" الوليد حيث تصبح رهانات الذات الغريزية مشروعا جديدا. ولفهم المُراد، يمكن استحضار اتحاد ادريس لشكر (في زمن المنحنى الانحداري للاتحاد الاشتراكي) وانتصاراته "الضخمة" بحيازة رئاسة مجلس النواب واختطاف قطاعات وزارية والاستفراد بالعضوية في المجالس الدستورية المعينة.
نحن في الحقيقة أمام تناقض موضوعي: فالبنية البشرية المؤسسة في مرحلة انطلاق المنحنى من 0 تلعب دورا مشهودا في إشعاع الجسم الاجتماعي الحامل ل"الفكرة" في فترات صعبة تكون فيها الذات (المناضل) أصغر من الموضوع (الفكرة)، وفي نفس الوقت تلعب –في مرحلة لاحقة- أدوارا غير صغيرة في التعجيل بحمل "الفكرة" إلى المقبرة حين يكون الموضوع (الفكرة) أصغر من الذات (القيادي والرمز).  
نزداد فهما لهذه المشكلة حين نستحضر أن الحركة الاجتماعية تنطلق مع بنية بشرية واجتماعية محددة تختلط "ذاتها" مع "الموضوع" الذي انطلقت وتحركت من أجله، فهي قد تكون مضحية فعلا حين تدفعها الرياح التاريخية من أجل حمل "المشروع" الموعود، ولكن بمجرد أن تستوفي "الفكرة" المحركة دورتها التنشيطية والتحفيزية، تصبح تلك البنية البشرية المغلقة عالة على "الفكرة" وعلى "المشروع".  
فمن جهة، هي بنية بشرية اختارتها الرياح والصدف التاريخية –بعناية أو بغير عناية- لتحمل شرعية "التأسيس" و"البناء" و"التنظيم" بتغليبها ل"الموضوع" على "الذات" في مرحلة معينة مبكرة، مما يُصَعب مهمة إفهامها بأن وظيفتها التاريخية انتهت. ومن جهة أخرى، هي بنية بشرية تدشن مسار تفعيل محركات وحوافز جديدة للحفاظ على إشعاع كيانها الاجتماعي، وبهذا تحفر –بوعي أو بدون وعي- مقبرة "المشروع" و"الفكرة" ليتم استبدال ذلك برهانات أخرى -تحددها الرياح التاريخية الجديدة- حيث يكون "الموضوع" هو الذات".
في ظل هذا الإطار، حتى من يلتحق بالبنية البشرية الأولى لا بد له –إن أراد الاستمرار بعيدا في دائرتها-  من أن ينسلك في سلك منطقها ولا بد له من أن يفهم –عاجلا أم آجلا- أن الذات أهم من الموضوع، فأفق الذات هو المحرك اليومي الخاص بينما أفق الموضوع  يدور فقط في الكلمات والخطابات واللقاءات العامة.
يمكن الانطلاق من مثال آخر للفهم، منظمة التحرير الفلسطينية انطلقت وهي حاملة لهَم التحرر الوطني ولفكرة الانعتاق من الاحتلال الصهيوني كان المناضل يفنى في الفكرة وكان مهددا في كل لحظة في حياته، وسرعان ما تألق منحناها فألهبت حماس المجاهدين. للأسف، دخلت منذ أزيد من ثلاثة عقود في مرحلة المنحنى الانحداري،  فصارت ذات المناضل (الذي صار قياديا أو رمزا أو رئيسا أو كبير المفاوضين او وزيرا... أو غير ذلك من الألقاب) ورهاناته المحدودة (من فُتات الدعم وامتيازات السلطة الإسمية وابتسامات ومكالمات زعماء العالم) أهم من الموضوع (القضية والفكرة) الذي أوصله  إلى ذلك المقام. فصار الموضوع الجديد -المُصاغ على مقاس الذات- هو الحل الوهمي للدولتين الكفيل باستدامة امتيازات الذات من سلطة وجاه وامتيازات.
