| 0 التعليقات ]





مشكلة الحزب السياسي – أي حزب – أنه ينطوي في جيناته على تناقض بنيوي موضوعي؛ فهو من جهة يعبر عن تطلعات طبقات اجتماعية معينة، وهو من جهة أخرى يحمل مشروع دولة جنينية. بدون الوفاء لعمقه الاجتماعي لا يمكن له أن يصل إلى تسيير الدولة (اللهم إذا كان أصلا جزءا من الدولة: بمعنى أنه ينتسب لأحزاب الإدارة)، وبدون الحفاظ على شعرة معاوية مع إدارة الدولة القائمة لا يمكن أن تنبسط له الطريق لتحقيق وظيفته الموضوعية التي عرفتها العلوم السياسية وهي الوصول إلى السلطة لمحاولة ترجمة شعاراته ووعوده إلى برامج وإجراءات ملموسة.
تزداد مشكلة الحزب السياسي حدة –بشكل موضوعي- في نسقنا السياسي الموسوم بكون النجاح الانتخابي -الناتج عن الالتحام بهموم الطبقات الاجتماعية المعبر عنها- لا يفضي بالضرورة إلى حيازة السلطة التنفيذية الحقيقية، مما يقلص حظوظ الحزب على مستوى ترجمة الشعارات ودرجة الوفاء لمطامح الطبقات الاجتماعية المعبر عنها. تؤدي هذه الوضعية إلى تآكل تلقائي لشعبية الحزب وإلى خسارته لروافده الاجتماعية الحاضنة لخطابه ومشروعه.
يمكن الانطلاق من هذا المدخل النظري البسيط لقراءة المشهد السياسي لبلادنا على مدى 20 سنة الأخيرة على الأقل.
تعد الطبقات الوسطى –بمختلف شرائحها: خاصة المتوسطة والدنيا- العمق الاجتماعي الحقيقي لحزب الاستقلال ثم لحزب الاتحاد الاشتراكي قبل حزب العدالة والتنمية في العشرية الأخيرة.   
تعمل إدارة الدولة – وغالبا ما تكون مضطرة - على استثمار الوجود "الإسمي" لحزب لديه حضور معتبر نسبيا في أوساط الطبقات الوسطى -التي تضمن السلم الاجتماعي وتصون الاستقرار السياسي وتحرك الدينامية الاقتصادية وتساهم في الارتقاء بالنقاش العمومي- على مستوى السلطة التنفيذية لكي تقوم بتقليم أظافره الاجتماعية وتقليص نفوذه الثقافي بغرض تقزيم حجمه السياسي. نجحت في ذلك مع حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي وتنجح في ذلك حاليا –وبشكل يومي- مع حزب العدالة والتنمية.
يتحدث الحزب عن كونه يراعي المآلات في كل قضية يستجيب فيها لإرادة إدارة الدولة ويخذل فيها إرادة من يعبر عنهم. غالبا ما تشير المآلات التي يثار الترهيب منها إلى سخط إدارة الدولة على الحزب. فالانفراد بالتصويت بالرفض بين أحزاب الأغلبية والمعارضة قد يحيل إلى أن الحزب عصي على "التوافق الوطني" الذي ترعاه الدولة.
لندفع باتجاه التفكير في المآلات إلى عتبتها الأخيرة، ماذا بعد سخط إدارة الدولة (التي لا يُتوقع منها أبدا أن تكون راضية)؟ يتحدث دعاة فقه المآلات عن صيانة الاستقرار والأمن الذي يعد أم المكاسب والرأسمال الرمزي والميزة التنافسية لوطننا في محيطه الإقليمي. رغم أن العلاقة بين سخط إدارة الدولة على الحزب وتهديد الاستقرار غير واضحة، لنفترض أن سخط إدارة الدولة على الحزب دفعها إلى إخراجه إلى خارج المؤسسة "التنفيذية" (علما أن إدارة دولتنا ليست "مزاجية" إلى هذا الحد،  فلا بد لها من إيجاد صيغ دستورية ملائمة ولو كانت متمحلة لقراراتها)، ما علاقة التواجد خارج "المؤسسة التنفيذية" بتهديد نعمة الاستقرار؟
النصف الآخر من المشهد الذي يتم تغييبه في نقاش المآلات هو أن تراكم الإحباطات -بسبب أخطاء ذاتية كبيرة وعوامل موضوعية أكبر- والناتج عن تهميش تطلعات العمق الاجتماعي التحتي والتماهي مع منطق الإدارة الفوقية؛ أدى ومازال يؤدي إلى استمرار نزيف فقدان الثقة في المؤسسات الرسمية والمؤسسة الحزبية الوسيطة.
في هذه الوضعية، سيصبح الحزب عديم التأثير في أي احتقان اجتماعي محتمل (بسبب تراكم الإحباطات) لأنه فقد المصداقية. وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم حالة الياس السائدة ونفسية الكفر بالوطن الشائعة باعتبارها خطابا انتقل إلى شرائح من الطبقات الوسطى بعدما كان خاصا بالطبقات الدنيا، فهذه الشرائح فقدت الثقة في المؤسسات الوسيطة التي تؤطرها سياسيا وثقافيا (ومن أبرزها خطاب مشروع العدالة والتنمية) ولهذا انزلقت –بشكل طبيعي- إلى الخطابات "الشعبوية".
هنا تبدو المآلات الحقيقية واضحة والحاجة إلى الوفاء للعمق الاجتماعي ولنبض "التحت" حاجة موضوعية ليس فقط لدى الحزب لكي يصون نعمة "الاستقرار" بل لدى إدارة الدولة لكي تحمي مبرر وجودها الموضوعي.
إن أزمة فقه المآلات المعتمد لدى الحزب هو أنه يستحضر مآلات السخط الذاتي ل"الفوق" ويهمل مآلات السخط الموضوعي ل"التحت". ومن المؤكد أن معيار الاستقرار الذي يشكل خلفية فقه المآلات ينبغي أن يكون محكوما بالسخط الموضوعي ل"التحت" على الأقل بمقدار ارتباطه بالسخط الإرادي ل"الفوق".
للأسف، في هذا السياق السلبي في تاريخ المغرب المعاصر حيث المجهول يلوح في الأفق، صار أكبر همنا أن نحرص على نعمة الاستقرار لا أن نرتقي بمواقعنا في الرهانات الكبرى (رهانات الديمقراطية والتنمية) التي ستعزز بشكل تلقائي منسوب الاستقرار في بلادنا.   



0 التعليقات

إرسال تعليق