| 0 التعليقات ]





يروَجُ لخطاب حزبي رسمي يفيد أن من يتحمل مسؤولية ما آل إليه وضع الحزب هم المواطنون العزل والمناضلون البسطاء والمتطوعون الذين يبذلون بلا أخذ والذين لا يملكون غير أناملهم.. يشير ذات الخطاب إلى أن الحزب يؤتى من إيمان هؤلاء البسطاء بقناعات مبدئية تلقفوها (ويا للمفارقة !)  من روافد الحزب نفسه ذات أيام خلت، كما يحيل ذات الخطاب إلى أن سبب كل المشاكل هو انجرار البسطاء وراء السلبية وتغليبهم للنظرة التشاؤمية. يقترح هذا الخطاب مفتاحا لكل الأدواء القائمة عنوانه: تسلح  بالإيجابية! تفاءل فقط !
مشكلة هذا الخطاب هو أنه ينطوي على فرضية مرجوحة مفادها أن "الإيجابية" و"السلبية" مسائل إرادية وذاتية واختيارية، بمجرد الحسم في القرار المرغوب فيه، يمكن الانتقال إلى الحالة النفسية البديلة والرؤية الإدراكية الجديدة. والحال أن "الإيجابية" و"السلبية" مسائل موضوعية إلى حد كبير، طبعا قد يلعب الوعي الذاتي جزءا في تعديل منسوبهما ولكن حجم الحقائق الموضوعية لا يمكنه إلا أن يرجح الكفة التي يميل إليها.
كيف يمكن لمنتم للشريحة الدنيا من شرائح الطبقات الوسطى أن يكون "إيجابيا"، والحال أن دخله السنوي بقي قارا منذ 10 سنوات في حين أن معدل التضخم السنوي (المعدل العام لارتفاع الأسعار) لا يفارق 2%، مما يعني أنه قد فقد قرابة %20 من القدرة الشرائية لمدخوله، ما جعله مسكونا بتهديد النزول إلى الطبقات الدنيا لمرافقتها في نمط عيشها ورهاناتها المحدودة باليومي والمعيشي والرتيب.
إن "الإيجابية" على هذا المستوى مسألة موضوعية أكبر من الفرد وأكبر حتى من الحكومة.
ماذا بقي للفرد لكي يحتمي به ولكي "يحاول" أن يكون إيجابيا؟ تبقى المسائل الرمزية من قبيل الحرية والكرامة والثقافة والهوية، مادام بإمكان الفرد المطالبة بحقوقه المشروعة بدون الخوف من الاعتقال التعسفي، ومادام باستطاعته التعبير عن آرائه بحرية، ومادام بإمكانه اختيار المسؤولين الذين ينوبون عنه في تنزيل المشاريع والبرامج التي يراها كفيلة بالارتقاء بواقع مجتمعه، ومادام متمتعا بكرامته ومتمكنا من التصالح -في نمط عيشه- مع هويته وكينونته. مادامت هذه العناوين قائمة فهي قد تكون جالبة لجزء من "الإيجابية".
لكن الحال أن السياق الحالي يبرز بوضوح أن إرادة الناخبين يتم الدوس عليها، وأن حرية أصحاب الرأي رهينة بمزاج السلطة، وأن فعل المطالبة بالحقوق قد تكون خاتمته السجن لعقود مديدة، وأن مجرد الدراسة بالمسالك الابتدائية والإعدادية والثانوية قد يكلف أكثر من 70% من الأسر المغربية القاطنة بالعالم القروي والمدن الصغرى -والتي تنتسب عموما إلى الطبقات الدنيا أو الشريحة الدنيا من الطبقات الوسطى- تكاليف إضافية ناتجة عن عدم تمكن الأبناء من استيعاب المواد المدروسة بسبب التفاوت القائم بين لغة المجال الاجتماعي والثقافي ولغة المجال العلمي.
في ظل هذه السياقات، هل بقي ل"الإيجابية" أساس موضوعي؟
قد يتفهم الفرد "غير الإيجابي" ضعف معدل النمو الاقتصادي وانحباسه في دائرة 2% و%3 بسبب عوامل موضوعية غالبة (طبعا دون إهمال الذاتية وخاصة النقط المفقودة بسبب الفساد والبنية الريعية المستمرة وترهل المؤسسات السياسية والاقتصادية). ولكن من غير المفهوم –بالنسبة إليه- أن يتم اقتحام حصن المكاسب الرمزية (استهداف إرادة الناخبين في المسار الذي تلا نتائج اقتراع 7 أكتوبر، اعتقال الصحفيين، اعتقال المطالبين بالإدماج الاجتماعي، استهداف السيادة اللغوية والإجهاز على مسار نضالي عمره 63 سنة... إلخ).
إن المسائل المذكورة التي تشكل الأساس الموضوعي لمناخ "السلبية" السائد غير مرتبطة بشكل كبير بالجهاز التنفيذي "الإسمي" الذي يقوم بالتدبير الإداري العادي. ولكن دور الحزب المعبر عن طبقات اجتماعية تحتية –القائد للحكومة- لا يجوز أن يتمركز في لعب دور شاهد الزور عبر إشاعة خطاب يختزل المشاكل في ترويج مناضلين متطوعين بسطاء ل"السلبية"، والحال أن الواقع الموضوعي يقوم يوما بعد يوم بإلحاق شرائح من الطبقات الوسطى للتضامن مع الطبقات الدنيا على صعيد الإيمان ب"التشاؤم".  



0 التعليقات

إرسال تعليق