| 0 التعليقات ]



إذا كان السياق التاريخي الذي شهدته البشرية لقرون طويلة قد أفرز تقاطبا حادا حول "العقائد"، أدى إلى اندلاع حروب وصراعات دامية خلفت مآسي كبيرة؛ فإن العالم الحديث والمعاصر أثبت أن الناس لا يمكن لهم أن يتصارعوا إلا إذا اشتبكت "مصالحهم" وما العقائد إلا حصون يحتمون بها للتمويه والمغالطة أو لشحذ همم الأنصار.
كان التقابل قائما لفترة ليست بالقصيرة بين "الأسطورة" (=عقيدة وضعية) بما تحيل عليه من صياغة معتقدات تضم خرافات تدور حول الآلهة والموت والحياة ... إلخ، و"التوحيد" (=عقيدة ربانية) بما يعني من إيمان بأن هناك إلها واحدا يرسل أنبياء ورسلا ويختبر الناس في الدنيا أيهم أحسن عملا ليحاسبهم في الدار الآخرة.  
كانت "العقيدة" بما هي نظام فكري، أي في الذهن، صورة لما ينبغي أن يكون عليه الواقع. لهذا كان الأنبياء يركزون على ترسيخ عقيدة "التوحيد" مُوقنين بأن السلوك ثمرة تابعة لما يجول في الذهن والخاطر.
لهذا كان الصراع محتدما حول مجال "العقيدة"؛ لأنَ من يحوز السلطة على هذا المجال صار قاب قوسين أو أدنى من حيازة السلطة المادية (=السياسية والاقتصادية بالدرجة الأولى). وفي هذا الإطار نفهم الحرب الضروس التي واجه بها حراس "المعبد القديم" الأنبياء والرسل دعاة العقيدة الجديدة. وهنا تبدو لنا "الدعوة" إلى تبني "العقيدة" عملا رائجا وقويا.
إن العقيدة أمر هائل عند الله -سبحانه- وأمر هائل في حساب هذا الكون، وقدر الله الذي يصرفه، وأمر هائل في تاريخ "الإنسان" وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك .. والمنهج الذي تشرعه العقيدة يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها. وأمر له هذه الخطورة عند الله، وفي حساب الكون، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ "الإنسان" .. يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصرامته وحسمه. ولا ينبغي ان يؤخذ في رخاوة، ولا في تميع، ولا في ترخص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلا عن أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص، او من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر. (1)
إذا تأملنا في المناخ السائد في العالم المعاصر سننتبه حتما إلى أن هناك تقابلات جديدة: من جهة أولى؛ بين عقائد سماوية تعرضت ل"لأسطرة" بدورها سواء في النص المقدس (اليهودية والمسيحية) أو في تفسيراته وتأويلاته (الإسلام)، ونزعة التجديد في "عقيدة" التوحيد التي تسعى لنفض الغبار عن رواسب "الأسطرة" التي لحقت صفاء العقيدة مع مرور السنين. من جهة ثانية؛ بين العقائد السماوية والوضعية (التوحيدية والأسطورية)، وبين العقل وما ينتجه من علم دنيوي مادي (=مدرسة الحداثة بكل ألوانها). من جهة ثالثة؛ بين المؤمنين بالعقل (سواء من داخل الدين أو من خارجه)، والشاردين عنه (=دعاة ما بعد الحداثة).
طبعا، يتفاعل المسلمون مع كل هذه التقابلات الجديدة بأقدار متفاوتة. ولا شك أن التقابل الأول مازال مسرحا لتنازع "الدعوات"؛ إذ مازالت الكنائس حول العالم تنفق الأموال الطائلة على المبشرين للنهوض بأعباء "الدعوة" و"التبشير" في مختلف أنحاء العالم وخاصة في أدغال إفريقيا. ومازال الكيان الصهيوني يتظاهر بدعم الخطوط اليهودية التي تتلاءم مع أفقه السياسي. ومازالت الدولة السعودية تدعم بكل ثقلها المادي والمعنوي الخط الوهابي وتأويلات وقراءاته للنص الديني وتحارب كل من يقدم ويدعو إلى قراءة أخرى خارج النسق الوهابي (سواء قراءة مدارس الصوفية، أو قراءة مدرسة الإخوان المسلمين). ومازالت الدولة المغربية تقف إلى جانب الطرق الصوفية وتروج لنموذج التدين الذي تقدمه هذه الأخيرة للناس.