قبل الختم، مع الأسف، تبدو الأجوبة التي تتردد بخصوص أزمة الحزب شاردة. فالسؤال لم يعد مرتبطا -في مرحلة الاتجاه نحو انحدار المنحنى- بالوسائل (=بمعنى طبيعة القواعد التنظيمية التي ينبغي العمل بها للوصول إلى هدف ما ولتجنب الفوضى وتحقيق الجدوى)، بل هو مرتبط بالمقاصد وبالموضوع وبالمشروع وبالفكرة وبالأفق وبالقيمة وبالروح وبالمعنى. بل الأكثر من ذلك، الحديث عن الوسائل التنظيمية الكفيلة بتأطير الاختلاف في التقديرات (والتي تصلح بالدرجة الأولى لمرحلة تصاعد خط المنحنى ومرحلة استقراره) من منهج ومؤسسات وقواعد، كثيرا ما يُستدعى في اللحظات التي يتم فيها الاحتجاج على غياب "الموضوع" أو على تغييب "المشروع" أو على إغفال الفكرة أو على مقايضة الروح بالغانية (كما فعل "فاوست" في مسرحية غوته).



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





يروَجُ لخطاب حزبي رسمي يفيد أن من يتحمل مسؤولية ما آل إليه وضع الحزب هم المواطنون العزل والمناضلون البسطاء والمتطوعون الذين يبذلون بلا أخذ والذين لا يملكون غير أناملهم.. يشير ذات الخطاب إلى أن الحزب يؤتى من إيمان هؤلاء البسطاء بقناعات مبدئية تلقفوها (ويا للمفارقة !)  من روافد الحزب نفسه ذات أيام خلت، كما يحيل ذات الخطاب إلى أن سبب كل المشاكل هو انجرار البسطاء وراء السلبية وتغليبهم للنظرة التشاؤمية. يقترح هذا الخطاب مفتاحا لكل الأدواء القائمة عنوانه: تسلح  بالإيجابية! تفاءل فقط !
مشكلة هذا الخطاب هو أنه ينطوي على فرضية مرجوحة مفادها أن "الإيجابية" و"السلبية" مسائل إرادية وذاتية واختيارية، بمجرد الحسم في القرار المرغوب فيه، يمكن الانتقال إلى الحالة النفسية البديلة والرؤية الإدراكية الجديدة. والحال أن "الإيجابية" و"السلبية" مسائل موضوعية إلى حد كبير، طبعا قد يلعب الوعي الذاتي جزءا في تعديل منسوبهما ولكن حجم الحقائق الموضوعية لا يمكنه إلا أن يرجح الكفة التي يميل إليها.
كيف يمكن لمنتم للشريحة الدنيا من شرائح الطبقات الوسطى أن يكون "إيجابيا"، والحال أن دخله السنوي بقي قارا منذ 10 سنوات في حين أن معدل التضخم السنوي (المعدل العام لارتفاع الأسعار) لا يفارق 2%، مما يعني أنه قد فقد قرابة %20 من القدرة الشرائية لمدخوله، ما جعله مسكونا بتهديد النزول إلى الطبقات الدنيا لمرافقتها في نمط عيشها ورهاناتها المحدودة باليومي والمعيشي والرتيب.
إن "الإيجابية" على هذا المستوى مسألة موضوعية أكبر من الفرد وأكبر حتى من الحكومة.
ماذا بقي للفرد لكي يحتمي به ولكي "يحاول" أن يكون إيجابيا؟ تبقى المسائل الرمزية من قبيل الحرية والكرامة والثقافة والهوية، مادام بإمكان الفرد المطالبة بحقوقه المشروعة بدون الخوف من الاعتقال التعسفي، ومادام باستطاعته التعبير عن آرائه بحرية، ومادام بإمكانه اختيار المسؤولين الذين ينوبون عنه في تنزيل المشاريع والبرامج التي يراها كفيلة بالارتقاء بواقع مجتمعه، ومادام متمتعا بكرامته ومتمكنا من التصالح -في نمط عيشه- مع هويته وكينونته. مادامت هذه العناوين قائمة فهي قد تكون جالبة لجزء من "الإيجابية".
لكن الحال أن السياق الحالي يبرز بوضوح أن إرادة الناخبين يتم الدوس عليها، وأن حرية أصحاب الرأي رهينة بمزاج السلطة، وأن فعل المطالبة بالحقوق قد تكون خاتمته السجن لعقود مديدة، وأن مجرد الدراسة بالمسالك الابتدائية والإعدادية والثانوية قد يكلف أكثر من 70% من الأسر المغربية القاطنة بالعالم القروي والمدن الصغرى -والتي تنتسب عموما إلى الطبقات الدنيا أو الشريحة الدنيا من الطبقات الوسطى- تكاليف إضافية ناتجة عن عدم تمكن الأبناء من استيعاب المواد المدروسة بسبب التفاوت القائم بين لغة المجال الاجتماعي والثقافي ولغة المجال العلمي.
