أكرمني المولى جل و
علا بزيارة كريمة من طرف جدتي –والدة والدي:أطال الله عمرها- لمسكني بالعاصمة. هي امرأة شابت و
شارفت الثمانين. قضيتُ معها كل طفولتي و فُتُوتي. تربطني معها علاقة خاصة؛ إذ يطلق
علي العارفون بطبيعة تلك العلاقة "إويس نجداس" (ابن جدته) !
هذا الكلام، حتى لا
يكون حشوا، وطأنا به لحديث طريف لجدتي: عميق في دلالاته الفكرية؛ وددتُ أن أشتركها
مع القارئ.
فوجئت جدتي بكون
الغرفة التي أستقر بها "جذابة"
و "مغرية" بالنسبة للنفايات و الأزبال. يمكن أن تنظفها، لكن بعد
برهة و بعد تحرك يسير: يعود "التلوث" لسطح أرضها. و للإشارة، فسطح أرض
الغرفة معد ب"الزليج" المُشع.
أعتذر مسبقا للقارئ
على فقر معجمي الخاص بعالم "العقار" و آليات "البناء" و
معداته.. و نظرا لذلك سأستدعي لغتي الأم لتسعفني في إيصال فكرتي.
القصة لا تنتهي هنا.
بل إن مدار مقالي يكمن في الآتي: تتحدث جدتي لقريبة لي لا تقل عنها طعنا في السن
عن حال غرفتي. فتقول بسأم: "الزليج" الذي يكسو سطح غرفته قابل بشكل متعب
لجمع الأزبال. و ما على المرء إلا أن يجعل بجانبه المكنسة باستمرار.
اسمعوا يا سادة ! ماذا تقترح جدتي لكي لا يكون سطح الغرفة
مأوى جاذبا للأزبال ! إنها تتمنى –لأن حدسها يدرك أن
مقترحها يندرج ضمن الأماني و لا أثر له في الواقع- لو تم "تبليط" الغرفة
بما نطلق عليه بالأمازيغية (البُوصلان) !
تخيلوا فحوى اقتراح
جدتي: إنها تحن ل"سطح"؛ الأرجح أنه كان يُدثر باحات منزلنا في النصف
الأول من السبعينات بعدما نزحت الأسرة من القرية إلى مدينة تيزنيت. و أكيد أن سطح
المنزل الذي استقرت فيه من الثمانينات إلى اليوم؛ انتقل من الاكتساء ب(لاموزيك)
إلى (الزليج) و لا مكان فيه ل(البوصلان).
أُقدر أن الرسائل
الثاوية وراء قصة جدتي و حديثها عميقة جدا. هي تؤشر بجلاء إلى أزمة الفكر
التقليدي.
إنه النظر إلى مشكلة
مستحدثة أفرزتها الحياة الحديثة بعيون قروسطوية. إنه الغرق في الماضي و الاستنجاد
الدائم به لحل مشكلات الحاضر.
إن التاريخ يسير و لا
ينتظر و سننه لا تحابي و لا ترحم !
الإنسان راكم تجربة
مهمة في تحسين شروط عيشه و تجويد الراحة التي يوفرها مسكنه؛ انتقل، بعد بذل جهد
جهيد، من (البوصلان) إلى (لاموزيك) إلى (الزليج) إلى (الرخام).. و لا عودة – على
الأقل: على المستوى النفسي و التفضيلي- من الزليج أو الرخام إلى (البوصلان) في
عالم "العقار و البناء".. و إذا حصل أن أفرز هذا التطور آثارا جانبية
سلبية؛ فلا ينبغي أن نستسلم لها، نعم، و لكن.. ينبغي أن نلتمس حلا لها انطلاقا من
المعطيات الموجودة و الآليات الجديدة و الوسائل الحديثة..
هذه الفكرة كفيلة
بتحرير العقل المسلم اليوم من مجموعة من المشاهد "المخدوشة" التي تحرمه
من رؤية سليمة للحياة المعاصرة و الحديثة.
إن المشاكل
الاجتماعية و الأخلاقية التي أفرزتها الحياة العصرية هي واقع لكن حلها أو التماس
حلول لها لا يكون بالتمني و الحنين إلى مجتمع الماضي لأنه ببساطة الشروط الموضوعية
تغيرت..
مثلا: قضية الزي. لا
ريب أن مجتمعنا يعيش انقلابا على مستوى القيم المؤطرة لسلوك الناس في اختيار
الأزياء التي يشاؤون. و لا شك أن بعض الصادقين و الصادقات ممتعضون من اختيارات
الناس على مستوى الزي و اللباس. لكن الأمر الذي ينبغي وعيه بجدية هو إن أي تفكير
في حل مشكلة "انفلات" زي الأجيال الصاعدة لا بد أن يستحضر اللحظة التي
نمر بها و الزمن الذي نعيش فيه و المناخ الذي نتنفس فيه: لحظة ما بعد الحداثة على
المستوى العالمي، زمن الدعاية و الإعلام و الإقناع و مناخ الحرية و حقوق الإنسان..
إن الذي ينطلق حقا من
غيرة حارة على مستقبل الأجيال الصاعدة هو الذي يفكر في الحلول في خضم هذه الشروط و
هذه المناخات. إن زمن الإكراه و توجيه اختيارات الناس بالسلطة الدينية هو زمن
يحتضر !
إن المدخل الجديد
الذي يستثمر المعطيات الموضوعية الجديدة هو الذي ينطلق من فكرة "الحرية"
ذاتها ! إنه الاستماتة في الدفاع عن
حرية الإنسان و درء كل راغب في التحكم و الاستتباع.. إنه الانطلاق في توسيع أمداء
هذه الحرية افقيا و عموديا: حرية الإنسان على الأرض و حريته الحق المتجلية في
التحرر من كل الأوثان و الأهواء و العبوديات و الوصايات ليتوجه بالدينونة و
الإخبات و الخنوع له وحده: جل في علاه.