أما دعوة "التجديد" العميق الذي ينشد استرداد الصفاء المفقود في "العقيدة" (=دين الفطرة) فمازال التضييق الشديد ضدها ساريا ومن كل الجهات، ومازالت منحصرة في جهود فردية قليلة ومُحاصرة في مجلات ومشاريع فكرية نخبوية. ولعل محاولة احتواء جزء منها مؤخرا من طرف دولة الإمارات العربية وبعض دوائر النفوذ العالمية بغرض تصفية الحسابات مع دعوة مدرسة الإخوان المسلمين أفقدها بريقها ومصداقيتها.
 أما التقابل الثاني فقد تم إحياء الصراع فيه في المجال التداولي الإسلامي في العقود الأخيرة بصيغ مختلفة مع جيل من المفكرين المنتسبين إلى المدرسة الإسلامية التجديدية (بيغوفتش، المسيري، الحاج حمد، العلواني، راجي الفاروقي ... إلخ). أما التقابل الثالث، وهو الأخطر، لأنه يهم مصير الجميع؛ فمازال الالتفات إلى أهمية الانحياز إلى العقل منحسرا ومتأثرا بآثار التقابل الثاني.
يبدو أن واجب الوقت هو الانحياز إلى خط التجديد لاستعادة صفاء العقيدة المفقود في مسائل الغيب (=دين الفطرة) حيث الإيمان الناصع بالله جل في علاه وباليوم الآخر وتبعاته وبالأنبياء وأفضالهم. إلى جانب التحيز للعقل والعقلانية في الدنيا ورفض دعوات العبث واللامعنى في التعاطي مع مسائل عالم الشهادة. إنها "الدعوة"  التي تستحق منا بذل الجهود الواسعة فكريا لتعميقها وعمليا لإشاعتها!
لنعد ترتيب مشهد "الدعوة" كما هو كائن عبر التاريخ، وعلى ضوء ما يعترضه من تحديات في السياق المعاصر:
1)  ما هي الدعوة وما مضمون "الدعوات" عبر التاريخ؟ الدعوة تتجه إلى نشر عقيدة لا إلى تصحيح سلوك، لأن سلوك الإنسان كان إلى حد ما ثمرة لما يعتمل في ذهنه من نظام فكري ومنظومة قيم.
2)  أهم تحد يقف حاليا أمام "الدعوات" بشكل عام هو شرود سلوك الإنسان المعاصر عن عقيدته، بمعنى أن "المصلحة" هي ما يحركه فأينما ولت المصالح الذاتية يولي الإنسان وجهه ولو كان ذلك على حساب العقائد.
3)  ما هو المضمون المطلوب في "الدعوة" في السياق الحالي؟  الدعوة المطلوبة في الوضع الراهن في مجالنا التداولي هي التي تتجه إلى تثبيت الإيمان بالله جل في علاه واليوم الآخر في مسائل الغيب علاوة على الاتصال بالعقلانية في مسائل عالم الشهادة والدنيا.
4)  كيف ندعو؟ لا بد من تعميق النظر أولا في التصور الجديد تأملا وكتابة وبحثا. ولا يمكن إشاعته إلا بالآليات المعروفة: الكتب، المجلات، المقررات، المحاضرات أي باختصار مختلف وسائل التعليم والإعلام.

قد يقول قائل: إن العقيدة "ربانية" المصدر فلماذا نبحث عن تصور جديد لها. المسألة هنا هي أن صياغة تصورات (=فهوم) عن مضامين "العقيدة" (بما هي نظام فكري ومنظومة قيم موضوعة على المستوى الذهني) أمر موكول للإنسان حسب السقف المعرفي في الزمان والمكان. طبعا هذه المضامين هي "ربانية" (قرآنية) ولكن صياغتها في لغة بشرية متاح للإنسان فقط. وللإشارة فكلمة "العقيدة" غير واردة في النصوص الشرعية، وقد ترد بصيغة الفعل في بعض الأحاديث.


(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، الطبعة الشرعية التاسعة، ص: 1370)

0 التعليقات

إرسال تعليق