في ظل هذه السياقات، هل بقي ل"الإيجابية" أساس موضوعي؟
قد يتفهم الفرد "غير الإيجابي" ضعف معدل النمو الاقتصادي وانحباسه في دائرة 2% و%3 بسبب عوامل موضوعية غالبة (طبعا دون إهمال الذاتية وخاصة النقط المفقودة بسبب الفساد والبنية الريعية المستمرة وترهل المؤسسات السياسية والاقتصادية). ولكن من غير المفهوم –بالنسبة إليه- أن يتم اقتحام حصن المكاسب الرمزية (استهداف إرادة الناخبين في المسار الذي تلا نتائج اقتراع 7 أكتوبر، اعتقال الصحفيين، اعتقال المطالبين بالإدماج الاجتماعي، استهداف السيادة اللغوية والإجهاز على مسار نضالي عمره 63 سنة... إلخ).
إن المسائل المذكورة التي تشكل الأساس الموضوعي لمناخ "السلبية" السائد غير مرتبطة بشكل كبير بالجهاز التنفيذي "الإسمي" الذي يقوم بالتدبير الإداري العادي. ولكن دور الحزب المعبر عن طبقات اجتماعية تحتية –القائد للحكومة- لا يجوز أن يتمركز في لعب دور شاهد الزور عبر إشاعة خطاب يختزل المشاكل في ترويج مناضلين متطوعين بسطاء ل"السلبية"، والحال أن الواقع الموضوعي يقوم يوما بعد يوم بإلحاق شرائح من الطبقات الوسطى للتضامن مع الطبقات الدنيا على صعيد الإيمان ب"التشاؤم".  



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





مشكلة الحزب السياسي – أي حزب – أنه ينطوي في جيناته على تناقض بنيوي موضوعي؛ فهو من جهة يعبر عن تطلعات طبقات اجتماعية معينة، وهو من جهة أخرى يحمل مشروع دولة جنينية. بدون الوفاء لعمقه الاجتماعي لا يمكن له أن يصل إلى تسيير الدولة (اللهم إذا كان أصلا جزءا من الدولة: بمعنى أنه ينتسب لأحزاب الإدارة)، وبدون الحفاظ على شعرة معاوية مع إدارة الدولة القائمة لا يمكن أن تنبسط له الطريق لتحقيق وظيفته الموضوعية التي عرفتها العلوم السياسية وهي الوصول إلى السلطة لمحاولة ترجمة شعاراته ووعوده إلى برامج وإجراءات ملموسة.
تزداد مشكلة الحزب السياسي حدة –بشكل موضوعي- في نسقنا السياسي الموسوم بكون النجاح الانتخابي -الناتج عن الالتحام بهموم الطبقات الاجتماعية المعبر عنها- لا يفضي بالضرورة إلى حيازة السلطة التنفيذية الحقيقية، مما يقلص حظوظ الحزب على مستوى ترجمة الشعارات ودرجة الوفاء لمطامح الطبقات الاجتماعية المعبر عنها. تؤدي هذه الوضعية إلى تآكل تلقائي لشعبية الحزب وإلى خسارته لروافده الاجتماعية الحاضنة لخطابه ومشروعه.
يمكن الانطلاق من هذا المدخل النظري البسيط لقراءة المشهد السياسي لبلادنا على مدى 20 سنة الأخيرة على الأقل.
تعد الطبقات الوسطى –بمختلف شرائحها: خاصة المتوسطة والدنيا- العمق الاجتماعي الحقيقي لحزب الاستقلال ثم لحزب الاتحاد الاشتراكي قبل حزب العدالة والتنمية في العشرية الأخيرة.   
تعمل إدارة الدولة – وغالبا ما تكون مضطرة - على استثمار الوجود "الإسمي" لحزب لديه حضور معتبر نسبيا في أوساط الطبقات الوسطى -التي تضمن السلم الاجتماعي وتصون الاستقرار السياسي وتحرك الدينامية الاقتصادية وتساهم في الارتقاء بالنقاش العمومي- على مستوى السلطة التنفيذية لكي تقوم بتقليم أظافره الاجتماعية وتقليص نفوذه الثقافي بغرض تقزيم حجمه السياسي. نجحت في ذلك مع حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي وتنجح في ذلك حاليا –وبشكل يومي- مع حزب العدالة والتنمية.
يتحدث الحزب عن كونه يراعي المآلات في كل قضية يستجيب فيها لإرادة إدارة الدولة ويخذل فيها إرادة من يعبر عنهم. غالبا ما تشير المآلات التي يثار الترهيب منها إلى سخط إدارة الدولة على الحزب. فالانفراد بالتصويت بالرفض بين أحزاب الأغلبية والمعارضة قد يحيل إلى أن الحزب عصي على "التوافق الوطني" الذي ترعاه الدولة.
لندفع باتجاه التفكير في المآلات إلى عتبتها الأخيرة، ماذا بعد سخط إدارة الدولة (التي لا يُتوقع منها أبدا أن تكون راضية)؟ يتحدث دعاة فقه المآلات عن صيانة الاستقرار والأمن الذي يعد أم المكاسب والرأسمال الرمزي والميزة التنافسية لوطننا في محيطه الإقليمي. رغم أن العلاقة بين سخط إدارة الدولة على الحزب وتهديد الاستقرار غير واضحة، لنفترض أن سخط إدارة الدولة على الحزب دفعها إلى إخراجه إلى خارج المؤسسة "التنفيذية" (علما أن إدارة دولتنا ليست "مزاجية" إلى هذا الحد،  فلا بد لها من إيجاد صيغ دستورية ملائمة ولو كانت متمحلة لقراراتها)، ما علاقة التواجد خارج "المؤسسة التنفيذية" بتهديد نعمة الاستقرار؟
النصف الآخر من المشهد الذي يتم تغييبه في نقاش المآلات هو أن تراكم الإحباطات -بسبب أخطاء ذاتية كبيرة وعوامل موضوعية أكبر- والناتج عن تهميش تطلعات العمق الاجتماعي التحتي والتماهي مع منطق الإدارة الفوقية؛ أدى ومازال يؤدي إلى استمرار نزيف فقدان الثقة في المؤسسات الرسمية والمؤسسة الحزبية الوسيطة.
في هذه الوضعية، سيصبح الحزب عديم التأثير في أي احتقان اجتماعي محتمل (بسبب تراكم الإحباطات) لأنه فقد المصداقية. وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم حالة الياس السائدة ونفسية الكفر بالوطن الشائعة باعتبارها خطابا انتقل إلى شرائح من الطبقات الوسطى بعدما كان خاصا بالطبقات الدنيا، فهذه الشرائح فقدت الثقة في المؤسسات الوسيطة التي تؤطرها سياسيا وثقافيا (ومن أبرزها خطاب مشروع العدالة والتنمية) ولهذا انزلقت –بشكل طبيعي- إلى الخطابات "الشعبوية".
هنا تبدو المآلات الحقيقية واضحة والحاجة إلى الوفاء للعمق الاجتماعي ولنبض "التحت" حاجة موضوعية ليس فقط لدى الحزب لكي يصون نعمة "الاستقرار" بل لدى إدارة الدولة لكي تحمي مبرر وجودها الموضوعي.
إن أزمة فقه المآلات المعتمد لدى الحزب هو أنه يستحضر مآلات السخط الذاتي ل"الفوق" ويهمل مآلات السخط الموضوعي ل"التحت". ومن المؤكد أن معيار الاستقرار الذي يشكل خلفية فقه المآلات ينبغي أن يكون محكوما بالسخط الموضوعي ل"التحت" على الأقل بمقدار ارتباطه بالسخط الإرادي ل"الفوق".
للأسف، في هذا السياق السلبي في تاريخ المغرب المعاصر حيث المجهول يلوح في الأفق، صار أكبر همنا أن نحرص على نعمة الاستقرار لا أن نرتقي بمواقعنا في الرهانات الكبرى (رهانات الديمقراطية والتنمية) التي ستعزز بشكل تلقائي منسوب الاستقرار في بلادنا.   



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


...تابع القراءة